مجلة الرسالة/العدد 322/في سبيل الإصلاح
مجلة الرسالة/العدد 322/في سبيل الإصلاح
علماؤنا والإصلاح
للأستاذ علي الطنطاوي
لعل في القراء من يذكر السؤال الذي وجهته منذ أسابيع إلى المفكرين من علمائنا وعرضت فيه إلى بعض المشكلات الدينية وسألتهم حكم الله فيها، حكم الله لا يخالف مصلحة الناس، ولا ينافي حاجة العصر. وقد مرت هذه الأسابيع ولم أتلق من أحد جواباً، ولم أحد فيمن لقيت من علمائنا في هذه المدة إلا أحد رجلين: رجل لم يقرأ السؤال، ولم يدر بأن في الدنيا مجلة اسمها الرسالة، ولم يدخل بيته إلى اليوم كتاب واحد أو مجلة أو رسالة صغيرة مما تفيض به المطابع كل يوم، لأن نذلك كله لغو لا يليق بالعالم أن يلقي إليه بالاً أو يقف عنده أو يعرج عليه، وفي كتب الفقه والأصول والحديث الكفاية، وإن كانت العناية بالحديث والتفسير - أعني بالكتاب والسنة - لمجرد التبرك والاطلاع، ولا للاستنباط والاجتهاد، لأن الاجتهاد سد بابه والفقهاء لم يتركوا شيئاً إلا قالوه، وإن هو احتاج بعد ذلك إلى شيء من الأدب فحسبه المستطرف، والكشكول، والمخلاة، ومسامرات الشيخ محي الدين بن عربي مؤلف الفصوص الذي تجد الكلام على دينه وتقواه في الصفحة 159 من كتاب الإسلام الصحيح للنشاشيبي
ورجل آخر، حملت إليه الرسالة، فقرأ السؤال فكان جوابه عليه لعنة حامية على هؤلاء الملحدين الذي يحلون ما حرم الله، ويدعون إلى الربا الذي نهى عنه الله، وكان له مادة لإعلان غيرته على الدين، وتثبيت منزلته بين العامة. . .
على حين إن المشاكل الدينية من نحو مشكلة الربا قائمة، والناس يتعاملون بألوان من الربا منها الربا الفاحش البين، ومنها الربا الخفيف أو ما يشبه الربا، ولا تجد تاجراً (أعني تجار الجملة لا البقالين) يستغني عن مثل معاملات الحسم (السقونطو) أو عن الاتصال بالمصارف على نحو ما. . . فإذا كان هذا كله من الربا المحرم الممنوع شرعاً، وكان هذا كله مما لا يستغني عنه كانت النتيجة (المنطقية) أن الإسلام لا يصلح لهذا الزمان. . . وهذا محال، فلم يبق إلا إبطال إحدى المقدمتين، فإما أن يقال بالاستغناء عن معاملات المصرف، وإما أن يقال بأن هذه الأحكام الفقهية ليست هي كل الشريعة، وأن من الممكن استنباط أحكام أخرى شرعية تصلح لهذا الزمان. وإذا نحن نظرنا في تاريخ التشريع الإسلامي وتاريخ الفقه نجد أن المجتهدين لبثوا متوافرين في كل عصر، لم يخل منهم زمان، وإن كان منهم من هو (مجتهد في المذهب) على حد تعبيرهم، ولبث ذلك إلى القرن التاسع حيث غلب الأتراك على البلدان العربية وضعفت العناية باللغة العربية، واستغلقت على القوم آيات الكتاب البينات، وخفي عنهم ما وضح للعلماء الأولين من السنة، فأعلنوا سد باب الاجتهاد!! على أن هذا العصر أيضاً لم يعدم جماعة من أهل الترجيح والتخريج، وهم أنصاف مجتهدين (إن صح التعبير). ونشأ عن وقوف الاجتهاد وسير الدنيا (بل سعيها سعياً) أن كان في الفقه اليوم أحكام تخالف ما يراه الناس صالحاً لزمانهم، مع أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، لا شك في ذلك أبداً فكيف يكون التوفيق بين الأصل الثابت وبين هذه النتيجة؟
يستطيع العلماء أن يفتوا بأن هذه المعاملات (المصرفية) كلها ربا، وأن الربا كله حرام، ولكن التجار يستطيعون أيضاً أن يثابروا على التعامل بها، والإقامة عليها، وتبقى المشكلة بل تزداد إشكالاً.
فالإصلاح إذن لا يكون بالإصرار على هذه الحواشي الفقهية والدفاع عنها، بل بالبحث عن أدلتها، فما كان منها قطعياً ثابتاً بدليل من الكتاب أو السنة الصحيحة، فهو الذي لا سبيل إلى تبديله، وما كان منها مبنياً على عرف أو دليل فيه احتمال، وكان إلى تعديله سبيل من الشرع عدل
وهذه المسألة على وضوحها تحملنا جهداً، وتكلفنا عناء، لأن من العلماء من لا يريد أن يفهمها، ولا يقدر أو لا يحب أن يفرق بين قول الفقيه واجتهاده وبين النص - ومن يحسب الخروج على المذاهب الأربعة خروجاً على الدين، وأكثرهم لا يبالي بعد ذلك هل سارت الحياة شرقاً أم اتجهت غرباً. . .
ولم يبق أحد جاهلاً بأن المدنية الأوربية قد طغت علينا، وأننا انغمسنا فيها واقتبسنا منها فبدلت حياتنا تبديلاً، وغيرت طرائق معيشتنا في دورنا ومدارسنا وأسواقنا، فأصبحنا أقرب في طراز حياتنا إلى أهل باريس اليوم منا إلى أهل دمشق والقاهرة في القرن التاسع الهجري، واصبح من المستحيل علينا العمل بأحكام استنبطها المجتهدون لأهل القاهرة ودمشق في القرن التاسع. وإذا نحن وقفنا عند هذه الأحكام والحياة تمشي أصبح بيننا وبين الدين مسافة هائلة لا يمكن قطعها، وأهملنا أكبر مزية لديننا وهو أنه دين البشرية الراقية في كل عصورها، وعطلنا أصلاً مهماً من أصول ديننا وهو الإجماع، مع أن الوصول إلى الإجماع في هذا الزمان أسهل منه في كل زمان مضى لسهولة المواصلات وسرعتها، فلماذا لا ننظم مسألة الإجماع؟
الإجماع هو اتفاق المجتهدين في عصر من العصور على حكم من الأحكام، فلا يمكن تنظيمه إلا بتعيين المجتهدين، والاتفاق على الشروط التي يجب اجتماعها في العالم حتى يعد مجتهداً
وأنا أرى أنه لا مانع من الشرع ولا من الطبع يمنع من إحداث تشكيلات للعلماء، ودرجات وسمات لهم معروفة، حتى لا يختلط الأمر، ويستفتي الناس مفتين جهالاً فيضلوا ويضلوا. ولقد خطونا الخطوة الأولى من عهد بعيد حين جعلنا في كل بلد مفتين رسميين لهم مرجع أعلى، هو شيخ الإسلام، ولكن نسينا أن العالم لا يسمى مفتياً إلا إذا كان مجتهداً، وليس كل من عرف الدر وحواشيه والفتاوى الهندية يصح أن يتصدر للإفتاء. إذا وسعنا هذه الدائرة، وجعلنا للعلماء درجات متعددة تخلصنا من هذه الفوضى العجيبة التي نراها اليوم حين اصبح كل صاحب عمة قد كورها وجبة قد وسعها من العلماء، وحين رأينا في جمعيات العلماء أناساً لا يمتازون من العامة إلا بالزي. وليت شعري لماذا يكون لكل فرع من فروع العلم درجات وشهادات، فلا يستطيع أن يدعي الطب أو يمارس المحاماة إلا من حصل شهاداتها ودرس علومها، ويبقى أمر الدين مهملاً يدعيه كل ذي لحية طويلة؟ إن الطبيب إذا أخطأ قتل نفساً، ولكن العالم الديني إذا أخطأ قتل أمة، وأذهب عليها دينها ودنياها. . .
إذا وضع قانون الدرجات العلمية عرف به العلماء الذي بلغوا درجة الاجتهاد - فدعوا من كافة الأقطار الإسلامية - وعرضت عليهم هذه المشكلات وسئلوا حكم الله فيها، فإن اتفقوا على أمر عد مجمعاً عليه وصار من الأصول الثابتة، وإن اختلفوا استؤنس برأي الأكثر منهم، هذا إذا لم يكن في المسألة دليل شرعي، أما إذا وجد فالحكم حيث يوجد الدليل
وربما أنكر منكر هذا الاقتراح ورآه حدثاً في الدين، وتقليداً للنصارى في درجات قسوسهم، وأنا أرد سلفاً بأن هذا التنظيم من قبيل جمع القرآن، وتدوين العلوم، لم يرد ما يمنعه، والمصلحة تقتضيه، وليس من شك بعد بأن (هذا) الإجماع أقوى وأظهر من كل إجماع إلا إجماع الصحابة. لأن استقراء المجتهدين وجمعهم والوقوف على رأيهم أهون في هذا العصر منه في العصور الأولى
أما المسائل التي تعد أساس الإصلاح الديني وركنه، فقد لخصها أستاذنا المغربي في (البينات) في مقالة له نشرها منذ ثلاثين سنة، وأنا أنقلها عنه بتصرف فيها:
1 - وضع مناهج المدارس الدينية على شكل يعد الطلاب للاجتهاد ويهيئ لهم أسبابه
2 - إصلاح أساليب الكتب القديمة وعرضها بشكل جديد، وقد بدأ بذلك الأستاذ محيي الدين عبد الحميد من أساتذة الأزهر فأصلح بعض كتب النحو، ولكن بمقياس ضيق
3 - أن يكون ادعاء العلم، واتخاذ زيه بإذن من لجنة علمية خاصة، وبعد ثبوت أهلية الطالب وكفايته
4 - أن يكون الاجتهاد إجماعياً لا فردياً، لئلا يكون للخلاف مجال
5 - ألا نلزم أقوال إما بعينه، وإنما نأخذ من كل مذهب ما يوافق العصر، وأقول: إن ذلك لا بأس به في العبادات. أما المعاملات فلابد من وضع قانون لها مقتبس من الدين يختار فيه قول واحد ويوقف عنده ليكون العمل به
6 - أن نبتعد عن البدع والأحداث وأن نقف عند الكتاب والسنة
7 - تمييز العقائد الثابتة من التقاليد الموروثة، فلا ندخل في باب العقائد إلا ما كلفنا الله به، ولا نكفر مؤمناً إلا إذا أنكر عقيدة ثابتة
8 - أن يكون تصحيح الحديث اعتماداً على متنه وسنده، لا على صحة سنده فقط، فإن خالف متنه أصول الدين أو المشاهد المحسوس رد مهما كان سنده، لأن النبي ﷺ لا يقول مثله
9 - أن يعمد في العقائد والعبادات والشعائر ظاهر النص وان يكون القياس في المعاملات وما يتعلق بالقضاء ويختلف باختلاف الزمان والمكان
10 - أن نرفع من شأن العمل قليلاً، فلا نزعم أن المسلم ينجو بمجرد أقوال يرددها، بل نقرر أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وعمل الأعمال التي حث عليها الإسلام، وتخلق بالأخلاق التي أمر بها 11 - وأن نرفع من شأن الأسباب قليلاً، ونعتبرها مظاهر لإرادة الله وقدرته، فلا نهملها إلى حد أن نقول أن السم لا دخل له في موت من تناوله فمات به، ولكنه مات لأن ذلك مقدر عليه
12 - ألا يبحث الفقهاء فيما ليس من شأنهم، وإنما يدعون كل أمر إلى أهله ويرجعون فيه إلى أربابه. فإذا كان البحث عن اختلاف مطالع الهلال مثلاً لم يرجع إلى قول ابن عباس ولكن إلى قول الفلكيين الفنيين، وفي الطب يرجع إلى أطباء العصر لا إلى داود الأنطاكي ومن روى عنه
عندنا اليوم مشكلات كثيرة كمشكلة الربا والطلاق وثبوت الهلال والسفور، وعندنا الاختلاف على التوسل بالصالحين، ورفع القباب، وعبادة القبور، وكرامات الأولياء، وكل ذلك لا يحل إلا بهذا المؤتمر الإسلامي أو هذا (الإجماع) المنظم، لأن كل فرد من العلماء يؤثر السلامة، فلا يجب أن يجابه الناس بما لا يألفون فيخسر منزلته فيهم ولا يجد الجرأة على ذلك
فهل يتلطف بعض من له صلة بشيخ الإسلام الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي فيحمل إليه هذه المقالة؟ وهل يتفضل إذا حملت إليه فينظر فيها ويولي هذه المسألة شيئاً من عنايته؟
علي الطنطاوي