مجلة الرسالة/العدد 317/حول كتاب:
مجلة الرسالة/العدد 317/حول كتاب:
مستقبل الثقافة في مصر
نظرة انتقادية عامة
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
- 2 -
وأما مآخذ المقدمات والبراهين التي بنى عليها مؤلف الكتاب (الحكم) الذي ذكرناه آنفاً، فهي كثيرة ومتنوعة؛ سأكتفي بذكر ثلاثة منها، لإعطاء فكرة عامة عنها:
1 - عندما يسأل المؤلف: (أمصر من الشرق أم من الغرب؟) يوضح قصده من هذا السؤال بقوله: (أنا لا أريد بالطبع الشرق الجغرافي والغرب الجغرافي، وإنما أريد الشرق الثقافي والغرب الثقافي) ثم يعقب قوله هذا بالعبارات التالية:
(فقد يظهر أن في الأرض نوعين من الثقافة يختلفان أشد الاختلاف، ويتصل بينهما صراع بغيض، ولا يلقى كل منهما صاحبه إلا محارباً أو متهيئاً للحرب: أحد هذين النوعين هذا الذي نجده في أوروبا منذ العصور القديمة، والآخر هذا الذي نجده في أقصى الشرق منذ العصور القديمة أيضاً). . . (ص: 7)
يصعب عليَّ جداً أن أوافق المؤلف على ما جاء في عباراته هذه: لا أدري ما هي الثقافة التي كانت موجودة في أوربا منذ القرون القديمة؟ وما هو الصراع البغيض الذي اتصل بين هذه الثقافة وثقافة الشرق الأقصى المخالفة لها؟ ومتى وكيف حدث هذا الصراع، وبأي شكل انتهى. ما هي الحروب التي حدثت بين هاتين الثقافتين، كلما التقتا؟ ما هي تواريخ التقاء هاتين الثقافتين المتخاصمتين؟ وما هي تفاصيل الحروب التي نشبت بينهما كلما حدث هذا الالتقاء؟
إن كل ما أعرفه عن التاريخ بوجه عام، وتاريخ الحضارة، وتاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم بوجه خاص. . . لا يساعدني (مع الأسف الشديد) على إعطاء أجوبة مثبتة على هذه الأسئلة. . . وبعكس ذلك، كل ما أعرفه في هذا المضمار، يحملني على القول بخلاف ذلك تماماً. . . كل ما أعرفه في هذا المضمار يحملني على القول بأن الصراع الذي حدث بين الثقافات والحضارات التي نشأت وترعرعت حول بحر الروم نفسه، كان أشد وأعنف وأطول من الخصام الذي حدث بين هذه الثقافات والثقافات الهندية والصينية بدرجات كبيرة. . .
مع هذا أتساءل حائراً: ما الفائدة من هذه الأبحاث في هذا المقام؟ ما شأن هذه القضية بشرقية مصر أو غربيتها؟ وهل من علاقة منطقية بين هذه القضية وبين مسألة وجود أو عدم وجود فروق جوهرية بين العقل المصري والعقل الأوربي؟
يتساءل المؤلف في هذا المقام:
- أيهما أيسر على العقل المصري: أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنكليزي؟
(هذه هي المسألة التي لا بد من توضيحها وتجليتها قبل أن نفكر في الأسس التي ينبغي أن نقيم عليها ما ينبغي لنا من الثقافة والتعليم؟) (ص7)
وهل من مفكر يقول - في مصر أو في غير مصر - بوجوب إقامة الثقافة والتعليم على أسس ثقافة الصين أو اليابان؟
إنني أعتقد أن هذه الأبحاث كلها من الأمور الاستطرادية التي لا ضرورة لها ولا فائدة منها: فلا الاتفاق في أمرها يكون سبباً كافياً لقبول الحكم المتعلق بعدم وجود فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي، ولا الاختلاف في شأنها يكون سبباً مبرراً لرفض ذلك الحكم
كما أن الاتفاق أو الاختلاف عليها لا يستلزم الاتفاق أو الاختلاف في تثبيت الأسس التي يجب أن تقام عليها الثقافة والتعليم، في مصر وفي سائر البلاد العربية
2 - قبل أن ينتهي المؤلف من مناقشة قضية (الشرق والغرب) يتطرق إلى مسألة أخرى، فيثير قضية (تأثير وحدة الدين ووحدة اللغة في تكوين الدول) إنه يقول في هذا الصدد ما يلي:
(من المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة، لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية، ولا قواماً لتكوين الدول. . .) (الصفحة 16)
(فقد تخففت أوربا من أعباء القرون الوسطى، وأقامت سياستها على المنافع الزمانية، لا على الوحدة المسيحية، ولا على تقارب اللغات والأجناس. . .) (الصفحة 18)
إن هذه الآراء تستوقف النظر، وتستوجب المناقشة في عدة وجوه:
أولاً - يستعمل المؤلف في الفقرة الأولى تعبير (وحدة اللغة)، وفي الفقرة الثانية تعبير (تقارب اللغات). ولا أراني في حاجة إلى الإيضاح بأن الفرق بين مفهومي التعبيرين المذكورين كبير جداً
ثانياً - يسوي المؤلف - في كلماته هذه - بين وحدة الدين ووحدة اللغة في وجهة التأثير السياسي؛ ويدعي أن تأثيرهما في السياسة كان من خصائص القرون الوسطى، وأن أوربا تخلصت من تأثير هذين العاملين منذ عهد بعيد. . .
إنني أعتقد أن كل ذلك مخالف لحقائق التاريخ وقوانين الاجتماع مخالفة صارخة: فإن عمل وحدة اللغة في الحياة الاجتماعية والحوادث التاريخية، يختلف عن عمل وحدة الدين اختلافاً كلياً: يذكر التاريخ - بين حوادث القرون الوسطى والقرون التي تلتها - أمثلة كثيرة لعمل الدين في السياسة؛ كما يسجل وقائع عديدة تظهر تأثيرات مبدأ (حقوق الملوك) في تكوين الدول وتوحيدها؛ ويذكر أمثلة كثيرة لانضمام بعض الأقطار إلى أخرى، بسبب وقائع التزاوج والتوارث التي حدثت بين الأسر المالكة. ولكنه لا يذكر - بين حوادث تلك القرون - مثالاً واحداً عن تكوين دولة على أساس (وحدة اللغة)
إن وحدة اللغة لم تصبح من القوى الفعالة في تكوين الدول وتوجيه السياسات إلا في القرن الأخير، وإلا بعد أن فقدت (وحدة الدين) قوتها وتأثيرها في هذا المضمار. . . كما أن تأثير (وحدة اللغة) في السياسة لم ينته بانتهاء الفرق المذكور، بل أزداد شدة في القرن الذي نعيش فيه، وهو لا يزال مستمراً وشديداً. . .
ولهذه الأسباب أقول: إن قياس (وحدة اللغة) على (وحدة الدين) في هذا المضمار، والادعاء أنها فقدت تأثيرها السياسي وعملها التكويني منذ عهد بعيد. . . لا يتفق مع حقائق التاريخ، بوجه من الوجوه. . .
يقول المؤلف إثباتاً لمدعاه: إن السياسة شيء والدين شيء آخر. إني أوافقه على قوله هذا، ومع هذا أستغرب كيف يسوغ لنفسه أن يحشر اللغة مع الدين في الفقرات التي تلي هذا الكلام! فلنقل ولنصح مع المؤلف: إن السياسة شيء والدين شيء آخر، ولكننا هل نستطيع أن نقول: إن السياسة شيء واللغة شيء آخر؟ لا شك في أننا نستطيع أن نقول للناس: ليحتفظ كل منكم بمعتقده الديني لنفسه؛ ولكن هل نستطيع أن نقول لهم: ليحتفظ كل منكم بلغته لنفسه؟
يقول المؤلف: إن أوربا أقامت سياستها على المنافع الزمانية؛ فهل يستطيع أن يدعي أن اللغة لا تدخل في نطاق المنافع الزمانية؟ إذا شك في ذلك رجوت منه أن يتصور نفسه - لحظة واحدة - فرداً في رعايا مملكة أجنبية، لا يعرف شيئاً عن لغتها الرسمية؛ ويستعرض أنواع المشاكل التي يقع فيها في كل خطوة من خطوات حياته اليومية؛ فليقل عندئذ هل اللغة خارجة عن نطاق الأمور الزمانية؟
لننعم النظر في سياسة الدول التي قطعت أبعد الأشواط في فصل الدين عن السياسة، وغالت أشد المغالاة في حصر أعمال الدولة في نطاق الأمور الزمانية: هل هي أقدمت على فصل اللغة أيضاً عن السياسة؟ وهل تركت مسائل اللغة خارجة عن ساحة أعمال السلطات الزمانية؟
إنني أعتقد اعتقاداً جازماً أن اللغة تختلف عن الدين في وجوه الطبيعة الذاتية، والتأثير النفسي، والعمل الاجتماعي. إن عدم ملاحظة هذا الفرق الجوهري - الموجود بين اللغة والدين - في هذه الوجوه المختلفة، قد عرّض المؤلف لأخطاء كبيرة، وأوقفه مواقف يخالف فيها أثبت وقائع التاريخ، وأظهر حقائق الاجتماع مخالفة صريحة
يحاول المؤلف أن يستشهد على أقواله الآنفة بتاريخ الإسلام أيضاً. غير أن محاولاته هذه لا تزيده إلا تغلغلاً في الأغلاط وتباعداً عن حقائق التاريخ. . .
3 - يتحدث المؤلف عن اتصال مصر بأوربا، وعن اندفاعها في اقتباس الحضارة الأوربية معتبراً سهولة هذا الاتصال، وسرعة هذا الاندفاع من الدلائل التي تبرهن على عدم وجود (فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي)
غير أنه خلال ذلك يتطرق إلى (نظم الحكم وأشكال الحياة السياسية) في مصر، ويبدي رأياً غريباً في هذا الصدد إذ يقول:
(إن الذين أرادوا أن يستبدوا بأمور مصر في العصر الحديث كانوا يذهبون مذهب لويس الرابع عشر وأشباهه، اكثر مما كانوا يذهبون مذهب عبد الحميد وأمثاله) (الصفحة 32) في اعتقادي أن هذا الرأي لا يستطيع أن يقاوم أبسط المناقشات
فلنفكر أولاً: ماذا يقصد المؤلف من تعبيرات (مذهب لويس الرابع عشر وأشباهه ومذهب عبد الحميد وأمثاله)؟ إن ذلك يظهر بوضوح في العبارات التي سبقت الفقرة الآنفة الذكر والتي تلتها. فقد قال المؤلف، قبل الفقرة المذكورة: (إن نظام الحكم المطلق عندنا في العصر الحديث كان متأثراً بنظام الحكم المطلق في أوربا قبل انتشار النظام الديمقراطي. . . وإن نظام الحكم المقيد عندنا كان متأثراً بنظم الحكم المقيد في أوربا أيضاً. . .)
كما قال بعد الفقرة المذكورة: (والذين أرادوا أن يحكموا مصر حكماً مقيداً بالعدل، دون أن يشركوا الشعب معهم في الحكم كانوا يتخذون لحكمهم قيوداً أوربية لا شرقية) لأنهم نقلوا نظم الإدارة والحكم من أوربا، (ولم يستمدوه مما كان مألوفاً عند ملوك المسلمين وخلفائهم في القرون الوسطى. . .)
بعد أن فهمنا بهذه الصورة ما يقصده المؤلف من هذه التعبيرات يقتضي أن نتوجه إليه بالأسئلة التالية:
هل يستطيع أن يدعي أن عبد الحميد لم يستند في حكمه واستبداده إلى نظم أوربية؟ وهل يستطيع أن يقول بأن بلاط القاهرة لم يتأثر ببلاط الآستانة؟
أما أنا فأستطيع أن أبرهن بكل سهولة أن حكم عبد الحميد أيضاً لم يكن من النوع الذي كان مألوفاً عند ملوك المسلمين وخلفائهم في القرون الوسطى)، وعلى أن استبداده أيضاً كان متأثراً إلى حد بعيد (بنظام الحكم المطلق في أوربا) كما أستطيع أن أبرهن على أن تأثيرات الآستانة في القاهرة كانت واضحة جداً.
. . . مع هذا أرى من الضروري أن أسأل: ما الفائدة من إثارة هذه المسائل في هذا المقام؟ وهل من علاقة منطقية وعلمية بينها، وبين المسألة الأصلية التي يعالجها المؤلف في الصفحات التي ذكرناها؟
هذه ثلاثة نماذج واضحة على (المباحث الاستطرادية) التي كثيراً ما يحشرها المؤلف بين مباحثه الأصلية، يورط نفسه من جرائها في أغلاط كبيرة. . .
من المعلوم أن (التفكير العلمي) يتطلب تحليل المسائل، وتجزئة المشاكل، ليسهل معالجة كل جزء منها على حدة. وأما الخطة التي يسير عليها الدكتور طه حسين في أبحاثه هذه - في أكثر الأحيان - فمعكوسة لذلك تماماً: لأنه كثيراً ما يخلط المسائل بعضها ببعض، ويدخل بعضها في بعض، فيزيدها بذلك تعقيداً وإشكالاً. . . وكثيراً ما يحاول أن يبرهن على كل قضية بمجموعة قضايا أخرى أكثر حاجة إلى البحث والبرهنة من القضية الأصلية نفسها.
- 3 -
بعد الانتقادات التي سردتها آنفاً، اعتراضاً على بعض الآراء التي دونها الدكتور طه حسين في الصفحات السبعين الأولى من كتابه، خلال درسه للمسألة المبحوث عنها - أعني مسألة العقل المصري، والعقل الأوربي - لابد لي من أن أنقل البحث إلى وجهة نظر أخرى، فأقول كلمة في بعض النقائص التي ألاحظها على بحوث المؤلف في هذا الباب، من جراء عدم التفاته إلى بعض الأمور المهمة، بالرغم من شدة علاقتها بالموضوع، وبالرغم من ضرورة ملاحظتها لإتمام بحث المسألة من جميع وجوهها.
لا شك في أن الطريقة المثلى لدرس مثل هذه المسائل درساً علمياً، وحلها حلاً منطقياً، هي طريقة الاستقراء والمقارنة: إجراء مقارنة مباشرة بين الشرق والغرب - بين مصر وأوربا -، من حيث العقل والثقافة والطبع والمزاج، واستعراض الفروق والمشابهات التي تتجلى بينهما من هذه الوجوه المختلفة؛ ثم البحث عن جوهرية وعدم جوهرية الفروق المذكورة، وذلك على أساس مقارنتها بالفروق التي تلاحظ بين الأمم الأوربية المختلفة من جهة وبين ماضي تلك الأمم وحاضرها من جهة أخرى. . .
إن الدكتور طه حسين بقي بعيداً عن هذه الطريقة من أول أبحاثه هذه إلى آخرها.
وقد نجم عن هذا الابتعاد نقصان خطيران:
أولاً: لم يلتفت المؤلف إلى أهم الفروق الموجودة بين الشرق والغرب، وهي التي تشاهد بينهما من وجهة نظم الأسرة وأوضاع المرأة، والأوصاف النفسية - الخلقية والعقلية - التي تتبع تلك النظم والأوضاع. . .
ثانياً: لم يذكر المؤلف شيئاً عن الآراء المستندة إلى الاختبارات العقلية ومقاييس الذكاء. . .
ومما يزيد في خطورة هذا النقص الأخير هو أن بعض هذه الآراء كانت حامت حول مصر مباشرة، واستندت إلى الاختبارات التي أجريت في مصر على جماعة من المصريين، بمساعدة جماعة من كلية الآداب المصرية نفسها، كما سيظهر للقارئ من التفاصيل التالية:
كانت الحكومة المصرية قد استدعت الدكتور كلاباريد - أستاذ علم النفس في جامعة جنيف، وأحد أساطين هذا العلم في العالم - قبل نحو عشر سنوات؛ وطلبت منه أن يدرس المدارس المصرية، ويبدي لها آراءه في بعض المسائل المتعلقة بوجوه إصلاحها. فأراد الأستاذ المشار إليه أن يستفيد من وجوده في مصر لهذا الغرض، لدرس (العقل المصري) درساً علمياً. وقام بسلسلة اختبارات عقلية بمساعدة جماعة من المعلمين والطلبة؛ وتوصل من اختباراته هذه إلى نتيجة تستلفت الأنظار: فقد لاحظ أن معادل الذكاء في مصر يكون سويَّا عند الصغار؛ غير أنه يأخذ في التأخر والهبوط عن المستوى الطبيعي المعروف في أوربا بسرعة غريبة بعد سن الطفولة. . . اهتم الدكتور كلاباريد بهذه النتيجة وأعلم بها زملاءه في معهد جان جاك روسو في جنيف قبل أن ينتهي من مهمته في مصر؛ وهؤلاء نشروا رسالته هذه في مجلة (المربي) التي تصدر في لوزان. . . هذه المسألة عكست بعد مدة على الصحافة المصرية فنشرت مجلة الهلال مقالة لأحد الأساتذة يشرح فيها الاختبارات المبحوث عنها ويحاول تعليل النتيجة المذكورة بفرضية يراها (الدكتور منصور فهمي - الهلال ديسمبر سنة 1929)
أفليس من الغريب ألا نجد أية إشارة كانت إلى هذه المباحث في كتاب الدكتور طه حسين بين صحائفه الكثيرة المخصصة لدرس مسألة (وجود وعدم وجود فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي)؟ يتطرف الدكتور في كتابه هذا - خلال بحث هذه المسألة - إلى أمور متنوعة جداً. . . في مباحث التاريخ القديم إلى مسائل السياسة والدين. . من ثقافة الصين إلى مدرسة الإسكندرية. . . من حكم لويس الرابع عشر إلى استبداد عبد الحميد. . . من أسباب انحلال الدولة الإسلامية في القرون الوسطى إلى أساليب الحكم المقيد في مصر. . . من تأثير الديانة المسيحية في تكوين العقلية الأوربية إلى نظر الإسلام إلى المسيحية. . . من انقطاع التجارة بين الشرق والغرب في القرون الوسطى إلى دخول الراديو إلى الأزهر الشريف في العصر الحاضر. . . يتطرف الدكتور إلى مسائل لا تعد ولا تحصى. . . ولا يشير إلى البحث العلمي الذي ذكرناه آنفاً مع أنه يتعلق بموضوع درسه مباشرة! إنني لا أذكر اختبارات كلاباريد وآراءه في هذا المقام اقتناعاً بها أو تصويباً لها، بل أصرح بهذه المناسبة بأنني كنت من المعترضين عليها، فقد انتقدت تلك الاختبارات في حينها، وأظهرت مواطن الخطأ فيها، واعترضت على ما نشر في الهلال في شأنها، واستندت في ذلك إلى الاختبارات العقلية المتنوعة التي قمت بها بنفسي في مدارس بغداد (مجلة التربية والتعليم الجزء 24 ص 154 - نيسان 1930 الجزء 27 ص 399 - كانون الأول 1930)
كما أصرح بأن الاختبارات الأخيرة كانت أعطتني نتائج مماثلة لنتائج الاختبارات التي جرت في أوربا وأميركا تمام المماثلة (مجلة التربية والتعليم - الجزء 19. ص 303. حزيران 929)
فلم أذكر اختبارات الدكتور كلاباريد هنا، لأردَّ بها على رأي الدكتور طه حسين. وإنما ذكرتها لأظهر للعيان (بمثال آخر بوضوح أكبر) ما في خطة البحث التي سار عليها الدكتور من الغرابة والنقص. . .
أعتقد أن الانتقادات التي سردتها آنفاً عن المسألة الأولى في المسائل التي حاول الدكتور طه حسين درسها ومعالجتها في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) تكفي لإعطاء فكرة عامة عن حظ الكتاب المذكور من القيمة العلمية. . .
واستناداً إلى كل ذلك، أكرر ما قلته في مقدمة هذا المقال:
إن كتاب مستقبل الثقافة في مصر، يتألف في حقيقة الأمر من مجموعة أحاديث ومقالات، قليلة التناسق وكثيرة التداخل. يبدو على جميع أقسامها آثار الارتجال والاستعجال، ويتخلل معظم أقسامها أنواع شتى من الاستطرادات والاستدراكات. . .
(برمانا)
أبو خلدون