مجلة الرسالة/العدد 316/خليل مردم بك
مجلة الرسالة/العدد 316/خليل مردم بك
وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
- 1 -
العلامة الأستاذ خليل مردم بك (عضو المجمع العلمي العربي) كاتب وشاعر وباحث، وبراعته في نثره ونظمه وبحثه بينة مستعلنة وأقواله المحكمة المنثورة والمنظومة في مجلتَيهِ (الرابطة الأدبية والثقافة) وفي (مجلة المجمع العلمي العربي) وغيرها. ومصنفاته: شعراء الشام في القرن الثالث، والجاحظ، وابن المقفع، وابن العميد، والصاحب بن عباد، والفرزدق، وغيرها، فيها الدليل على فضل (الخليل) وهو مُجَلٍ في الأدبين: أدب النفس، وأدب الدرس. ومستول على الملكتين في الفنين المنظوم والمنثور اللذين (لا تتفق الإجادة فيهما معاً إلا للأقل) كما قال ابن خلدون.
وقد كان هذا السريّ المردميّ الفاطمي قدم الإسكندرية سنة (1344) فعرفناه، وشاهدنا من فضله وعلمه ونبله ما شاهدناه. وفي بحرتنا هذه نظم قصيدته (صلاة الشاعر) وقصيدته (البحر) وقد أملاها عليّ متفضلاً. وبدْءُ الصلاة:
هَبْ للذكر وصَفَّ القدما ... ثم ولّى وجهه شطر السما
بات في حيرته مستسلما ... وله دمع على النحر يفيض
لا يغيض
وفي (البحرية) في البحر يقول:
السما منه استمدت غيثها ... فهو أَن يفخر بالجود قمين
أترى أمواجه أنفاسه ... رُددت بين شهيق وأنين
لم تكن إلا كشعب ثائر ... شنها حرباً على (المستعمرين)
جحفل يركب منها جحفلاً ... يتعادى كجنود زاحفين
وليت شعري، ليت شعري ماذا يقول اليوم لو زار الإسكندرية وقد ظهرت عرائس الدأماء، وعم البلاء، وكاد (أبو العيون. .) يبخع نفسه مما يرى ويسمع، أو ينقلب مثل المجنون إنه (أعني الخليل) ليقول عجباً، وينشئ صاحب القصيدة المرقصة (الرقص) للأدباء المتفتين الشياطين الملاعين - طرباً
اللهم، إن في السِّيف في الصيف في هذه البحرة لفتنة! فاحفظ - يا رب العالمين - عبيدك وإماءك الصالحين والصالحات، وأظهر اللهم عبديك المجاهدين: شيخ المدينة (حامداً) والشيخ محموداً أبو العيون على الفاتنين والفاتنات؛ إنك القوي القدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله
أقام الأستاذ المردمي، هذا الأدب الجم والفضل المحسم في الإسكندرية برهة، وزمن لقائه هو الذي عُدّ من العمر. ثم عاد إلى داره، دار الإسلام دمشق
سقى دمشقَ الشامِ غيث مُمرعٌ ... من مستهلّ ديمة دفاقها
مدينة ليس يُضاهي حسنها ... في سائر الدنيا ولا آفاقها
فأرضها مثل السماء بهجةً ... وزهرها كالزهر في إشراقها
نسيم ريّا روضها متى سرى ... فك أخا الهموم من وثاقها
لا تسأم العيون والأنوف من ... رؤيتها يوماً ولا انتشاقها
وإن كان (أبو عدنان) لم يبرح يقول:
يا ساكني مصر، فيكم ساكن الشام ... يكابد الشوق من عام إلى عام!!
فالقوم لم يزالوا يرددون في كل وقت بيتي مهيار
دمشق، إن في دمشق شموس فضل وأدب، أضواؤها مشعة وباهرة، يراها الناظرون من المشرق الأنأى والمغرب الأقصى
هذه مقدمة أمام القول في كتاب الأستاذ المردمي الذي أتحف الناس به في هذه الأيام، وهو في الشاعر الإسلامي العظيم (الفرزدق) همام بن غالب
جاء في كتاب (الفرزدق): (قال الجاحظ: كان الفرزدق راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم. وقال ابن قتيبة: كان الفرزدق مِعَنّا مِفَنّا)
وقد بين الأستاذ أفانين أبي الفراس في القول في (كتابه) ومن فنونه في شؤونه ما أورده في سيرته: (ذكر لنا الرواية أن غالباً أبا الفرزدق دخل على عليّ بالبصرة، ومعه ابنه الفرزدق بعد عام الجمل، فقال: إن ابني هذا من شعراء مضر، فاسمع منه فقال عليّ: علمه القرآن فهو خير له، فكان ذلك في نفس الفرزدق حتى قيد نفسه في وقت، وآلى ألا يحل قيده حتى يحفظ القرآن)
وهذه سنة صالحة سنها (همام) وقد استن بها الأديب الشاعر الوشاح أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بالأبيض جاء في (نفح الطيب): (سئل الأبيض عن لغة فعجز عنها بمحضر من خجل منه فأقسم أن يقيد رجليه بقيد حديد، ولا ينزعه حتى يحفظ (الغريب المصنّف)؛ فاتفق أن دخلت عليه أمه في تلك الحال فارتاعت فقال:
ريعت عجوزي أن رأتني لابسا ... حلق الحديد ومثل ذاك يروع!
قالت: جننتَ؟! فقلت: بل هي همة ... هي عنصر العلياء والينبوع!
سنّ الفرزدق سنة فتبعتها ... إني لما سن الكرام تبيع
وإن أدباء هذا العصر جلهم أو كلهم لمحقوقون أن يتبعوا السنة الفرزدقية فيقيدوا أنفسهم طوعاً أو يقيدوا قسراً حتى يحفظوا ما يجب حفظه. . .
وكان الفرزدق على جفائه ذا دعابة ونكتة وجواب حاضر - كما يقول الأستاذ - روى له في الكتاب هذه النكتة: (مرّ الفرزدق يوماً بمجلس بني حرام فقال له عنبسة مولى عثمان بن عفان: يا أبا فراس، متى تذهب إلى الآخرة؟
قال: وما حاجتك إلى ذاك يا أخي؟
قال: أكتب معك إلى أبي. . .
قال: أنا ذاهب إلى حيث أبوك في النار؟ أكتب إليه مع ريالويه واصطفانوس)
(أما هوى الفرزدق السياسي فشعره يدل على أنه مع بني أمية ولكن في الواقع أنه مع القول الغالب من قريش) ثم يقول الأستاذ بعد أن أوضح ذلك: (ولعل أدنى الآراء إلى الصواب أن نقول: إن الفرزدق يقول بالعصبية العربية وبالمضرية على القحطانية)
وقد ردّ الأستاذ المردمي قولاً أشار إليه بعض من كتب سيرة الفرزدق، معتمداً - إن كان من أهل العصر - على (المرتضى عليّ بن الطاهر) في أماليه. وقد أملى الرجل كما أحب وهوى.
وبحث الأستاذ عن أبيات الحزين الكناني التي اختلطت بأبيات نُسبت إلى الفرزدق يمدح بها (الإمام علياً الأصغر) أحد الأئمة عند إخواننا الإمامية في خبر ظني أنه مصوغ وجبن الفرزدق المعلوم لا يحقه. وهل شرد الكميت طويلاً إلا مثل هذا؟
وأبيات الحزين هي في عبد الله بن عبد الملك - كما قال الأستاذ وروي عن الأغاني - وقد أخطأ صاحب (العقد) في قوله إنها قيلت في بعض خلفاء بني أمية. ويؤيد قول الأستاذ وأبي الفرج فيمن قيلت فيه ما جاء في (معجم الشعراء) للإمام المرزباني: (كان الحزين شاعراً محسناً متمكناً، وهو القائل في عبد الله ابن عبد الملك ووفد إليه إلى مصر وهو واليها يمدحه في أبيات) أورد منها المزرباني أربعة وأبو تمام ستة منسوبة إلى الحزين الليثي، وهو الكناني هذا، واسمه عمرو بن عبد وهيب. وقد أخطأ ناسخ الحماسة في كتابته أنها قيلت في غير من قيلت فيه كما أخطأ التبريزي في شرحه في قوله: (ويقال إنها للفرزدق). وهذا ما اختاره منها أبو تمام:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يُمسكه عرفانَ راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
أيّ القبائل ليست في رقابهمِ ... لأولية هذا أوله - نِعَم
بكفه خيزران، ريحها عبِق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يُغِضي حياءً ويغَضي من مهابته ... فما يُكلم إلا حين يبتسم
يقول كتاب الأستاذ في الفرزدق: (كان الفرزدق فاسقاً ماجناً خليعاً يشرب الخمر إن وجد إليها سبيلاً) نزل على الأخطل ذات يوم فقال له: أنتم معشر الحنيفية لا ترون أن تشربوا من شرابنا. . . فقال الفرزدق:
خفّضْ عليك قليلاً ... وهات لي من شرابك
ويقول الأستاذ: (لكنه مع ذلك كان حسن الإيمان بالله يقيم الصلوات، ويعجبه من قومه أن يتدارسوا القرآن ويكثروا من تلاوته، يقر بذنوبه ويستغفر الله لها، ويخشى عذاب الآخرة ويهجر إبليس الذي يزين له المعاصي ويطغيه. قال المبرد في الكامل: التقى الحسن البصري والفرزدق في جنازة فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس. فقال الحسن: كلا! لستُ بخيرهم ولستَ بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وخمس نجائب لا يُدركن - يعني الصلوات الخمس - وقال: كان الفرزدق يخرج من منزله، فيرى بني تميم والمصاحف في حجورهم؛ فيسر بذلك ويجذل به. ويقول: إيهٍ فدىً لكم أبي وأمي! كذا والله كان آباؤكم. وقال: والفرزدق يقول في آخر عمره حين تعلق بأستار الكعبة وعاهد الله ألا يكذب ولا يشتم مسلماً:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لَبين رتاج قائماً ومقام
على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من فيّ زور كلام
(الإسكندرية)
(* * *)