مجلة الرسالة/العدد 319/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 319/التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
لم تطل حيرة توفيق فانه آثر جانب ماليت وخطا بذلك خطوة أخرى من خطواته التي كانت تعجل سير الحوادث أبداً نحو الغاية التي رسمها الإنجليز والتي كان الوصول إليها معناه التهام مصر وازدراد تلك اللقمة التي طالما منت إنجلترا نفسها بازدرادها.
ولعلنا نذكر من مواقف توفيق السالفة ما كان يدفع به الحوادث في طريق العنف والثورة دفعاً، فهو الذي أدى إلى انضمام الحزبين العسكري والوطني وتضافرهما يوم تنكر للدستور وأخرج شريفاً من الوزارة وهو الذي تقع على عاتقه قبل غير مسؤولية مظاهرة عابدين ثم هو الذي قبل المذكرة المشتركة فأحبط أعمال شريف للمرة الثانية وصدم الوطنيين صدمة لم تدع لهم بعد رجاء فيه.
وليس بعجيب أن تكون خطى توفيق كلها مفضية إلى الاقتراب من الكارثة فإنما كان يعمل بوحي من الإنجليز وهؤلاء قد عينوا الهدف الذي يقصدون إليه بسياستهم؛ وكان الخديو قد دان بمبدأ نحسب أنه جرى في نفسه مجرى العقيدة، وذلك أن يؤثر جانب الإنجليز في كل شيء لأن في ذلك كما توهم منجاته من الصعاب التي كانت تحيط بعرشه.
رأى الخديو كما رأى ماليت أن حكم المجلس العسكري على المتآمرين من الجراكسة حكم جائر لا يسعه الموافقة عليه، ورأت الوزارة من جانبها أنها سلكت في المسألة منذ بدايتها مسلكا لا غميزة فيه فهي بذلك تتمسك بالحكم الذي أصدره المجلس، هذا إلى أن رفض الحكم من شأنه أن يضيع هيبتها وينتقص نفوذها ثم إنها فوق ذلك ترى التحيز واضحاً من جانب الخديو ذلك الذي كان يتشدد بالأمس أعظم التشدد يوم سبق عرابي وصاحباه إلى المحاكمة لمجرد أنهم شكوا إلى أولياء الأمر حالهم. . . ومن هنا قامت أمام البلاد مشكلة من أدق المشاكل وأخطرها.
وكان الذي يغضب الأمة والوزارة في الواقع أشد الغضب وآلمه تدخل الإنجليز في تلك المسألة التي لا صلة لهم بها ولا شبه صلة، وأحست الوازرة أن غرضهم هو إحراجها فحسب، ومن هنا اتخذت المشكلة مظهراً دقيقاُ غاية الدقة خطيراً كل الخطر، فلقد وجد الوطنيون البلاد تلقاء موقف تمتحن فيه الكرامة الوطنية والعزة القومية، ورأوا الظروف تعود من جديد فتظهر للخديو أن لا سبيل له إلا سبيل الوطنيين لأنه بانحرافه عن هذه السبيل إنما يطعن البلاد طعنة نجلاء في صميم قوميتها.
ولقد فرح المستعمرون، لا ريب، أن تتعقد المشكلة على هذا النحو، وزاد فرحهم أنها من صنع أيديهم، لذلك كانوا لا يألون جهداً في العمل على تفاقمهما بكل ما وسعهم من مكر وخبث، وراحت صحفهم تزيد نار الخلاف اشتعالاً، لا تتورع ولا تتوانى ومن ورائها رجال السياسة ورجال المال يصورون مصر في أشنع حالات الفوضى والاضطراب، فلقد سيطر رجال العسكرية وسيطر زعيمهم عرابي على كل شيء حتى ما يقف في طريقه حائل من قانون أو التزامات حتمتها الديون والظروف على مصر.
وكان الخديو في الواقع تلقاء آخر فرصة يستطيع أن ينقذ بها مصر مما كان يبيت لها، ولكنه ألفى نفسه سليب الإرادة أمام إرادة الإنجليز، بل لعله فرح أن يلطم وزارة البارودي لطمة يتخلص بها منها ويتخلص بذلك من عرابي الذي بات يغار منه أشد الغيرة حتى ما يطيق أن يسمع اسمه. . . وليت توفيقاً تحرك من تلقاء نفسه، إذاً لهان الخطب وخفت وطأة البلوى على النفوس فقد كان يمكن أن يقال يومئذ إنه ارتأى رأياً، وإنه ينتوي الخير أو ينتوي الشر حسب ما يرى، ولكنه وا أسفاه كان يقوى على الوطنيين بضعفه فلم يك يريد شيئاً وإنما كان يراد له كل ما يأخذ أو يدع من أمر.
وبدا لماليت فأوعز إلى الخديو أن يتخلص من المأزق بعرض الأمر على السلطان، وحجته أن عثمان رفقي يحمل لقب الفريق، فلا يجوز لأحد غير السلطان أن ينزع منه هذا اللقب. وسرعان ما فعل توفيق كما أشار به ماليت فزاد الأمور ارتباكاً وتعقيداً.
ولقد أخطأ ماليت خطأ كبيراً فيما أشار به، فإنه جر بذلك تركيا إلى الدخول في ذلك النضال، الأمر الذي كانت تحذره الدولتان أعظم الحذر وإن كانت إحداهما تخفيه، بينما الأخرى لا تتحرج من أن تعلنه في كل مناسبة وتبديه.
أما الوطنيون فقد غضبوا لذلك أشد الغضب، ورأوا فيه ضرباً جديداً من لؤم ماليت، فاجمعوا أن يمنعوا تدخل تركيا مهما كلفهم ذلك من وجوه الصعاب والمشاق. وبلغ الغضب برئيس الوزراء أن يعلن في عزم مصمم (أنه إذا أرسل الباب العالي أمراً ينقض حكم المجلس العسكري على الجراكسة السجناء، فإنا لن نطيع هذا الأمر، وإذا أرسل الباب العالي من قبله مندوبين، فسوف لا نسمح لهم أن يهبطوا مصر، وسوف نردهم بالقوة إذا لزم الأمر).
وهذه لا ريب ثورة غضب من البارودي نعدها من أخطائه. فلقد أفضى بهذا التصريح إلى ماليت، وهذا أرسله إلى حكومته وإنه لشديد الاغتباط به إذ يسوقه دليلاً على أن الأمور قد بلغت غاية التحرج؛ ثم إنه يسوقه من الجهة الأخرى دليلاً على صحة ما ذكره مراراً وهو تسلط زعماء الجيش واستهتارهم بكل سلطة. ولم ينج عرابي من حملات الكائدين له وحمل مسؤولية هذا التصريح كأنما كان هو قائله، وأرجف المرجفون أن البارودي إنما يعمل بوحي من عرابي الذي يعتبر الحاكم الحقيقي للبلاد!
الحق أن البارودي قد أساء إلى القضية إساءة كبيرة بهذا التصريح. فهو فضلاً عما ذكرنا، إنما يتحدى السلطان في ذلك الوقت العصيب فيضيف إلى أعدائه عدواً جديداً، وإن الذي يحيط به الأعداء من كل جانب لجدير به أن يحتال ليستل السخائم من صدورهم، أو ليكسب من الأعوان والأصدقاء من يكونون له في الشدة قوة وسنداً.
ولعل البارودي كما نفهم من المسألة المصرية يومئذ في جملتها، كان يكره تدخل السلطان العثماني كما يكره تدخل إنجلترا وفرنسا؛ ولم يك ذلك عن حب في استقلال مصر ورغبة في سيادتها، وإنما كانت لهذا الرجل أطماع جليلة الخطر. فكان يتطلع ببصره إلى عرش مصر، وكانت توسوس إليه نفسه أنه بهذا المركز جدير ففي عروقه دماء الحاكمين منذ القدم. فهو كما يزعم من سلالة الأشراف (بارسباي)، وعلى ذلك، فقد كان جده من زمن بعيد على ذلك العرش الذي تنزع اليوم إليه نفسه، والذي يخشى أن تشايع تركيا الأمير عبد الحليم فيتربع فوقه إذا أخلى من الجالس عليه.
وكانت النتيجة المباشرة لهذا التصريح استحكام الأزمة بين الوزارة والخديو. فلقد رأى توفيق انه أصبح في الواقع وليس له من الأمر شيء. فإذا كان البارودي يقف هذا الموقف في وجه السلطان نفسه، فكيف به إذا وقف منه هو؟ وهذا هو المعنى الذي كان لا يفتأ ماليت وأعوانه يوحونه إلى الخديو في تلك الأزمة العصيبة.
ولو أن الوزارة أصرت يومئذ على موقف العناد والصرامة لحملت قسطاً كبيراً من المسؤولية عن تعقد الأمور وتحرجها، ولكنها ما لبثت أن خطت خطوة حميدة حقاً تنطوي على كثير من الكياسة وبعد النظر، فإنها تقدمت إلى الخديو تقترح أن يخفف هو الحكم من تلقاء نفسه دون الرجوع إلى تركيا أو غيرها، والوزارة ترضى في هذه المسالة أن ينفى المحكوم عليهم من مصر إلى أي جهة من الجهات دون أن تمس رتبهم أو ألقابهم وإنما تستبعد أسماؤهم من سجلات الجيش المصري.
وهذا المقترح لا ريب دليل صادق على حسن نية الوزارة ورغبتها في أن تنتهي تلك المسألة وتنجو البلاد من لؤم الأعداء، وهي فيما تقدمت به متساهلة أكبر التساهل، فما دام المجلس العسكري قد حكم بإدانة هؤلاء فإبعادهم من البلاد يقتضي حتماً إبعادهم من الجيش. . . ولكن الخديو وا أسفاه قد تنمر اليوم للوزارة وتنكر، فرفض أن يجيبها إلى هذا المقترح.
وكان ماليت من ورائه لا ينفك يوسوس له ويزين له فعل السوء؛ وكان جرانفل قد أنكر من ماليت ما أشار به على الخديو من دعوة تركيا إلى التدخل، فكتب إليه أن يسير على وفاق مع ممثل فرنسا، وفي هذا تلميح إلى ما كان في سياسته من خطأ، وكان ممثل فرنسا يسير بوحي من فرسنيه، ولكن ماليت قد عز عليه أن يتراجع بعد هذه الخطوات فينقض ما نسجه بيده من غزل، فانظر إليه كيف يخلع النقاب على صورة قل أن يوجد مثيل لها في سجل السياسة العام فيكتب إلى جرانفل قائلا: (اسمحوا لي أن ألاحظ أنه عند النظر في الخطة التي يجب أن يسلكها الخديو بازاء حكم المجلس العسكري يجب أن نلقي نظرة عامة على الحالة كلها، وأن نذكر أن الوزارة الحاضرة تسعى لتضييق نطاق الحماية الإنجليزية الفرنسية، وأن نفوذنا أخذ كل يوم في النقصان وقد يستحيل علينا أن نستعيد سلطتنا العليا حتى تخضد شوكة الحكم العسكري الذي يرزح القطر تحته الآن. وفي اعتقادي انه لابد من حدوث ارتباكات شديدة قبل الوصول إلى حل مرض للمسألة المصرية، وأن الحكمة تقضي باستعجال هذه الارتباكات لا بتأجيلها).
وأي كلام يمكن أن نعلق به على هذا الذي يقول ماليت وعلى الأخص تلك الحكمة التي يشير إليها؟ أهكذا تطغي المطامع على العقول والقلوب حتى لتجعل من الحكمة استعجال الارتباكات! ولكن خرافة الذئب والحمل لن تزال أبداً الأساس الذي يقوم عليه المنطق في كل ما يجري من كلام بين الضعيف والقوي في هذا الوجود.
وأي دليل أبلغ من هذا الدليل على صحة ما ذكرناه ويذكره كل منصف عن السياسة الإنجليزية تجاه مصر منذ كان لها في هذا الوادي أطماع؟ ألا إنا لنقرر في غير تردد أن هذه السياسة اللئيمة كانت خليقة بان تقابل من جانب الوطنيين بكل مقاومة، بل إنها سياسة كان يغتفر في مقاومتها يومئذ كل عنف. . . ولكن بعض الناس لا يزالون يأخذون على عرابي وحزبه تشددهم وعدم مصانعتهم خصومهم ويعدون حسناتهم هذه من السيئات التي لا تغتفر ولا تنسى.
ورأى جرانفل أن يشايع فرسنيه في هذه المسألة وكان يرى فرسنيه أن يخفف توفيق الحكم كما ترى الوزارة فتنتهي هذه الأزمة؛ ولكن كيف يدع ماليت الفرصة تمر وهي من صنع يديه؟ وكيف يطيق أن تخرج الوزارة من الأزمة ظافرة فيكون ظفرها في الواقع هزيمة له؟ لذلك ما زال بتوفيق حتى وقع على أوراق الحكم بنفي المتآمرين إلى خارج البلاد مع عدم استبعاد أسمائهم من سجلات الجيش!
وتلقت الوزارة اللطمة وتلقتها معها البلاد، وآلم عرابي وضباط الجيش من الوطنيين هذا الترفق بالمتآمرين وهم الذين كانوا على وشك أن يفقدوا رؤوسهم بالأمس أو ينفوا إلى أقصى السودان لأنهم شكوا من سوء ما يصنع بهم رفقي. . .
وأعلنت الوزارة على لسان رئيسها أن لابد من قرار يلغي هذا القرار حتى تمحي تلك الإهانة التي وجهت إليها وإلى البلاد في شخصها، ولكن ماليت حذر الخديو أن يجيب وزراءه إلى ما طلبوا! ويستطيع القارئ أن يدرك خطورة هذا الموقف فلقد تأكدت القطيعة بين الخديو ووزرائه وانعدمت الصلة وتفاقم البلاء.
وصل كل من الطرفين إلى الموقف الذي يفسر به كل عمل حسب ما يجري في أطواء النفوس، ففي كل حركة ريبة وفي كل بادرة إهانة، وكل نية لن تكون إلا نية سوء، وكل جنوح إلى السلم لن يؤخذ إلا على انه ضرب من الهزيمة والتسليم، وكل كلمة نابية أو شديدة لن تفهم إلا على أنها ضرب من التحدي يراد به إعنات القلوب وإحراج الصدور. .
وفي هذا الموقف الخطير راح السير إدوارد ماليت يجني ثمار غرسه وإنه ليطفر من الفرح كما يطفر الشيطان. كتب إلى جرانفل في اليوم الثامن عشر من شهر مايو سنة 1882 أي بعد قرار الخديو بتسعة أيام يقول (لقد انقطعت العلاقة بين الخديو ووزرائه ووصل الموقف إلى أقصى الخطورة).
وتقدمت الوزارة لترد على الخديو فخطت خطوة جريئة بالغة الجرأة، فدعت مجلس النواب دون الرجوع إلى الخديو لتعرض عليه الأمر، فازدادت الأمور حرجاً على حرج، فلقد عد أعداء البلاد هذا العمل من الوزارة بمثابة خروج على الحاكم الشرعي لا يقل في مغزاه عن خلعه من عرشه، ونسوا أو تناسوا أن الخديو باتباع مشورتهم هو الذي دفع الوزارة حتى أوقعها في مأزق ضيق بحيث لم يبق أمامها إلا أن تقر الخديو على خروجه على الدستور ومشابته أعداء البلاد أو تستقيل، وفي كلا الأمرين تفريط منها في حقوق البلاد فضلا عن كرامة رجالها.
وانطلقت الشائعات من هنا ومن هناك، فالبارودي يريد أن يثب إلى العرش والجيش على أهبة لأن يتحرك إلى عابدين ليرغم توفيقا على قبول مطالب الوطنيين كما أرغمه على مثل ذلك في اليوم التاسع من شهر سبتمبر من العام الماضي، والخديو بعد العدة للمقاومة إلى غير ذلك من الأراجيف التي كان من طبيعة مثل ذلك الموقف أن يخلقها.
ولو كانت الروح العسكرية هي المسيطرة على الحكم يومئذ كما ارجف المرجفون لما وقف حائل أمام الجيش دون الذهاب إلى القصر وليكن بعد ذلك النصر أو الطوفان، ولكن الوزارة رأت أن تحتكم إلى نواب البلاد، ولما كانت واثقة أن الخديو لن يدعو المجلس دعته هي ليفصل في الأمر ولا عبرة بالشكل في سبيل تحقيق الجوهر.
(يتبع)
الخفيف