مجلة الرسالة/العدد 32/الأدب والخلود
مجلة الرسالة/العدد 32/الأدب والخلود
بدت في أفق الوجود منذ أقدم العصور أنواع كثيرة من الحيوان والنبات، ظلت تتصارع مع إرادة البيئة وعوامل الموت والحياة حقبا طوالا، حتى فرق بينها قانون (تنازع البقاء) بكلمته الحاسمة، فسكنت رحى الحرب وأسفرت تلك الوقائع عن خطوط متباينة لكل نوع منها عن الآخر: فمنها ما كان ضعيف الايد فقير العدة لم يستطع أن ينجو من نار هذا التنافس المستعر فالتهمته ألسنتها وأسدلت على كيانه وذكراه حجاب العدم إلى الأبد، ومنها ما جاوزته هذه النيران وقد أبقت منه هيكلا هشيما أو بقايا منثورة لم تزل مطمورة تحت أطباق الثرى حتى عثر عليها رجال الآثار والحفريات فنشروها في صدور المعارض والمتاحف، ووهبوها بعثا جديدا لحياة الذكرى. وكان هناك غير هذين ما وهبته الطبيعة أمضى الأسلحة للوقاية أو السطوة، فكان هو الصامد للهول الصائل في المجال حتى خرج مظفرا منصورا رافعا لواء الحياة!
كذلك في أفق الفنون والآداب نرى مثل هذا الصراع العنيف دائر الرحى بين أنواعها المختلفة، وبين مؤثرات العدم والوجود، كأنها كائنات حية شاخصات الجثمان تحكم بينها قوانين النشوة والبقاء. ولئن كانت حرب الأنواع المادية قد خمدت نارها منذ آماد لتؤول إلى نضال آخر بين فصائل النوع الذي ظفر بالبقاء، فأن صراع منتجات العقل وبخاصة ما كان في دائرة الأدب لما يزل حامي الوطيس مشتعل اللهيب منذ أخذ الفكر وأخذت العاطفة تفتح عيونها على الكون، وتتعرف ما فيه من ظواهر وأسرار إلى اليوم. وسيضل هكذا يزداد أواره احتداما كلما نما العقل واتسعت شعاب الحياة أمام العواطف، وكلما ارتقت مثل الإنسانية وآمال المجتمعات والأفراد في سماء الحضارة الرحيبة الآفاق، فكل أدب واهن القوى أو فاقد الأداة لا بد أن يكون مصيرهكمصير ذلك الكائن الضعيف إما فناء أبديا أو فناء يتخلله البعث للذكرى في خزائن الكتب، أو شوارد التاريخ أو على جدار المعابد، وكل أدب موفور القوة موهوب المناعة لابد أن يغالب الزمان ويبقى على الحدثان. هكذا توزعت الجدود على أنواع الأدب في كل عصوره الماضية وكذلك سيبقى نظامها، وقد تكون تلك الظاهرة ملحوظة في جملتها قريبة الإدراك بشكل عام عند من يتنبهون إلى حقائق الموت والحياة في المعنويات كما يعرفونها في الحسيات، ولكن الغموض وسوء الإدراك إنما يقعان في تحديد معاني هذه الحقائق، ودقة الإحاطة بمدلول كلمات الضعف والقوة والغلبة والهزيمة، وفي العثور على محور التنافس والنزاع، وكشف القوانين التي تعمل من وراء هذا كله لترجيح كفتي الفناء أو الخلود إحداهما على الأخرى. فكثير من متناولي الأدب من يقف اليوم خاشعا أمام تراثنا الأدبي القديم، مستلهماً نفحات الخلود من سطوره وكلماته لأنه قديم باقي منذ مئات الأعوام إلى اليوم برغم الغير والأحداث، دون أن يفرق بين أدب لا يجدر به أن يحفظ إلا ليؤدي مثل وظيفة تلك البقايا الحفرية تسجن في غرف المتاحف فتذكر بنوع باد وانقرض، وبين أدب خالد وثيق الصلة بعناصر الحياة فهو باق بأصله وأثره ولو اندثرت ألفاظه، وليس من سبب لهذا النظر الواهم إلا عدم الإحاطة بدائرة الخلود وتنور الأسس التي يشاد عليها صرحه وما يؤدي إليه هذا الإبهام من قصور عن إدراك الفارق الكبير بين مدلول كلمتي (الخلود) و (البقاء) في العرف الأدبي الدقيق.
ليس الخلود في الأدب هو مجرد البقاء، وإن أوضح ما يبدي الفرق
بينهما هو ذات هذا التباين الذي أدركناه بين بقاء الآثار والعاديات وبين
بقاء الكائن الحي الخالد، ويمكن أن يعبر عن تلك الميزة الكبرى بأن
خلود هذا الكائن إنما هو بقاء مقرون بالتأثير والتأثر، أو هو بقاء قابل
فاعل، أو هو الحياة، فالأثر الأدبي كالأثر المادي سواء في أن كلا
منهما لا تتحقق له صفة الخلود إلا إذا امتاز بصفات وخواص
تؤهلهلان يظل مشتركاً مع دوره هذا الكون الحي بآثار يحدثها فتزيد
في قوة تلك الدورة، أو بطواعية ولطف تقبل لما يوحي به الكون من
غايات، وما يتطلبه من نظم، وبقدر ثروته من هذه الخصائص تتعين
له منزلته من درجات الخلود المتفاوتة السمو، غير أن الكائن المادي
يؤدي وظيفة حياته هذه بالفعل أو الترك، والأدبي إنما يؤديها بما فيه
من أفكار ووجدانات.
وإذا كانت مؤهلات الخلود للنوع المادي هي في هذا التكوين الدقيق المنظم من عناصر متجانسة متوافقة، انتخبت من جنس عناصر الكون الخالد، لتشترك باتحاد ذروتها واتساق تركيبها في تأدية سلسلة مترابطة من الغايات، حتى تنتهي إلى الغاية الكبرى من تكون الكائن كله بجميع أجهزته وأعضائه، وهي الاتصال المباشر بدورة الحياة وبالنشاط والحركة والعمل والإنتاج والإهلاك والإدارة بنوعيها من سلب وإيجاب - كذلك مؤهلات الخلود للنوع الأدبي إنما هي في تكوينه من لباب من المعاني، مأخوذ بمهارة من صفحة الكون الزاخر بالحقائق والأحلام، متسق العناصر والأجزاء بدقة وتفنن وابتكار، حتى يبدو في شكل وحدة متلائمة كلها أفكار ووجدانات، تؤدي غايتها العظمى، مؤثرة تارة في الحياة ببعث الحق فيها والخير والفضيلة والكمال، أو متأثرة بها تارة أخرى بتقديس ما بها من جمال وعبادة ما وراءها من أسرار وامتزاج بما فيها من روح!
ذلك هو الشرط الخلود بحدوده العامة، وليس هو قيدا نبتكره ونمليه نحن على الأدب وأهله، وإنما هو فيما نرى قانون ثابت أملته طبيعة الحياة من قبل على الكائنات المادية، ونفذت أحكامه عليها بعنف وقسوة، وهي تمليه اليوم وتطبقه على الكائنات المعنوية بعد أن اشتد تنافسها وكثرت أنواعها، وبعد أن أصبح للآداب كيان ظاهر في الحياة الإنسانية يسعى إلى مثل ويتجه إلى مقاصد، أو كما يقول النحاة بعد أن أصبح (عمدة) لا (فضلة).
ولقد ظهرت آثار هذا القانون بجلاء منذ بضعة قرون في الحياة الأدبية لأمم أوربا الراقية حين أخذت آدابهم تنمو وتستقل وتقوى شخصيتها وتتحدد غاياتها، فنشأت عندهم مذاهب النقد وطرائق البحث التي تعمل كلها في ضوء هذا القانون حتى لا تمنح رتبت الخلود إلا لما أحتوى على عناصره وتحقق فيه شروطه، وهاهو ذا تراثهم الأدبي تجد فيه سجل الخلود منشورا واضحا لا يجمع إلا أمثال أسماء شكسبير وملتون وشلي وبيرون وتنيسون وسكوت في انجلترا وموليير وروسو وفولتير وهوجو في فرنسا ولسنج وشلر وجيته في ألمانيا، وغيرهم ممن يظاهيهم أو يقاربهم مرتبين في درجات مختلفة من الخلود بحسب ما حاز كا منهم من عناصره. أما نحن فلا تزال حياتنا الأدبية ناشئة حديثة، وقد كانت إلى عهد قريب حائرة ضعيفة الإدراك لا تدري أي سبيل تسلك ولا على أي مرفأ ترسو. لأن الشعور بالحياة كان ضيق الدائرة ضئيلا، وكان سوء التقدير وفساد الفهم لغايات الأدب ومعاني خلوده يحاصر هذا الضيق ويأبى عليه أن يكتسب مرونة أو اتساعا. ولكنها الآن قد أخذت تنهج طريقة أختها الأوربية وتفتح عينها على الحياة وترشف من رحيق أسرارها ومثلها، معتزة بوجودها، مكتسبة كل ما يزيدها نموا وارتقاء، وبهذا حق عليها أن تدفع ثمن هذه الحرية غاليا، وتتقبل راضية أو كارهة قانون الحياة الدائم، فلا خلود إلا لمن ظفر بشرطه وأوفى على غايتة. نعم لم يعد يسيرا في هذا العصر لأثر أدبي أن يظفر بالخلود، لأن التنافس يزداد شدة كلما تقدمت الحضارة خطوة، ولأن ذوق الجمهور قد أخذ يدق وسمو حتى ليكاد يصبح ناقدا عاما، ووجدانه قد بدأ يزخر بالآمال والعواطف حتى يأبى إلا أن يحتسي كأس الحياة حتى الثمالة، وأرادته ايضا قد غدت حرة قوية مؤثرة حتى لا تقنع إلا بنشدان المثل العليا. وهذه كلها نتائج طبيعية لنشر وسائل التهذيب من تعليم وصحافة وأقاصيص وتمثيل وخيالة، ولحياته بروح الدساتير الحديثة التي تكفل له الحرية وتسيغ له الاشتراك في الحكم والدولة، ولشدة أمتزاج الشعوب اليوم بعضها ببعض وسرعة تبادل الأفكار والمشاعر، فهل يقنع هذا المجهود الطامح المهذب إلا بأدب يمثل قانون الخلود فقرة فقرة؟ لابد إذا لوجود هذا الأدب السامي من أديب يملك بفطريه نفسا شاعرة نبيلة دقيقة الحس كميزان الذهب، تتلقى الإلهام والوحي من محيط الوجود كما يتلقى الجارس (الراديو) موجات الأثير حاملات الأغاني لا يشعر بها غيره، وعقل صافياً كالعدسة المكبرة تواجه الشيء فيتجلى فيها بخفاياه وحذافيره، قد صقلته التربية ووسعت أفقه التجارب والثقافة المحيطة، وقدرة ماهرة على التنسيق والتنويع وحسن الصياغة بابتكار واستقلال.
وندع الآن مشكلة اللفظ وما تنتجه من مسائل الفصاحة والبلاغة فإنما نحن نتحدث عن الجوهر لا عن العرض، ونبحث في القانون الثابت المطرد لا الأمر العارض النسبي، ولسنا نعني بذلك ان نهمل البتة ناحية اللفظ فنكسو الحسناء الجميلة ثوباً خلقا مهلهلا، بل الذي إليه نقصد أن سر خلود الأدب أصالة إنما هو في معناه، ثم تأتي مسألة اللفظ بعد ذلك مختلفة باختلاف اللغات متفاوتة بتفاوت الأذواق، فكم في اللغات العامية من معان رائعة حية الأثر تتداولها الألسنة رواية لا تدوينا، وبداهة لا تعليما، وهي خالدة على مر الأجيال في معزل عن اللغة الفصحى بل في نفور منها أن تشوه جمالها، وكم في اللغات الأعجمية من آثار خالدة أيضاً لم تدرك لغتنا الفصحى شأوها بعد ولا يضيرها أن تؤدي برطانة الأعجام! فمسألة الخلود في الحقيقة مسألة المعنى وهي الأمر الثمين النادر، أما اللفظ فيسير الثمن بتعلم اللغة والاطلاع على أساليبها. وكأننا بهذا نعكس رأي علماء البلاغة الأقدمين إذ كانوا يقولون: ان المعاني منثورة في الطريق يعرفها الفصيح والمفحم والعالم والأمي والبدوي والحضري، ولكن الفرق كله بين هؤلاء في اختيار اللفظ وحسن التركيب!
ولعمري ما أشبههم في ذلك بمن يقولون إن الذهب والفضة مطروحة في الطرقات، ولكن المشكلة المعضلة حقا إنما هي: كيف يحمل الفقير تلك الكنوز؟!
وبنظرة نرددها بين غاية الخلود البعيدة المدى، وبين أدبنا الحديث، نستطيع أن ندرك كيف ينحرف هذا الأدب عن الهدف الذي يجب أن يقصد؛ ثم إذا تتبعنا خط الميل عن الجادة المستقيمة لم نلبث أن نقف على نقطة الانحراف أو رأس المفترق، وليست هي فيما أرى الا حيث يتدفق سيل التقليد الجارف، فيكتسح أدبنا أمامه ويحول بصره عن الهدف إلى صحراء العصور الخالية، ولقد سار أدبنا منذ نشأته في هذا الطريق المنحرف مراحل واسعة، ثم جاء الأدباء المجددون والشباب المثقف الحديث فحاولوا أن يمسكوا بزمامه ويردوه إلى غايته، فإذا به يستقيم ويعدل سيره في أنوارهم وهو حقيقة يوشك ان يعتدل. بيد ان انكساره القديم قد ترك في بصره بعض الزيغ وفي هيكله بعض الاعوجاج!
كانت الروح الفردية هي عماد الأدب القديم، وما زالت هي أيضا عماد أدبنا الحديث، فكما كان رجل الصحراء ينشد أدبه الغنائي في حدود نفسه معتزاً بشخصيته دون غيرها، حين يصف حبه وهيامه وحوادث غرامه أو حين يصف ناقته وفرسه أو يفخر بشجاعته وبأسه، كذلك نحن لا نبرح مقيدين بخطته مقتفين أثره لا نعني أكثر ما نعنى إلا بالتغني بهذه الأغراض الفردية الضيقة من حب شخصي وحزن وسرور ورثاء ومدح لا تعدو حدود النفس، ولست أدري كيف نمهد لنا عذرا عن هذه الأثرة التقليدية إذا وضحت أمامنا أعذار الرجل الصحراوي وقد كانت طبيعة بيئته ونظام حياته لا يسمحان ببناء مجمع مترابط ممتزج بل تلحان على كل فرد أن يكون هو مجتمع نفسه وحكومة شخصه؟
وهل تلك الحياة المفككة هي حياتنا اليوم؟ أليست دعامة هذا العصر المتحضر هي قوة روح الاجتماع وتشييد بناء الوحدة وتربية الفرد ليفنى في المجموع؟ إذن فلن ينطلق أدبنا من رجعيته الا إذا جارى العصر وساير الحياة فاندمج في المجتمع بما فيه من سياسة ودين وتربية وأخلاق وغاص إلى أعماقه وترجح على أمواجه؛ متشربا العواطف الإنسانية لا على إنها نزعات فردية من شخص لآخر، ولكن على انها ظواهر اجتماعية لها آثارها في المجتمع ولها أحوالها وخواصها المتأثرة به المتغيرة بتغير، وناظراً منصتاً لا في منطقة شخصه ولكن في رحاب المجتمع الطليق يراه كيف يجد ويلعب وكيف يفكر، وكيف يشعر، ويسمعه بأي لحن ينطق ويغني ويئن ويهتف، ضاربا معه على أوتار أفراحه وأحزانه؛ صاعداً إلى سماء الآمال أو منحدراً إلى أرض الهوان، صارخا في ثورته، نائما في رقدته.
وكان الأدب القديم نسيجا من خواطر وأحاسيس هي بنت ساعتها، ووليدة حادثتها، توضع متراصة مسرودة دون أن ينظمها سمط من العلم أو رباط من العقل، وما زال أدبنا الحديث أيضا نسيجا من مثل هذه الخواطر والاحاسيس؛ لا يحاول أن يتقرب إلى العلم أو يصافح الفلسفة أو يمد يده إلى علم النفس، بل كثيرا ما يقف منها موقف الاضداد، فإذا كان منشأ هذا النقص عند أدباء القرون الماضية هو فقرهم من هذه الثروة الفكرية العظيمة؛ وفهمهم الأدب على أنه منفذ للشعور الفردي الوقتي كيفما كان لا كما نفهمه نحن اليوم من أنه دعامة من دعائم الحضارة وأسس الاجتماع المهذب الراقي - فبأي سبب غير عماية التقليد نعلل وجود هذا النقص في أدبنا إذن ونحن في عصر يفهم الأدب على هذا الوجه، ثري بما فيه من منتجات الفكر؟
ولعل هذه الروح الجديدة التي نحاول أن نشربها أدبنا ليتصل بالعلم والاجتماع، تدل بنفسها على أنها لا تستطيع أن تحيا وتنمو وراء هذه الأسوار الضيقة التي كانت تحاصر الأدب القديم: أسوار الشعر الغنائي والحكم المقتضبة والأمثال الموجزة، والفصول الكتابية والأراجيز النظمية تعقد لبيان الأخلاق والنصائح والعظات في قواعد وقضايا آخذ بعضها برقاب بعض. وإنما هي يريد قبل أن نفكر في استلهامها أن نهدم هذه الأسوار ونخرج إلى ميدان القصة والملحمة والرواية الرحيب الجوانب فننثر في فضائه ما نريد من حكم ووصف وعظات وما نشاء من وحي الفكر والوجدان.
أجل، فان ذروة الخلود سوف تدنو من صروح القصة والرواية وما حكاهما، وسوف تكون هذه الأنواع أقوى أنواع الأدب وأكبرها اثرا في تأدية وظائفه في الحياة الإنسانية بين الجماعات والافراد، وستندمج في ثناياها تلك الأنواع الصغيرة التي لا تحتوي الا على خطرات محدودة من مشاعر الحب والانتقام والهجاء والفخر والحماسة والمثل والوصية والمراسلة وما جرى مجراها، فلا يبقى منها مستقلا إلا ما ترشحه رقة نغماته ووحدة موضوعه وصدق شعوره ليجيب بعض نداءات الحياة القصيرة التي لا تتحمل أعباء القصة ولا تستطيع تغذيتها. وفيما خلا ذلك تنهض القصة بدعوات الحياة الكبيرة وتخض معارك الاجتماع وترتوي من منابع العلم فتصبح صورة صادقة ناطقة للإنسان والكون وما بينهما من أسباب وصلات.
وحري بنا ألان وقد جرت معنا ألفاظ الغاية والهدف والقصد إلى جانب الأدب أن ندفع ما قد يدور بخلد ظان من أننا نريد أن تكون الغاية هي التي تخلق الأدب وتتحكم فيه، فلا يكتب الأديب أو ينظم إلا لغاية قد تعمدها ونصبها أمامه، فان مآل هذا أن يصبح الأدب صناعة لا فنا وأن يصير الأديب مصنوعا لا مطبوعاً، وإنما نحن ننسب الغاية إلى الأدب على سبيل المجاز، ونريد في الحقيقة أن يصدر الأدب عن نفس تشربت من قبل بالغايات والمبادئ حتى ذابت فيها وتحولت إلى وجدان حي ورغبة فنية دافعة، فهي لا تكتب بعد ذلك ناظرة إلى غاية منفصلة، وإنما هي تعبر عن شعورها المتصل بها وفكرها الذي أصبح ملكا لها إرضاء لطبيعتها الفنية وفطرتها الأدبية، فكأن للأدب غاية لا ترى لا بعد صدوره بالفطرة.
وللخلود في الأدب مناطق تختلف سعة وامتدادا. فقد يسري حتى يعم العالم بأجمعه ويصير أدبا عالميا، وقد يقتصر على أمته وشعبه فيكون أدباً قومياً. وحولهما درجات، والسر في هذا إنما يرجع إلى اختلاف موضوعاته: فإذا كان متناوله النفس الإنسانية من حيث هي لا باعتبار الأجناس والأنواع فهو جار مع النفس الإنسانية في كل مكان. وكذلك إذا كانت وجهته الكون والطبيعة والمعاني الكلية التي لا تحدها الأمكنة، ولا تطغى عليها البيئات. ومن أظهر الأمثلة لذلك أدب المعري وابن الرومي والخيام في الشرق، وشكسبير وروسو وهوجو في الغرب. أما إذا كان موضوعه مصبوغاً بصبغة البيئة وألوان المكان وأغراض الشعوب والأجناس فهو خالد في حدود من يصورهم ويتحدث بلسانهم. ومن أمثلته بعض أدب حافظ وشوقي مما يغذي الوطنية في مصر، ورديارد كبلنج في إنجلترا، وجميع الآداب القومية التي يعتز بها اليوم كل شعب. وليس يعني هذا التفاوت في سعة النفوذ تفضيلاً في الرتبة بين خلود وآخر، لان الأديب قد ينتج النوعين وينبغ في الناحيتين معا، ولكنه يقال كقاعدة عامة في هذا العصر الذي أصبحت القومية روح وجوده أنه لا بد لكل شعب من أدباء قوميين يغذونه بالأدب الرفيع الخالد.
محمد ضياء الدين الريس