انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 319/قد كان لي قلب!. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 319/قد كان لي قلب!. . .

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 08 - 1939



للأستاذ كامل محمود حبيب

هفت الشمس إلى المغيب، وخبا هجير الحر أو كاد، وأنا جالس في مقهى من مقاهي طنطا إلى نرجيلة أبسم لها وتبسم في هدوء، وبين يدي كتاب أنبذه بين الحين والحين، لأسرح النظر في هذا الناس، وهم يتدفقون زمراً إلى حيث يتنسمون روح الجنة بعد إذ هبت عليهم زفرات الجحيم تحبسهم في الدور ساعات طوالاً.

ما لهذا الفتى هنا في غير داره يمشي وحيداً، يثاقل في مشيته، مطرق الرأس، مقطب الجبين، ساهم النظر؟ أنه يتراءى لي كان وقدة الشباب التي كانت تتسعر في قلبه قد انطفأت وهو ما يزال عند الثلاثين، وكأن نزوات قلبه قد عبثت بها يد الأيام فاستحالت إلى ما أرى: إلى هم وكمد، أو هو يرزح تحت عبء ثقيل ينوء به.

عرفته وعرفني منذ سنوات وسنوات، وقضينا معاً عمراً من العمر كان لذيذاً حلواً، وكان هو - كدأبه أبداً - روح الجماعة الطروب، والضحكة الخالصة الرنانة، والنكتة الحاضرة الجميلة و. . . فما بالي أراه اليوم فيما أرى؟ لعل حدثاً من حوادث الأيام قد انحط عليه فسلبه رواء الشباب وبهاء الحياة.

وتعلق بصري به وهو يسير إلى غايته لا يرفع رأسه ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، كأن شيئاً في هذا الخضم المضطرب حوله لا يعنيه؛ وأنا على خطوات منه لا أستطيع أن أناديه، وفي الصوت بحة، والنفس إلى لقياه مشوقة بعد سنوات من فراق أرغمتنا عليه دواعي العيش.

يا عجبا! لقد مستني روحه الحزينة، فوجدت لذع الأسى في قرارة نفسي!

وناديت الندل عله يرد صاحبي إلي.

ورآني الفتى فتبسطت أسارير وجهه هوناً ما. وأقبل فسلم وسلمت، ثم جلسنا في صمت أنا إلى نرجيلتي، وهو إلى خواطر نفسه. . .

وألح علي الأسى والعطف في وقت معاً. فاستلباني من لذاذات كنت أجدها في الكركرة وفي الكتاب وفي النظر إلى هذا الناس. فالتفت إليه أقول: (أهكذا أنت؟).

قال: (نعم، يا صاحبي، قد كان لي قلب فضيعته!). . . وترقرقت في محجريه عبرات مكفوفة تريد أن تجد لها منفذاً. . . فشملني حزن عميق ودهشة، وأنا أعرفه زوجاً، وأعرفه في أيام لهوه لا يحجم في إباء، ولا يندفع في طيش. ثم قلت في لهفة: (وكيف. . . كيف)؟!

قال: (أما القصة فهي قصة قلبي. . . قلبي أنا، فهو قد القي بي في مضلات تتقاذفني، فلا أجد منها الخلاص). ثم سكت سكتة حزينة وكأنه يلم شعث تاريخ أيامه، أو كأنه يصارع في نفسه أمراً فيه الشجن والألم). . . ثم قال: (عرفتها فيمن عرفت، فتاة كطفلة بضة، فيها الجمال وفيها الأنوثة؛ ولمست فيها أشياء جذبتني إليها. فاندفعت إلى جانبها في طريق لا يثلم الشرف، ولا ينحط بالكرامة، وهي تبادلني غراماً بغرام، وعطفاً بحنان! وذهبت أتلمس السبيل إلى دارها، بين الفينة والفينة فلا تعوزني الحيلة. وكيف، وأخوها شاب في مثل سني؟!)

(وتصرمت أيام وأيام، وشيطان الهوى يشب في قلبي وقلبها في آن. فلا نفترق إلا على ميعاد، ولا نتلاقى إلا على شوق)! وفي ذات صباح كتبت إلي: (أفرأيت بالأمس وأنا أسير إلى جانبك في شارع. . . لقد رآنا واحد من أصدقاء أخي الأكبر الذين شبوا معه منذ الطفولة، وتعلقت حبال قلبه بدارنا. فحمل إليه خبر فضيحتي في غير تحرج. . . وأقبل أخي والشرر يقدح من نظراته، وهو يتوثب غضباً وحنقاً!. . . وراح يفرغ لعناته على رأسي أنا، فبت بأسوأ ليلة؛ وهكذا أصبحت غرضاً يتندر به القوم ويسخرون منه. . . هذه حياة نارية ضيقة تنذرني بويلات العيش وعار الفضيحة. . . لا أطيق الصبر عليها إلا أن تمدني بيد منك قوية، أو بلفظة رشيدة! أنت وحدك تستطيع أن تتفل على هذا السعير الملتهب فيحور رماداً. . .!).

(وانكشف أمامي ما أرادت، فرحت اقلب الأمر فما أهتدي إلى رأي)!!

وفي المساء جاءني حديثها: (. . . تلك أذن أنانية الرجل، يلهو ما انفسحت أمامه طرق اللهو، وعبث فنوناً من العبث؛ فإذا جد الجد خرج من إنسانيته، وألقى بالتي أحب في تنور يتلظى، وطار هو آمناً إلى حيث يلتقط الحب. . .!).

واضطرب قلبي لهذه الكلمات القاسية! فطرت إلى أخيها - في غير أناة ولا روية - أسر إليه بأمر، فبدت على وجهه سمات الهدوء والطمأنينة. ثم انطلقت وفي نفسي أن الأزمة قد تفرجت على حين لم أخسر أنا شيئاً.

وغدا أخوها إلي، وفي رأيه أن آصرة أخرى قد ربطت بيني وبينه، فدفعته في هوادة، وانطويت عنه في رفق.

وغبرت زماناً لا أوصد الباب دونه، ولا ألين لكلماته، والفتاة تستحثني إلى أمر، والقضاء من ورائهما يدفعني إلى غاية.

وعلى حين غفلة مني ألقيت إلى أهلها السلم، فإذا أنا زوج للمرة الثانية!

وتناهى الخبر إلى زوجتي الاولى، ففزعت إلى أهلها، وفي أحشائها بضعة مني، وخلفتني ونزوات قلبي.

ودخلت زوجتي الثانية داري ترف رفيف الأمل الحلو، تملأ الدار والقلب جمالاً وبهاء، فسكنت إليها وسكنت هي

وسيطر علي الهوى، فران على قلبي. فلم يدعني أفكر فيما اقترفت من جرم جرته الغواية العمياء على زوجتي الأولى وعلى أبني جميعاً. . . فاندفعت لا ألقي السمع إلى صيحات هذا الطفل، ولا أبالي بآلام الزوجة المسكينة، ولا أعبأ بوخزات الضمير.

وقابل أهل زوجتي الأولى حماقتي بلطف، وجهلي بحلم، وغوايتي بكرم، وجنايتي بإحسان!. . . على حين كانت الزوجة الثانية تسعد إلى جانبي، وتبذل غاية الجهد في أن تسيطر على قلبي جميعه لتسدل بيني وبين زوجتي الأولى وأبني ستاراً كثيفاً من النسيان، وتستحث الأيام لتغريني بأمر.

وهب القلب من رقدته بعد سنوات ثلاث، فانطلقت أريد أبني وقد فقدته منذ زمان، فما أبت الزوجة ولا استعصى ذووها فإذا أبني بين يدي المح فيه أيام طفولتي: أداعبه فيبتسم، وألاطفه فيضطرب، وأضمه إلى صدري فيتعلق بي. وكأنه يقول: (أين كنت يا أبي؟ لا تذرني هنا يتيماً، فاستشعر الذل والمسكنة، وأنا ما أزال طفلا يحبو) فخرجت من لدنه وفي رأسي عاصفة هوجاء ما تستقر!

آه! لقد زعمت أن قلبي يطمئن حين أخلص إلى أبني وزوجتي وهأنذا قد طرحت التي أحب فطرحت معها قلبي. . . آه! يا صاحبي، لقد كان لي قلب فضيعته وأنا الآن - كما ترى - أضرب في أرجاء الأرض وحدي لا أجد القرار ولا استمتع بالحياة. لقد خيل إلي أن المرأة سلعة فإذا هي راحة القلب وبهجة الدار وجمال الحياة، فأين أجد السلوة يا صديقي؟ وأردت أن أرفه عن صاحبي بعض ما آلم نفسه فتدفقت عبراته وهو يقول: (لا تحدثني الحديث فتهيج من أحزاني. إن في النفس حسرة وفي القلب جرحاً ما يندمل، وفي. . . وفي عيني عبرة ما ترقأ. ويْ كأن القدر أراد أن يقتص مني مرتين مثل ما جنيت مرتين!)

كامل محمود حبيب