انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 320/الجبر والاختيار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 320/الجبر والاختيار

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 08 - 1939



في كتاب الفصول والغايات

(مهداة إلى الأستاذ محمود حسن زناتي)

للأديب السيد محمد العزاوي

- 3 -

(. . . وقول الحق أمثل من السكون، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا منقطعة، وخبر الميت غير جلي إلا أنه قد لقي ما حذر، فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح. . .)

ومن مظاهر هذا التفكير ما انتهى إليه من نظرته في الجبر.

وأول ما يمكن أن نصادفه من هذا التفكير مشكلة خلق الأعمال ومشكلة التكليف وأمر البعث. فإن المسألتين الأخيرتين نتيجتان مباشرتان لمشكلة خلق الأعمال تتأثران بها سلباً وإيجاباً. فإذا ما أثبت للإنسان خلق الأعمال صحت إذن تعاليم الأديان بشأن القيامة والحساب، وإذا أثبت ذلك لله سقط التكليف عن البشر وانهدمت في رأي العقل والعدل فكرة الحساب والعقاب. ويبدو أن هذا ما يميل إليه أبو العلاء، وإن لم يصرح به تصريحاً. وهو كما نعلم قد أسلم قيادة للعقل، وعقله أدان بالجبر المطلق فلم يكن من الحق في شيء أن يثبت بعثاً ولا تكليفاً ما دام قد أثبت الجبر في الأعمال. بل كان العقل يقضي صراحة بالرفض إلا إذا كان البعث والحساب جبراً كذلك، وهذا ما لم يفعله أبو العلاء منزهاً الله عما يراه من عبث

يرى المعري نفسه مجبوراً على أن يفعل ما يأتيه لا خيرة له والقدر من حوله (أخو الحياة) فيقول: (كذبتْ النحاةُ أنها تعلم لما رفع الفاعل ونصب المفعول، إنما القوم مرجمون، والعلم لعالم الغيوب، خالق الأدب والآداب) فهو لا يرى أن القائم بالفعل هو الفاعل الظاهر؛ وإنما الفاعل شيء آخر (بيده نواصي العباد، لا يخرج بما يقضيه الجمد ولا الحيوان، ولا يفعل إلا ما رِضي وشاء، وغير متعلق به الزيغ والخطأ، ولا شيء من الدنيات) هذا الشيء يخشى أن يصفه بصفة ما (وإن فعلت خشيت التشبيه، وأشركتُ الضعفة العاجزين، مع القوي القادر في بعض المقال إذا قلت فعل الأول وفعل النعمان، وهيهات ما أبعد بين الفعلين) وقد يبدو هنا أنه أسند إلى النعمان فعلاً قام به ابتداء منفصلاً عن الأول كما يشعر بذلك قوله: (ما أبعد بين الفعلين) ولكن ما الرأي وهو يرى عكس هذا، ويصرح به في نصوص صريحة لا تحتمل الشك ولا التأويل نحو قوله: (وعملي مكتوب مكلوء، مقترى بالحفظ ثم مقروء، وثوب الحياة عني مسروء، وغير القدر هو المدروء، لا يبعد عني السوء، أهُّم بالخير وأهوء، والأقدار دونه معترِضات) فهل رأيت إلى ذلك المكتوب؟ ومحاولته فعل الخير فلا تمكنه من ذلك الأقدار لأن الذي قدرها لم يقدر له أن يفعلها؟ فيغضب أبو العلاء لذلك ويصيح أن (لو كانت المناقشة في غير عالم المستودعات لتمنيت أن تُلقي إليَّ صحيفة العمل فأضرب على ما ضمنته رُجاة الإضراب) ولكنه يائس من ذلك؟ (هل يعصمني الاجتهاد وقد سبق حكمه أنى من أهل الخسار، أم يضرني التقصير وقد نفذ علمه أنى في درجة الأبرار)

وقد يعترض على ذلك بان أبا العلاء نصح بأن (اترك المضلة إلى المرشدة؛ فإن طرق الخير كثير) وقال: (ما يمنعك أن تخيَّر القسى وأنت في بلاد الضال؟) ولكنه رد فيما أوردت على ما يمنع المرء أن يترك هذا إلى ذاك أو أن يتخير القسى.

فالأعمال إذن حكم مقدر على المرء، لا يستطيع أن يحيد عنه، ولا أن يعدل إلى غيره. وما معنى أن يعدل المرء عن (حكم) إلى (حكم)؟ وهو يذهب إلى ما ذهب إليه في مسألة الأرزاق من أن الأحكام تجري على نهج غامض كذلك، لا يدرك أو يعلل، كما جرت الأرزاق على نفس الغموض والإبهام.

ولا يمكن أن تجد عند أبى العلاء علة يقنعك بها أو يقنع نفسه. وإنما العلة لديه أن (الناس أربعة نفر: مسعود نحس فهو المرحوم، ومنحوس سعد فهو المحسود، ومولود بالسعادة إلى أن يموت فذلك المكرم المرموق، وثابت على الشقوة فذلك المُطَّرَح المرفوض.)

وهو يمضي بعد ذلك إلى استخلاص الحكم في هذه القضية، وينظر ما يشير به العقل، فهو يتساءل ما دام كل شيء بحكم الله وقدره (فهل أثم قَيْنُ فتق خشبة مشرفي كأنما درجت عليه بنات الجثل والدعاع. . . فلما تم وكساه الأديم ورواه يمثل ذؤاية الوليد وذلك بعلم الله. . . . . . . . . مرت رفقة من التجر في أعقابهم طالب رزق يقوم الليل ويصوم النهار، فوثب الداعر فضرب عنق جارمة عيال فما تطعم عيونهم من جثاث؟) وهو يعرض إلى تلك الفكرة في بيان جلي يزيدها تفصيلاً حين يقول: (وليس اللسان ذنب إنما الذنب لمحرك اللسان، كفارس طعن برمح فقتل غير مستحق للقتل، فالجاني الفارس، والرمح غنى عن الاعتذار. وإذا سمعت القدم إلى قبيح فالجريمة لناقلها. مثل رجل ركب فرساً فأخاف سبيلاً فاستجوب العقوبة الرجل دون الجواد. . .

وإذا خانت اليد فالباسط لها الخب الخئون. . .) ومن هو محرك اللسان ومن مسير الفارس؟ وهل كان في إمكان محرك اللسان ألا يحركه، والفارس ألا يطعن برمحه، وناقل القدم ألا ينقلها؟ كلا، لم يكن ليستطيع، إذن فلا لوم عليه ولا تثريب. ولكن ماذا نقول وأبو العلاء يأبى أن يقول ذلك صراحة؟ فهو لا يعرض لها في بيان أكثر مما نرى. فهو حذر يود ألا يتعرض صراحة لأمر ليس على علم به. ذلك هو أمر الموت وما بعده من الحياة الآخرة. فهو يجهل أمرهما جهلاً يتمنى معه أن يعثر (بمخبر يعتام نفائس ما أقدر عليه يعلمني بعد الموت كيف أكون) وهو نفسه يصرح تصريحاً بهذا الخوف والجهل ويلوم نفسه أنه لم يتخذ الحيطة والحذر حيال هذا الأمر الغامض (وقد سئمت الحياة (وأخاف) أن أنقل فأقدم على ما حزن وساء وأنا أغفلت الحزم: ملت عن الجدد ومشيت في الخبار)

ولكن ما دام لا يأتي أفعاله مختاراً فلم البعث والحساب؟ الواجب ألا يكون بعث ولا حساب إلا إذا كان جبراً هو أيضاً وهو عبث ينزه عنه الله. على أنه يرى أموراً مادية تحول عقلاً دون حدوثه إذ يصرح أن (لو غبرْتُ ألف حقبة ما ورد على منهم كتاب ولا رسول، وعندي خبر خبرِ نيه المعقول: إن جلود القوم تمزقت، واللحوم بليت وتهالكت، وصارت الأعظم رماماً). وهو يسخر من أهل الدار الآخرة سخرية هادئة لاذعة في وقت معاً (سلم الله عليكم أهل ديار لا يشعرون بتبلج الصبح، ولا ترجل النهار، اشتاق إليكم وإلى من أشتاق؟ الأرواح متكلمة، ولا الأجساد ملتئمة، ولا المنازل برحاب) على أنه يؤمن الإيمان كله أن مصيره هو نفس هذا المصير، (أما اللحاق بالقوم فقريب ولست من لقائهم على يقين فالقلب لذلك آسف حزين، أفتراني أوجر على ذلك وأثاب؟!) فهو حزين كما ترى لأنه لا يستطيع أن يتبين حال الأموات في الدار الأخرى، ولأنه لا يستطيع أن يؤمن بلقائهم. وهو يميل إلى أنه لن يلتقي بهم لما قدم من أسباب، فإذا ما أراد بعد ذلك أن يحيي أباه حياه (تحية رجل للقياس ليس براج) وغير هذا من النصوص كثير يدل على وجهة نظره في البعث. وقد يقال بأنه يؤمن ببعث الأرواح دون الأجساد فقد قال: (عززت باعث الأرواح) ولكنه قال: (والله باعث الأرمام) وقال: (ولا يمتنع أن يكون (جسد) الصالح إذا قبر في نعيم، و (جسد) الكافر في عذاب أليم) فهو لم يجزم بشيء. فالأمر لديه أمر لا يمتنع. ثم هو يتساءل لماذا يعذب الله المسيء ويثيب المحسن وكل الفعلين قد صنع؟ ولكنه يتراجع متهماً نفسه (فسبحان الله غافر ومعذباً. آلرشد دفين أم أنا أفين؟) لا يركن إلى حال من الطمأنينة والثبات كما قلت: (فالدنيا فانية، والنفس لا تأمن التبعات) (ولي ينذر أن الحازم حذر وقد أمنت وأنا مسيء) لذلك فهو يرى أن (الحازم الذي لا يأبس، يمجد الله ويقدس، وبغير طاعته لا ينبس (لعل) الأجل يدركه من أهل الصفاء.)

وكل ما يمكن أن نأخذه عن أبي العلاء في أمر التكليف وشأن البعث إنما هو جهل لا يثبت شيئاً وتوقف ولا ينفي شيئاً، ولعلنا لو قرأنا الكتاب جميعاً لن نجد ما يمثل آراءه في صراحة أحسن من قوله: (وقول الحق أمثل من السكوت، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا منقطعة. وخبر الميت غير جلي، إلا أنه قد لقي ما حذر فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح)

وأبو العلاء حين يتعرض (للفاسق) ومرتكب الكبيرة أهو خالد في النار، نجده يميل إلى التفاؤل تارة فيعتقد أن (غفران إلهنا مأمول ولكنك أيتها الحشاشة فرطت فأوبقت، فانظري هل لك من متاب) (أن لقيتِ شراً فما أجدركِ، وإن لَقيتِ خيراً فإن الله صفوح لا يعجز ولا يشبه العاجزين) وهو يتفاءل حين يقرر أنه (ما جنت السيئة فالحسنة تديه والله غافر ذنوب المنيبين) بل هو يذهب إلى أبعد حدود التفاؤل: (لا آيسُ من رحمة الله ولو نظمت ذنوباً مثل الجبال سوداً كأنهن بنات جمير ووضعتهن في عنق الضعيفة كما ينظم صغار اللؤلؤ فيما طال من العقود، ولو سفكت دم الأبرار حتى أستنَّ فيه كاستنان الحوت في معظم البحر، وثوباي من النجيع كالشقيقين، والتربة منه مثل الصربة؛ لرجوت المغفرة إن أدركني وقت للتوبة قصير ما لم يحل الغصص دون القصص، والجريض دون التعريض، ولو بنيت بيتاً من الجرائم أسود كبيت الشعر يلحق بأعنان السماء ويستقل عموده كاستقلال عمود الوضح، وتمتد أطنابه في السهل والجبل كامتداد حبال الشمس، لهدمه عفو الله حتى لا يوجد له ظل من غير كباث) فانظر إلى أي حد يطمع في عفو الله، ويؤمل مغفرته. على أن ذلك لا يمنعه ألا يسأل (هل من راق، لذي إيراق، بات شاكياً من الخيفة باكياً، يسأل ربه غفران الكبائر، والله القابل توبة التائبين؟) (ما أحسنت فأطلب الجزاء ولكن أسأت فمرادي الغفران. ومن لي بالوقفة بين المنزلتين لا أكرم ولا أهان وقد يؤديه هذا السؤال إلى اليأس أحياناً: (كيف أغسل الذنوب وقد صار لونها كسواد اللابة والفداف كلما غسل حجر هذه وريش ذاك ازداد سواداً بإذن الله). فهو يصف مجهوده في محاولة غسل الذنوب، ولكن هذا المجهود يذهب عبثاً لأن الله لا يريد: (ولو شاء لبعث مطراً تبيض تحته اللوب، وطيراً مثل النوب، ولكنه أجرى العادة بما تراه. . . ولكن ما هذا الذي تراه ويعتقد أبو العلاء أنك تراه معه؟ لاشيء إلا أن الله قدره يحتث المنية لتجتث وأنا جاِثم) أو جاِث فانظر إلى أي شيء اتجه ذهن أبي العلاء؟ اتجه إلى الآخرة كذلك والمنية، وهو يخشاها لأنه يجهلها ويفزع منها فزعاً يقرب من فزع الأطفال: فأينما ولى وجهه لم يجد إلا هذه المنية التي تجتث الناس، وهذا الميت ذو الحال المبهم، وتلك الحياة الأخرى الغامضة المرعبة، التي تجد في أمرها. أيثبت ما قالت به الأديان، أم يثبت ما أوحى به عقله؟

في تلك المسألة أيضاً - مسألة الخلود في النار - لا نجد أبا العلاء يثبت شيئاً، وإنما هو متزعزع مضطرب متفائل حيناً، متسائل حيناً، شاك متشائم حيناً آخر!

غير أننا لو تأثرنا شبح الكلام في ذات الله لديه في فصوله والغايات لوجدنا صدى الكلاميين وغيرهم. على أنه يقول:

(لا أعلم كيف أُعبر عن صفات الله وكلام الناس عادَةُ واصطلاح، وإن فعلت ذلك خشيت التشبيه. . .،. . . كيف يوصف بشيء خالق الصفات) فهذا نص صريح لا يحتمل الشك في أنه لا يثبت لله غير ذاته، فليس هو من الصفاتيين في شيء وإنما هو من المعطلة. وقد أثبت أنه (لا أعلم كنهك ولا أهوء) وأن (الله القديم الأعظم، وبحكمه جرى القلم، ألا يخلد عالم ولا علم) ولكنه إن اعترف بكون الله (شاهداً ما غاب ولن يغيب، وقديماً ليس لابتدائه وجود، تقاصر لأوليته طوال الأغمار، كالأخيلة إذا حدثتك عنها النظرة الأولى كذبتها الثانية) فإنه يقرر شيئاً خطيراً إلى ذلك. هو لا يتصور أن الله خلق المادة من العدم أو أنه وجد قبل الزمان والمكان وإنما هو (رأى ما يحدث في هرم الدهر، ولزمان في شرخ شبيبته أيام نعام الكواكب وضائع في الأدحى، ونسورها فراخ في الوكر، وأسدها شبل في الغابة. . . إن كان ذلك فقد علمه، وإن امتنع فالله مؤقت الميقات).

(للبحث بقية)

السيد محمد العزاوي