انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 32/في الأقصر. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 32/في الأقصر. . .

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 02 - 1934


- 2 -

كان (ترجماننا) الأمي (ضاوي) يشرح للأساتذة الجامعيين والثانويين حديث تحوتمس الثالث مع أخته العاشقة، ووجوه التماثيل الواجمة غارقة في صمتها الناطق، تتراكم على قسماتها أنظار الخليقة، وتجثم على شفاهها أسرار القرون، ورءوس الأعمدة القائمة ناتئة في أشعة الشمس كالمزولة الهائلة، ترسم بظلالها الوريفة تعاقب الساعات منذ آلاف السنين! وكانت عيناي الحالمتان قد وقفتا على تمثال من تماثيل رمسيس الأكبر، يخطو إلى الأمام خطى المصمم الواثق، وبإحدى يديه مفتاح الحياة يجتاز به موت الساعة إلى خلود الأبد

والخلود حلم الفراعنة الدائم وهواهم الملح، أخطره ببالهم قبل الناس ما مُتِّعوا به من فيض الحيوية وخفض العيش ونفوذ السلطان واكتمال اللذة، فلو أنهم عاشوا على جدب من الإقليم، وحرب مع الطبيعة، وهوان على الدهر، لاستشرفت نفوسهم للبلى، واستهلكت عقولهم للعدم

خلّد الله الروح وحاول الفراعين تخليد الجسد! وما يدريك لعلهم كانوا يظفرون بهذا الخلود لو خلى الناس بينهم وبين الزمن. لقد قهروا الفساد والدهر وقهرهم اللص والفاتح! فمنذ خمسة وعشرون قرنا ما برحت يد الإنسان تبعث بهذي الجسوم والجروم! جرب القدر عليها حقد قمبيز، وعبث الاسكندر والقيصر، وورع تيودوسيوس وعمرو، وزهو المأمون ونابليون، وعلم مسبيرو وكارتر، فقطع بعض الرقاب، وقوض بعض الأنصاب، ونبش بعض القبور، ولكن بسمة رمسيس لا تزال كما أراها تناجز الفناء وتعاجز القدر!! وأي سبيل بعد ذلك إلى بِلاها ومسلاتها في العواصم الأوربية، ومخلفاتها في المتاحف الأثرية، باقية ما بقيت الأرض؟!

صعد بنا الدليل باب المعبد في سلم جانبي حديث يقوم عن شماله، ولو قلت لك البرج بدل الباب لقربت إليك وصفه! فهو سطح عريض من ضخام الجلاميد تكدس بعضها فوق بعض كما ترى في الهرم، أشرف من شرقه على ما بقى من صخور السقف فوق الأساطين، وتراءى من النصب خلال الاواوين، وطعن في السماء من أسنة المسال؛ من غربه على طريق بين صفين متوازيين من الكباش الرابضة في حجم البقر، يسايره النظر والفكر إلى مرفأ كان ولا شك ينتهي عنده قبل أن يأخذ النهر من الساحل الغربي ألف متر

في هذا الطريق كانت تخرج الجنائز الملكية من المعبد إلى نهر الحياة فتعبره إلى مراقدها الصخرية الآبدية في جوف الجبل، وفي هذا الطريق كان يسير موكب أمون السنوي إلى النهر، أمامه زُمَر المهرجين والمشعوذين يدورون على الارجل، ويمشون على الأيدي، بين أخلاط من باعة الفاكهة وشواة الإوز والبط، ثم يلي هؤلاء جوقات الموسيقى تصدح بالأهازيج، وطبقات الكهنوت تعج بالأناشيد، وحاملو الأصنام والبنود يسيرون بها وئيدا في خشوع ورهبة، حتى إذا بلغوا المرفأ تقدموا بامون فجعلوه في فُلكه الذهبي، وبالآلهة الأخر فوضعوا كل إله وكل الآهة في زورق خاص، ثم يسير الفلك بالاله الأكبر متنزها على النهر، تتهادى من ورائه زوارق الآلهة على الماء، وتهلل من حوله جموع الناس على الشاطئ!

من العسير على النفس الشاعرة ان تعيش في حاضرها بين هذه الأخيلة والصور! فحيثما أرسلت طرفك أو نقلت خطاك وجدت حجرا يكلمك أو أثرا يلهمك! هذا التمثال الذي تراه أمامك، أتراه أمامك، أتدري كم مرة طالعته الشمس، وكم نظرة نظرته الناس، وكم وقفة وقفها الناس عليه أقوام من قبلك بعضها لتقديس، وبعضها للتدنيس وبعضها للعبرة!!

أنك لتغرق من هذا الماضي الحاضر من فيض التأمل العميق الهادئ، يقطعك عن الدليل، ويفردك من الجمع، فلا تجد - متى عدت لحظة إلى نفسك - الدليل الذي كان يخطب، ولا الحشد الذي كان يسمع، ولا العربة التي كانت تنتظر!

خرجت فيمن تخلف في المعبد من الأصدقاء الشعراء وأخذنا نسير الهوينى في طريق الرمل حتى أدركتنا في بعضه عربة أقلتنا إلى الفندق

وفي الأصيل المونق من هذا النهار المشرق خرجنا نشهد وداع الشمس الغاربة لأطلال معبد الأقصر

ومعبد الأقصر كذلك أجمة من العمدان الباسقة المتشاجنة نتأت على سيف النهر في طول ثلثمائة متر بمشيئة آل أمينوفيس ورمسيس الاكبر!

وأول ما يملك عليك عقلك وقلبك فيه منظر يجمع تاريخ الوادي ويختصر أطوار العقيدة: ذلك منظر المسلة في المعبد، والبرج في الكنيسة، والمأذنة في المسجد! تجاورت هذه الثلاثة في هذا المكان منذ قرون تجاور الخصوم اللدِّ، لا يسفر بينها سلام، ولا تقطع حروبها هدنة!

ومن الغريب المعجز أن تصمد هذه الأوثان لهجمات المسيحية والإسلام، صمودها العجيب لعاديات الليالي والايام!. .

أحمد حسن الزيات