انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 319/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 319/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 08 - 1939



دراسات في الفن

الفن والحرية

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

مظاهر الحياة في الإنسان ثلاثة، يرجع إليها كل ما يصدر عنه من أفعال وأقوال وحركات وسكنات. وهذه المظاهر هي الحس والعقل والخلق. والإنسان الوسط يستطيع أن يلحظ في غيره بسهولة تامة النقص الذي يعتري ناحية أو اكثر من هذه النواحي الثلاث. فيحكم عليه بأنه بارد الحس، أو ناقص العقل، أو معوج الخلق. وليس يهمنا ما يقال من أن الحكم في هذه الأحوال لا يكون إلا تقديرياً، وإنما الذي يعنينا هو أن الحس والعقل والخلق موجودة في كل إنسان، وإن تفاوت وضوحها، ووضوح اتجاهاتها في الناس، وإن اختلفت معاييرها فليس ينفي وجود القمح أن يكيله ناس بالإردب، وأن يزنه ناس بالقنطار. . .

ولما كان الكمال البشري يستدعي رقي الإنسان في نواحيه جميعاً بحيث تنسجم هذه النواحي فيه وتتوازن وتتضافر فتخطو به خطوة جديدة في طريق التطور والارتقاء تلبية لنداء الطبيعة التي تريدهما، لزم أن يكون كل عمل من أعمال الإنسان صادراً عن حس مرتق، وعقل مرتق، وخلق مرتق. فإذا اختل التوازن بين الحس والعقل والخلق في أي عمل من أعمال الإنسان عاب هذا الاختلال العمل وأنقص قدره.

ونحن إذا نظرنا إلى هذه النواحي الثلاث رأينا لكل ناحية منها طريقاً خاصاً من طرق الرقي الإنساني تسعى فيه. فالحس طريقه الفن، والعقل طريقه العلم، والخلق طريقه الفضيلة.

وأكمل الناس من غير شك هو الذي يرقى في معراج التطور بحسه وعقله وخلقه، وأقل منه كمالا من يرقى في هذا المعراج بناحيتين فقط من نواحيه الثلاث، والأقل كمالاً من يرقى في هذا المعراج بناحية واحدة. وأغلب الناس غير متوازنين، بل إن أغلبهم تنصقل في نفسه ناحية واحدة فقط من هذه النواحي فتضيء ما حوله ولكن بلون نورها هي، بينما يتخافت إلى جانبها النوران المنبعثان من الناحيتين الأخريين. وهكذا كان في الناس فنانو لا صلة لهم بالعقل ولا بالعلوم إلا ما يرد عنهم اتهام الناس إياهم بالجنون، وفنانون لا صلة لهم بالعقل ولا بالخلق، ومنهم من يرميه بالفسق إلى جانب الجنون. وهكذا أيضاً كان في الناس علماء لا صلة لهم بالحس فهم باردون، وعلماء لا صلة لهم بالحس ولا بالخلق، ومنهم من يرميه الناس بالجشع إلى جانب البرود. وهكذا أخيراً كان في الناس فضلاء تنبعث الفضيلة من أنفسهم فينالها من يكرههم كما تصيب من يحبهم لا يحبسونها ولو أوذوا، فلا هم عقلاء يحذرون كما يحذر غيرهم من العقلاء، ولا هم يحسون الشر فيما يحسون، وهؤلاء من بين أصحاب الفضيلة هم الأتقياء الزاهدون المضحون المظلومون.

وكل فرد من هؤلاء الأفراد الخارقين في نواحيهم الخاصة، والمتسامين فيها على مستوى الجمهور يعتبر عبقرياً في ناحية وإن أحصت عليه الإنسانية النقص في الناحيتين الأخريين، فما تزال العبقرية في نظر الناس ضرباً من ضروب الشذوذ، أو هي في الحق كذلك ما دامت تنحو إحدى نواحيه فقط.

فإذا أنكرنا على الإنسان أنانيته وطالبناه بان يرعى خير الإنسانية في كل عمل من أعماله وعلى الخصوص في تلك الأعمال التي تتصل بغيره وتؤثر فيه فإننا لا نملك إزاء الفنانين إلا أن نطالبهم بأن تتضافر نواحيهم الثلاث في إنتاجهم الفني كما نطلب ذلك من العلماء، وكما نطلب ذلك من أهل الفضيلة. فالفن أو أكمل الفن هو ما أرضى العقل والخلق إلى جانب ما يرضي الحس، كما أن العلم أو أكمل العلم هو ما أرضى الحس والخلق إلى جانب ما يرضي العقل، وكما أن لفضيلة أو أكمل الفضيلة هي ما أرضى العقل والحس إلى جانب ما يرضي الخلق.

هذا إذا راعينا أن الفنون والعلوم والفضائل هي أهداف الإنسانية التي تلح في سبيل الوصول إلى استكمالها موحدة منسجمة متزنة. فإذا لم ندقق كل التدقيق في هذا، فإنه يجوز منا أن نبيح للفنان أن يحاول السير في طريقه بالحس وحده، وللعالم أن يسير بالعقل وحده، وللرجل الفاضل أن يسير بالخلق وحده.

ولكن للإنسانية مثلاً عالياً تنزع إليه وتريد أن تلحقه وإن اختلفت صوره في أذهان الناس. ونحن إذا ما حاولنا أن نستخلص من بين هذه الصور الصورة التي نعتقد أنها أصدق صور الكمال فإننا عندئذ سنستطيع أن نتصور إلى جانبها صورة للإنسانية تكون هي اقرب صور الإنسان من الكمال، ويكون هذا تبعاً لمدى تحققه صورة المفرد من نواحي الكمال المطلوبة في صورة الإنسانية الكاملة. وسنرى كيف يمكن أن يتم التوازن بين حس الإنسان وعقله وخلقه في هذه الصورة العالية التي نكتشفها. وسنرى هل يتم هذا التوازن إذا كان للإنسان من حسه ومن عقله ومن خلقه مقادير متساوية، أو أن هذا التوازن يمكن أن يتم باختلاف في مقاديرها لدسم في بعضها وخفة في بعضها أو لضرورة تستوجب بعضها ولجواز يمكن به الاستغناء عن بعضها في بعض الأحيان.

سنختلف.

فقد اختلف الناس في هذا منذ أحسوا، ومنذ عقلوا، ومنذ كانت لهم أخلاق، وسيظلون مختلفين في هذا إلى أن يشاء الله فيكونوا أمة واحدة، وهم الآن أمم. ولكل أمة منهم مثل، وكل أمة منهم تنزع إلى تحقيق مثلها جادة حيناً ومتكئة حيناً، ومتناومة في اغلب الأحيان.

فإذا سألني سائل عن أمتي، ومثلي الذي أنزع إليه مؤمناً به، فأنا من أمة محمد. الفن عندي ما يحقق المثل الأعلى الذي رسمه محمد بدينه للحياة، والعلم عندي هو ما يحقق هذا المثل، والخلق عندي ما يتفق وروح الإسلام.

ولست أقهر إنساناً على أن يدخل في أمتي، ولا على أن يتدله بمثلي الأعلى، ولكني أقولها بعد تأمل أعتقد أنه قد يكفي متعجلاً مثل من أبناء هذا العصر العجول. . . كلمة فيها من القدم رزانة الشيخوخة ومن الأبدية عنفوان الشباب، وهي أن المثل الأعلى الذي رسمه الإسلام للإنسان والصورة النقية التي رسمها للإنسانية هما صورة أرقى حي في أرقى صورة للحياة، فما كان عبثاً ما قال الله من أن محمداً هو خاتم النبيين والمرسلين، وأن الإسلام هو ختام الأديان. ونحن إذا أنعمنا النظر في الإسلام رأيناه يشمل كل الأديان الساعية إلى الله، وأنه يبرئ الله مما ألحقه به الناس من الباطل والزيف، وإذا صدق هذا اصدق معه أن أسمى المثل الإنسانية العليا ليس إلا بعض المثل الإسلامي الأعلى، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نجعل الإسلام حكماً على أعمال الإنسان الروحية كلها سواء منها الحسية والعقلية والخلقية، فإذا لم يرض بعض الناس عن الإسلام حكماً فلهم أمثلتهم العليا يحكمونها كما يشاءون فيما يشاءون فكل ما يملكه عاجز ضعيف مثلي في مقام كهذا هو أن يقول لهم: قبل أن تستبعدوا الإسلام تدبروه.

فإذا تدبروه فهم معي مسلمون. فإذا أسلموا فهم أمة وسط، وما داموا أمة وسطاً فعليهم أن يراعوا العقل والخلق في فنهم فيجعلوا لهما فيه نصيباً، وعليهم أن يراعوا الحس والخلق في علمهم فيجعلوا لهما فيه نصيباً، وعليهم أن يراعوا الحس والعقل في فضائلهم فيجعلوا لهما فيها نصيباً. وهذا يحدث عفو خاطرهم بدون تدبر وبدون اختيار إذا كانوا مسلمين. فالإسلام هو دين الفطرة، كما أن الفن الصحيح السليم هو فن الفطرة، وكما أن العلم النافع هو علم الفطرة الذي يعلمه الله الناس سواء أكانوا أميين أم كانوا قارئين كاتبين، وكما أن الخلق القويم هو خلق الفطرة الذي يصدر عن الإنسان عفواً من غير تدبير ومن غير اختيار.

وبعد أن رأينا للفطرة هذا الجلال وهذا الخطر، فإنه قد يعارضنا هنا سؤال له محل من التفكير، فقد يقول لنا قائل: أليس من فطرة الإنسان أن ينزع أحياناً إلى ما تستنكره الأخلاق، والى ما يزور عنه العقل، فإذا لبى هذا النزوع بالفن كان فنه فطرياً، ولكنه مع هذا لم يكن متمشياً مع الإسلام الذي وإن كان دين الفطرة فهو يرسم قيوداً، ويقيم من الأخلاق حراساً على هذه القيود؟ وجوابنا على هذا السؤال هو أن النزوع بالفن إلى ما تنكره الأخلاق ما ينكره العقل ليس نزوعاً فطرياً، وإنما نزوع فيه شيء من النقص يعتري صاحبه إذ ينسى غيره، وإذ ينزع بالفن إلى تلبية إحساسه والتعبير عنه، فهو بهذا الفن يرضي نفسه وحدها، وفي ساعة عاجلة من ساعات حياته هو، فهو لا يحس بمستقبله ولا يفكر فيه، ولا يحس صلته بغيره ولا يفكر فيها، ولا يحس آثره في غيره ولا يفكر فيه.

ونحن لا نستطيع أن ننكر أن هذا الضرب من الفن. . . فن. ولكنه فن جامح ينظمه صاحبه من حبات نفسه ليرضى به هو وحده. ونحن إذا تأملنا ألوان الفن التي ينكرها العقل لم نجد غير الخرافات الفنية، وهي لا تؤذي الإنسانية في شيء إلا إذا حاول فنان خداع مقنع بالحيلة أن يحمل الناس على أن يؤمنوا بأنها حقيقة واقعة، ولم يظهر في الدنيا فنان من هؤلاء إلا وخرج بخداعه عن دائرة الفن إلى دائرة النصب والاحتيال. وإذا تأملنا ألوان الفن التي ينكرها الخلق لم تجدها إلا لمامات تعرض لنواح من الحياة يكاد يعرفها الناس جميعاً، ويكادون يتذوقونها جميعاً، ويكادون يستطيعون أن يعبروا عنها جميعاً تعبيراً لا يقل صدقاً ولا روعة عما يعبر به الفنانون عنها. فإن لم يتأت لجمهور الناس بالفعل التعبير عن هذه النواحي المبتذلة من الحياة التي يتعفف الفن الإسلامي عنها، فهم يستطيعون هذا التعبير بالقوة. وهذا هو ما يغرينا بالمضي في الحرص على اتباع الإسلام حتى في الفن؛ فهذا الذي نخسره من الفن بهذا الحرص تافه وهين ما دام جمهور الناس يستطيعونه، والفنان يطلب منه شيء أكثر مما يطلب من عامة الناس، وهو الكائن الحي الناضج الحياة الذي يتوقع منه الناس أن يكشف لهم بإحساسه المرهف من حقائق الحياة ومباهجها وجمالها ما لا يستطيعون هم أن ينتهوا إليه بحسهم، كما أنهم يحبون من علمائهم أن يهدوهم من حقائق الحياة ومنافعها إلى ما يعجزون هم عن أن يصلوا إليه، وكما انهم يحبون من الهداة الأتقياء ذوي الفضل أن يرسموا لهم ما ينبغي أن يكون، وما ينبغي إلا يكون.

وما أجل هذا الذي يجتمع له هذا كله فيكون هادياً بفضائله وعلمه وفنه.

فإذا لم يتيسر هذا لرجال الإنسانية عفواً فان الإرادة كفيلة بتحقيقه. ولست اقصد بالإرادة أن يعتزم الفنان أن يحقق في فنه الأخلاق الفاضلة، ونفسه بعيدة عن الأخلاق الفاضلة. فيخرج فنه متكلفاً سخيفاً يشعر كل من يتصل به بأنه فقد ميزته الأساسية الأولى، وهي أن يكون تلبية لنداء الطبيعة والفطرة، وإنما الذي اقصده هو أن يبدأ الفنان بتحقيق الفضيلة في نفسه هو. فإذا أبدع فناً بعد ذلك كان الفن صورة نفسه، وكان الفن فاضلاً.

وطبيعة التطور والارتقاء تطالب الفنانين بهذا، كما أنها تطالب به العلماء، وكما أنها تطالب به أصحاب الأخلاق والفضائل. ذلك أن الحياة الروحية للإنسان تريد أن تسمو وأن تتقدم الخطى إلى الامام، وطريقها إلى هذا الرقي هو نفوس الناس أنفسهم، وما دام في الإنسان إرادة فلابد من أن يكون لهذه الإرادة لزوم في تحقيق التطور والارتقاء بدليل أنها لا تزال موجودة في نفس الإنسان، وأن لإنسان لا يزال يمارسها في كل أعماله تقريباً، وما دام الأمر كذلك فانه قد حق علينا أن نريد ترقية أنفسنا، ثم أن نعمل على هذه الترقية. أما الإرادة فأمرها بيدنا، وأما العمل فطريقه التدريب، وكما أن للعقل تدريباً يساعده على بلوغ العمل، وكما أن للخلق تدريباً يساعده على بلوغ الفضيلة، فإن للحس تدريباً يساعده على بلوغ الفن!

وقد ارتضى كل فنان لنفسه مثلاً أعلى يريد أن يرقى إليه وأنا اخترت الإسلام من هذه المثل لمن يعجبهم اختياري.

أما أولئك الذين لا يريدون أن يرقوا فلهم أن يعربدوا بفنهم وبعلمهم، وبأخلاقهم ما شاءت لهم حرية التائه الضال.

عزيز أحمد فهمي