مجلة الرسالة/العدد 316/ذكريات سني التعليم
مجلة الرسالة/العدد 316/ذكريات سني التعليم
للأستاذ عبد الرحمن شكري
دخلت مدرسة المعلمين كطالب سنة 1906 وطلبت الإحالة على المعاش سنة 1938 وكانت مدة اشتغالي بالتعليم كطالب ومدرس وناظر ومفتش اثنتين وثلاثين سنة وهي ليست بالزمن القليل. وربما كان منصب الناظر أشق مناصب التعليم التي وليتها بالرغم من وجاهة مظاهره. وقد كنت ناظراً لخمس مدارس ثانوية وقبلها لثلاث مدارس ابتدائية، وكانت مدة نظارتي للمدارس الثانوية تسع سنوات وللمدارس الابتدائية ثلاثاً أي كانت نظارتي للمدارس اثنتي عشر سنة، وهي أيضاً ليست بالزمن القليل. وقد لبثت في نظارة المدار الثانوية في عهود وزارات وأحزاب مختلفة، وفي عهد كانت المدار الثانوية فيه مضطربة جد الاضطراب بسبب قلة الاستقرار السياسي. وأعترف أن بقائي في نظارة المدارس تلك المدة الطويلة لم يكن بحسن لباقة في معاشرة آباء الطلبة ومخالطتهم واكتساب معونتهم، فإن ميلي الطبيعي إلى الوحدة منع من ذلك حتى أساء أناس فهم هذا الميل إلى الوحدة وعدوه تكبراً وهو ضعف في البنية يتطلب الراحة بالانقطاع عن الحديث وعن تكاليف المجالس وأعني ما تكلفه من تعب. ولم يكن بقائي في النظارة بسبب مكر ودهاء وخلابة تحبب الناظر إلى تلاميذه لأن المكر إذا تكلفه الإنسان يتعبه ويكلفه جهداً ربما كان لا طاقة له به، وإنما كان بقائي بها أولاً لأني آثرت تصريف الأمور بنفسي بدل الرجوع إلى الوزارة في أمور كثيرة وبدل خلق مشكلات لها، ولا تكره الوزارة أمراً قدر كرهها أن يُرجع إليها في أمر كان لا يستطيع الناظر ألا يكبِّر أمره حتى يصير لا مناص من الرجوع إليها فيه، وثانياً لأني اتخذت في خطط التعليم ما اتخذه نابليون في خطط حروبه إذ كان يعبئ أكثر قوته لمواجهة موطن الضعف في العدو فيهزمه، وكذلك كنت أنا والأساتذة نعبئ عنايتنا وجهدنا لمعالجة التلاميذ الضعاف ولمعالجة أماكن الصعوبة في المناهج وأماكن الخطأ والضعف في التلاميذ الضعاف، وهذه خطة تحتاج إلى تفصيل ولكنها الخطة الوحيدة التي يستطاع بها جعل نسبة النجاح في الامتحانات حسنة مرتفعة، وقد استطعنا في الواقع أن نجعل بهذه الخطة نسبة النجاح حسنة، وهذا كان يسر بعض رؤسائنا عند ظهور النتائج
ومنصب ناظر مدرسة من المدارس الثانوية المصرية منصب كانت تحوطه العداوات. ف أراد أن يهيئ أسباب النظام قيل متشدد مرهق مجرم، وإذا تسهل وترك الأمور تجري في مجاريها قيل ضعيف كسول، وإذا كان بين بين اتهم تارة بالإرهاق والإجرام، وتارة بالضعف والكسل، واتهم علاوة على ذلك بالتذبذب. وقد خرجنا والحمد لله من هذا المنصب ومن غيره من المناصب وليس في ملف خدمتنا مؤاخذة ولا سؤال ولا تحقيق في مؤاخذة، ولم تكن هناك حتى ولا مخاطبة شفوية في أمر مؤاخذة مالية أو أدبية أو علمية أو خلقية إلا مؤاخذة على رفع صوتنا في حضرة علي بك حافظ رحمه الله كنت مدرساً وهو ناظر، وهذا أمر ربما استثار تعجب الأساتذة المدرسين في هذا الجيل
وقد كانت خطتي في معاملة الأساتذة المدرسين على العموم خطة معاوية في قوله (ولو كانت بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت إذا أرخوا شددت وإذا شدوا أرخيت) وربما أفادني ميلي الغالب إلى الوحدة من ناحية وإن أضر بي من ناحية أخرى، فإن أضر بي من ناحية جهلي بما يدبر في الخفاء ومن ناحية إساءة بعضهم فهم ذلك الميل إلى الوحدة وعده تكبراً، فقد أفادني من ناحية أخرى إذ لم يخلق أسباب الانقسام والتحزب والمشاحنة بين الموظفين بمناصرة بعضهم على بعض. وكانت خطتي نحو الطلبة إعزاز الطالب الكريم الأخلاق واحترامه إذا كان ممن لا يطغيه الإعزاز والاحترام، وإفهام المقصر أو الخارج على النظام أن العقاب ضرورة لا إهانة فيها وأن الشهامة تقتضي أن يرحب مستحق العقاب بالعقاب. وقد حاول بعضهم أن يذيع في مدرسة أني أتشدد تشدداً مسيئاً في معاملة الموظفين فلم يفلح بالرغم من الإلحاح في هذا المسعى لأن هذا المسعى كان مهزلة حقيرة، ولا يقبل الموظفون في هذا الجيل إساءة في المعاملة لا إلى الحد الذي حدده هذا المسعى ولا إلى أقل منه. وكبار رجال الوزارة يعلمون أنه ليس في استطاعتي أفعل ذلك حتى لو حدثتني نفسي بإساءة معاملة أحد. ولكنه مسعى يدل القارئ على المتاعب التي يتعرض لها حتى أقل النظار طلباً للمتاعب وأبعدهم عن مظانها. وقد حاول أيضاً أصحاب ذلك المسعى إفهام الطلبة أني أتشدد تشدداً مرهقاً للطلبة، وهم يعرفون أني قلما كنت أوقع إلا العقوبات المدرسية المفروضة ولم أكن أوقعها إلا بمقدار ما يستقيم معه التدريس. وقد كنت أتعجب من الخبث والشر في نفوس أصحاب ذلك المسعى، ولكن مما هَوَّنَ الأمر عليَّ أن بعض الطلبة الذين كنت أضطر إلى معالجتهم بشدة كانوا بعد نجاحهم وتخرجهم يرسلون إليَّ الخطابات ينسبون فيها نجاحهم إلى ما عالجتهم به أو كانوا يفعلون ذلك إذا قابلتهم بعد تخرجهم. وقد عَلَّمْتُ آلافاً من التلاميذ بمدارس الإسكندرية ودمنهور والمنصورة والزقازيق والقاهرة وحلوان والفيوم الأميرية. وكثير منهم قد صادفوا نجاحاً كبيراً في حياتهم بعد أيام التلمذة، وهم يعرفون أن الخشونة والعجرفة أبعد الطباع عن طبعي ويعرفون أني كنت أعامل أكثرهم معاملة الأخ الكبير للأخ الصغير. وقد كنا نتبع خطة التعبئة لمعالجة الضعف في جميع سني الدراسة لا في السنة الأخيرة وحدها، ومن أجل ذلك كانت تأتي نتائج امتحانات النقل للفرق حسنة مرضية في جملتها إلا ما شذ بسبب ضعف شديد في فرقة أو فصل وعجز في الأستاذ عن معالجته مما يحدث مثله في جميع المدارس. والوزارة إنما تأخذ بمتوسط نسبة النجاح للمدرسة كلها، وتنظر في أسباب تخلف الفرقة الواحدة أو الفصل الواحد. ولا أذكر أن الوزارة آخذتنا حتى ولا مرة واحدة بسبب تلك النتائج. ومما يؤسف له أن بعض كبار آباء التلاميذ كانوا إذا رسب ابن أحدهم حقد حقداً شديداً، ولا أعرف إذا كانت هذه الصفة لا تزال في الآباء. ولو أنهم سألوا الوزارة عن مستوى النتائج لأراحوا أنفسهم وأراحوا النظار من عواقب حقدهم الذي لا يتفق وتربيتهم العالية ومنزلتهم الكبيرة. والمدرسة دنيا مصغرة: ففيها العالم والجاهل والذكي والغبي والوديع والشرس الطباع والكريم والحقود، والذي يغلب على طبعه الخير، والآخر الذي يغلب على طبعه الخبيث والشر وحب الأذى. ولا يستطيع أستاذ مدرس ولا ناظر أن يعجن جِبِلَّةَ هؤلاء وأن يجعلهم كلهم على طبيعة واحدة من العلم والذكاء والكرم وسمو الشمائل، ولا أن ينال إخاءهم وإنصافهم جميعاً. ومهنة المدرس والناظر من أشق المهن، ولا يهون متاعب التعليم غير إنصاف الوزارة من ناحية وإنصاف الآباء من ناحية أخرى وحسن مؤازرتهم؛ وهذا الإنصاف لا يغني عنه لإنجاح التعليم تغيير الوسائل والأنظمة. ولسنا نقول هذا القول لأننا نطلب أو نرجى نفعاً فقد انتهت حياتنا العملية وانتهت مطامعنا وآمالنا إلى غير عودة، ولكنا نقوله ونحن نعلم أن المعلم والناظر يعملان في سذاجة الشباب أو عادات الشباب والمشيب حتى وإن لم يجدا عطفاً من بعض الآباء أو من الوزارة؛ ولكن صعب على النفس ألا تجد ما يعينها على تحمل مشقة التعليم، واستخراج حلاوته، والتعليم شيِّقٌ حلو إذا انتظمت أموره، وامتنعت عنه الأحقاد، والمعاداة على كل أمر تافه. ولا أذكر أني تأثرت مرة من حسن عطف ومودة قدر تأثري عندما نُقِلتُ من نظارة مدرسة المنصورة، وجاء تلاميذ لتوديعي، ووقف باقي الطلبة في الفناء يحيونني وأنا في القطار، وقد دمعت أعين بعض الطلبة المودعين ولم أكن أتعمد اللين معهم، ولا التراخي، حتى أنال عطفهم! ولم يكتفوا بذلك بل أظهروا وفاءً عندما صاروا إلى المدرسة الثانوية بالمنصورة، وجاء إليهم تلاميذي من مدرسة الزقازيق الثانوية لمباراتهم، وقد جعلني وفاؤهم هذا أندم على أني لم أكن أكثر ليناً في معاملتهم، وإن كنت لم أنقطع عن مشاركتهم في سرورهم ومباسطتهم والعمل على راحتهم ولإنجاحهم، وتعهد مرضاهم، والسهر على صحتهم إذ لم تكن شدتي قسوة بل رحمة.
عبد الرحمن شكري