انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 323/من ذكريات الحرب الماضية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 323/من ذكريات الحرب الماضية

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 09 - 1939


للأستاذ عباس محمود العقاد

كثير على إنسان واحد أن يشهد الحرب العالمية في حياته مرتين، فقد كانت الدنيا كلها لا تشهد حرباً عالمية إلا مرة في كل خمسة قرون أو ستة قرون، وكانت على أوسع ما تتسع له آفاقها تنحصر في دولتين أو ثلاث دول هي كل ما يسمى (العالم) في تلك العصور

أما اليوم فقد شهدنا الحرب العظمى قبل ربع قرن؛ وهانحن أولاء نشهد العالم كله متحفزاً لحرب عالمية أخرى تستغرق كل من على ظهر البسيطة من كبار الشعوب وصغارها ولو لم يشتركوا جميعاً في قتال

ماذا وراء ذلك؟ خير أو شر؟ ونجاة أو هلاك؟ وخطوة إلى حضارة أعلى أو نكوص إلى همجية الكهوف؟

بشر ولا تنفر!

وعلى هذه السنة نقول: إن تتابع الحروب العالمية دليل على وجود المشكلة العالمية بعد أن لم يكن لهذه المشكلة وجود، وبعد أن لم يكن للعالم نفسه شعور بوجوده مستقلاً عن عصبيات الدول والأوطان

ومتى ظهرت المشكلة فتلك بداية الحل، ومتى تفاقم الخطر فتلك علامة النهاية

أي نهاية؟

نهاية الخطر أو نهاية العالم؟ بل نهاية الخطر إن شاء الله

وذكريات الحرب الماضية تفوق الحصر والإحاطة، فهي أربع سنوات لم ينقض يوم واحد منها على غير تجربة جديدة من تجارب الفكر أو من تجارب المعيشة أو من تجارب الحياة

تاريخ أربعة آلاف سنة مجتمع في أربع سنوات، لأن الحرب العظمى قد عرضت على الناس في مدى سنواتها الأربع كل ما عرفه بنو الإنسان من خبرة السياسة وأطوار التاريخ، وقد أرتهم مصائر ملوك ودولات لم يرها الأقدمون إلا من قراءة الأسفار الطوال، وهي قبس صغير مما يراه الناظر رؤية العيان

لكنني أقتصر في هذا المقال على ذكريات تمس الأدب والصحافة لأنني أكتبه في صحيفة أديبة، وفي استذكاره على ما أرجو عبرة للمع كانت الرقابة شديدة على كل ما يطبع ولاسيما الصحف السياسية. وكنا نحن الذين ننشر في الصحف بعض المقالات أو القصائد من حين إلى حين نعرف مبلغ تلك الرقابة، ونسمي (الرقيب) بالمكتوبجي تشبيهاً له بالرقباء على الصحافة في تركيا العتيقة، أيام السلطان عبد الحميد

كان المكتوبجي التركي يلمح كلمة (المراد) فيحذفها مخافة أن يكون الكاتب مشيراً بها إلى حبس السلطان مراد

وكان يلمح كلمة (الرشاد) فيحذفها مخافة أن يكون المقصود بها ولي العهد محمد رشاد

وكانت تأتي الأنباء بقتل عظيم من العظماء فتعلم الدنيا كلها جلية النبأ إلا قراء الصحافة التركية فيهم لا يعلمون إلا أنه قد مات بالحمى أو مات بالسكتة القلبية. . . وقس على ذلك سائر الأنباء

وعلى هذا النحو - أو على قريب من هذا النحو - سار بعض الرقباء في قلم المطبوعات الموكول إليه أن يراجع الصحف قبل نشرها، وأن يحذف منها ما يثير الخواطر ولا راد لقضائه، فكانوا يندسون بين السطور بل يندسون في ألفاف مخ الكاتب حتى لا يقع في خلده أنه قد غلبهم بالدهاء وقد (فوت) عليهم كناية من الكنايات، وهم الأذكياء الألباء!

ويحضرني من نوادرهم أنهم حرموا علي ذكر الاستقلال في قصيدة شعرية فغلبوا القائد العام لدولة الحماية! لأنه لم ينكر استقلال مصر عند إعلان الحماية عليها، بل وعد برعايته والمحافظة عليه

أرسلت إلى (الأهرام) قصيدة في وصف (هيكل أدفو) ختمتها بالأبيات الآتية وتبدو فيها أخيلة الحرب وأطيافها:

الناس يغتال القوي ضعيفهم ... ولدهر يغتال الفتى المغتالا

قهار كل القاهرين تقاصرت ... عنه مكائد من طغى واحتالا

ذهبوا فما هوت الكواكب بعدهم ... أسفاً وما نقص الثرى مثقالا

ملكَ الفراعنةُ الحماةُ وخلفوا ... للملك أعلاماً بمصر طوالا

وخلا الأكاسرة البغاة كأنهم ... عبروا بمدرجة الزمان رمالا

ومضى البطالسة الكماة وهذه ... مصر يزيد شبابها إقبالا تتقوض الأوطان وهي كدأبها ... من عهد نوح تربة ورجالا

عهد على الله القدير وذمة ... ألا تضيم لها الكوارث آلا

فتجنبوا فيها القنوط واجزلوا ... قسط البنين معارفاً وخصالا

إنا لنرجوها ونوقن أنه ... ما كان يوماً لا يكون محالا

وستستقل فلا تقولوا إنها ... صمد الهوان بها فلا استقلالا

فظهرت القصيدة وليس فيها البيت الأخير، وسألت عنه أين ذهب؟ فقال لي رئيس التحرير ضاحكاً: في بطن المكتوبجي هذه المرة لا في بطن الشاعر! أيهمك أن تذهب إلى حيث ذهب هذا البيت العزيز من القصيدة؟!

وشاءت المقادير أن أعمل في قلم المطبوعات، لأنني خلوت من العمل واحتجت إلى الإقامة بالعاصمة بضعة أشهر في جو رفيق وفي عمل يناسب ما كنت أعانيه من السقم

فلم أشأ أن أكون (مكتوبجياً) وأنا أعلم نصيب المكتوبجي من السخرية في مجالس الأدباء والصحفيين

فلم يمض أسبوع واحد حتى دعاني مستر (هورنبلور) مدير المطبوعات إليه في مكتبه، وكان رجلاً متحذلقاً يدعي المعرفة بجميع الأشياء وفي مقدمتها اللغة العربية الفصحى التي لا يحسن نطقها، وبدهني قائلاً:

- إذا لم يكن عطفك معنا فلماذا تعمل في هذه الوظيفة؟

قلت: إنني لا فهم ما تعنيه

قال: إنك لا تتوخى الدقة في مراجعة الصحف. وأراني أخباراً تركتها في بعض الصحف وكان من حقها أن تحذف محافظة على (أمن الخواطر)

قلت: إنني لا أجد في هذه الأخبار ما يمتنع نشره بين المصريين، وإني أقرأ في الصحف الإنجليزية نفسها ما هو أهم من هذه الأخبار. فلماذا ينبغي أن يجهل المصريون ما يعلمه الإنجليز وهم محاربون؟!

والواقع أننا كنا نقرأ الصحف الإنجليزية يومئذ فنطلع فيها على أخطر الأخبار وأعنف اللهجات في انتقاد تقصير الحكومة. وكانت هذه الصحف كثيرة الانتشار في مصر لانتشار الضباط والجنود الإنجليز فيها، فإذا وصل بها البريد بعد تقطع وروده فترة من الزمن علمنا منها ما لا سبيل إلى العلم به من غيرها، وعجبنا لشدة الحجر على الصحف المصرية بالقياس إلى تلك الحرية البالغة وتلك الصراحة الجريئة

فما ذكرت الصحف الإنجليزية للمستر (هورنبلور) نظر إلي طويلاً ثم قال: هل أنت من الحزب الوطني؟

قلت: كلا. ولكني من المصريين

قال: حسن. نحن لا نتفق، وأومأ إلي بالتحية. . . وانصرفت وأنا بريء من المكتوبجية وخلو من العمل في عالم الحرب الذي لا متسع فيه لصناعة الأدب ولا لصناعة الصحافة!

إلا أن الرقابة بغير غرض أهون كثيراً من رقابة يفرضها على الصحف رجل ينطوي على غرض خفي لا علاقة له بواجب الوظيفة

فقد كان من الرقباء من يطمع في المكافأة، وكان منهم من يتعمد حذف الأخبار من بعض الصحف لكي تنفرد بنشرها صحيفة أخرى بينه وبين أصحابها لحمة قرابة أو مصاهرة

وقى الله الصحافة المصرية شر الرقابة (بغرض) والرقابة المنزهة عن الأغراض على السواء!

عباس محمود العقاد