انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 315/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 315/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

مجلة الرسالة - العدد 315 المؤلف زكي مبارك
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 07 - 1939


للدكتور زكي مبارك

- 6 -

أرى من الواجب في مطلع هذا المقال أن أوضّح مسألتين خفيتا على بعض القراء فجرت ألسنتهم بالعتب والملام.

المسألة الأولى، هي الحكم بأن أحمد أمين ينظر إلى الأدب، وإلى الوجود نظرة عامّية؛ فقد ظن فريق من الناس أننا نقول بأنه من العوامّ في حدود الاصطلاح المألوف، على معنى أنه بعيد عن الجو الذي يعيش فيه العلماء.

وذلك غير ما نريد. فأحمد أمين تلقى العلم في مدرسة القضاء الشرعي وظفر بإجازتها العالية، وجلس للقضاء في المحاكم الشرعية بضع سنين. ثم اشتغل بالتدريس في الجامعة المصرية. فهو ليس عامّياً بالمعنى المعروف، وإنما نريد أن نقول إن أحمد أمين على كثرة ما قرأ في الكتب وما سمع من العلماء لا يزال يفكر كما يفكر العوام.

ولتوضيح ذلك نقول: إن في أهل العلم من يكون أقل اطلاعاً من زملائه، ولكنه قد يكون أقوى منهم في صحة الفهم وسلامة التمييز وقوة الإدراك، فيكون محصوله القليل أجدى وأنفع، ويكون له في أحكام العقل مجال

وفي مقابل ذلك نرى بعض العلماء المزودين بكثير من الثقافات ينظرون إلى الوجود نظرات عامية لا تمتاز بشيء عن نظرات العجائز من قعائد البيوت.

وأحمد أمين قليل الاطلاع في ميدان الأدب العربي بلا جدال، وهو مع قلة اطلاعه يحكم على الأدب أحكاماً عامية، بعيدة كل البعد عن أحكام الخواص، وقد أسلفنا الشواهد التي تؤيد رأينا فيه، وسنسوق شواهد جديدة.

المسألة الثانية، هي التعرض لأعماله المعاشية: فقد استنكر بعض القراء أن نقول إنه يكسب كيت وكيت، وعدوها مسألة شخصية

ونقول إننا تعرضنا لذلك لغرضين: الأول هو النص على أن أحمد أمين مشغول عن الفكر والقلم بشواغل تصرفه عن التجويد في البحث والتفكير والإبداع، والغرض الثاني هو تذكيره بأنه لا يجوز لمثله أن يعيب على أدباء العرب أن يشغلوا بمعاشهم وهو يقتل وقته بتدبير المعاش

ولو شئت لقلت إن الرجل الذي يدعو إلى هجر الأدب الجاهلي جملة واحدة بحجة أنه يشل التفكير هو نفسه الرجل الذي اشترك في تأليف الكتاب (المجمل) والكتاب (المفصل) والكتاب (المنتخب) بأجر معلوم تعرفه خزينة وزارة المعارف

فإن كان أحمد أمين صادقاً في حكمه على الأدب الجاهلي فكيف جاز عنده أن يشترك في تلك المؤلفات وفيها مكان ظاهر للأدب الجاهلي وهي خليقة بأن تشل عقول التلاميذ؟!

وكنت قلت إن الأستاذ أحمد أمين لا يستطيع أن يخدم الجامعة المصرية بالمجان، وإنه يأخذ منها في كل شهر ستين دينارً، فكتب إلينا أحد المطلعين يقول إنه يأخذ من الجامعة في كل شهر خمسة وثمانون لا ستين

فهل يجوز للرجل أن يأخذ هذا المبلغ بطمأنينة خلقية في تدريس الأدب العربي وهو يعتقد أنه أدب لا يستحق العناية وأنه كان في ماضيه الطويل أدب تسوُّل واستجداء؟

وبعد توضيح هاتين المسألتين أرجع إلى هذا الرجل رجعة قاضية.

لقد دل على مبلغ فهمه للأدب حين ساق هذين البيتين في مقاله الثالث في جناية الأدب الجاهلي:

فما روضة زهراء طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثَها وعرارَها

بأطيب من أردان عزة موهناً ... إذا أوقَدَتْ بالمندل الرطب نارَها

فقد ضبط هذين البيتين على نحو ما يرى القارئ: فجعل الندى في البيت الأول فاعلاً وجعل الجثجاث والعرار مفعولين، وجعل (أوقدت) في البيت الثاني مبنياً للمعلوم ونصب النار على المفعولية

فهل سمعتم قبل ذلك أن الندى يمج الزهر والنبات؟

لو كان أحمد أمين يتأمل ما يقرأ لعرف أن الندى في البيت الأول من هذين البيتين لا يمكن أن يكون فاعلاً، ولعرف أن (أوقد) في البيت الثاني فعل مبني للمجهول ليجعل الشاعر معشوقته عقيلة تخدمها الوصائف

فهل يستطيع أحمد أمين أن ينكر أنه أخطأ في ضبط هذين البيتين؟

وهل يمكن لمن يثقون بكفايته الأدبية أن ينكروا أن لمثل هذا الفهم الخاطئ دلالة على مبلغ إدراكه لدقائق المعاني؟

نترك هذا وننتقل إلى أحكامه على الشعر العربي في العصر الإسلامي، وهو يراه لم يتغير من حيث الموضوع فظل كما كان محصوراً في المديح والهجاء والفخر والحماسة والغزل والرثاء

والظاهر أن أحمد أمين لم يدرس الشعر الأموي دراسة تمكنه من فهم الفرق بينه وبين الشعر الجاهلي، فليس بصحيح أن الموضوعات لم تتغير، وليس بصحيح أن الشعراء الأمويين كانوا يتناولون الأغراض الشعرية على نحو ما كان يتناولها الجاهليون

وإذا صح أن الشعر الجاهلي والإسلامي متحدان في الموضوعات فهناك فرق ظاهر جداً بين العصرين في تصور تلك الموضوعات

فالغزل في العصر الأموي فن جديد لا يعرفه العصر الجاهلي، وهل يتصور أديب أن أشعار عمر بن أبي ربيعة كانت لها سوابق عند الجاهلية؟

هل يتصور أديب أن تائية كثير في أغراضها ومراميها كانت لها نظائر في الشعر الجاهلي؟

وهل يصح لأديب أن يقول بأن غزليات العرجي وجميل والحارث بن خالد كانت لها أشباه قبل العصر الإسلامي؟

إن الأمويين تغزلوا كما تغزل الجاهليون، ولكنهم تفردوا بابتكار فن جديد هو القصص الغرامي، فهل فطن لذلك أحمد أمين؟

وهل يمكن نكران ما وصل إليه الأمويون من الرقة والظرف في النسيب؟

أليس فيهم الذي يقول:

إن لي عند كل نفحة بستا ... نٍ من الورد أو من الياسمينا

نظرةً والتفاتةً أترَّجى ... أن تكوِني حللت فيما يلينا

أليس فيهم الذي يقول:

يا أم عمران ما زالت وما برحت ... بنا الصبابة حتى مسَّنا الشفقُ

القلب تاق إليكم كي يلاقيكم ... كما يتوق إلى منجاته الغَرق

تعطيك شيئاً قليلاً وهي خائفة ... كما يمس بنظر الحية الفَرق أليس فيهم الذي يقول:

وإني لأرضى من بثينة بالذي ... لو أبصره الواشي لقرت بلابله

بلا، وبألا أستطيع، وبالمنى ... وبالأمل المرجوّ قد خاب آمله

وبالنظرة العجلى، وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله

أليس فيهم الذي يقول:

ولو سلك الناس في جانب ... من الأرض واعتزلت جانباً

ليمعتُ طِيتها إنني ... أرى حبها العجب العاجبا

أليس فيهم الذي يقول:

وإني لأستحييك حتى كأنما ... عليّ بظهر الغيب منك رقيب

ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تكتب عليّ ذنوب

إن تفصيل ما امتاز به شعراء العصر الأموي في النسيب يحتاج إلى كتاب خاص سيؤلفه أحمد أمين يوم يعرف أن الأدب لا يكال بمكيال ولا ينظر إليه بالعد والإحصاء

إن من أعجب العجب أن يقال إن الشعراء الأمويين لم يبتكروا شيئاً في التشبيب، وهم الذين أمدوا لغة العرب بثروة وجدانية ستعيش ما عاشت لغة القرآن

ألا يكفي أن يكون العصر الأموي قد ابتكر الاستشهاد في الحب؟

ألا يكفي أن يكون ذلك العصر هو الذي خلق شخصية مجنون ليلى، وهي شخصية شرَّق سحرها وغرب، فكانت لها أصداء عند الشعراء من أهل الشرق وأهل الغرب؟

ألا يكفي أن يكون العصر الأموي هو الذي فهم أن الحج من المعارض الدولية للصباحة والملاحة والجمال؟

ألا يكفي أن يكون شعراء العصر الأموي هم الذين أذاعوا بين الناس فتنة الهيام بأسرار الوجود؟

ثم ماذا؟

ثم جهل الأستاذ أحمد أمين أن العصر الأموي هو العصر الذي تفرد بإجادة الأراجيز، ولكن هل فكر أحمد أمين في الأراجيز الأموية؟

الحق أن العصر الأموي يحتاج إلى أدباء عظام يسجلون فضله على اللغة العربية، ففي ذلك العصر ظهر الشعر السياسي، وهو فن من الأدب يختلف عن التعصب للقبيلة كل الاختلاف، وله مزايا وخصائص تنتظر أديباً له نظرة خاصية لا عامية

فمتى تعرف كلية الآداب ذلك الأديب؟

إن من العار أن يقول أستاذ من كلية الآداب بأن الأدب في العصر الأموي ليس إلا صورة من الأدب في العصر الجاهلي

وهل يستطيع إنسان أن يقول بأن الكميت بن زيد الأسدي كان له نظير بين شعراء الجاهلية؟

إن العصر الأموي ينتظر أديباً يفهم أنه كان صلة الوصل بين العصر الجاهلي والعصر العباسي، ويدرك أنه تحرر كل التحرر من العقلية الجاهلية

فمتى تعرف كلية الآداب ذلك الأديب؟

إن عميد كلية الآداب اليوم هو الأستاذ محمد شفيق غربال، وهو مؤرخ جليل يفهم أن دراسة تاريخ القرون الوسطى أمر واجب، لأن ذلك التاريخ كان الصلة بين القديم والحديث، فهل نستطيع أن نشير عليه بأن ينشئ في كلية الآداب كرسيا للعصر الأموي الذي جهله أحمد أمين؟

ليت، ثم ليت!!

إن المسافة بين العصر الجاهلي والعصر العباسي طويلة جدّاً، لأنها تقع في نحو خمسين ومائة سنة، وهي المدة التي انتظمت عصر النبوة وعصر الخلفاء وعصر الأمويين، وفي تلك المدة كانت الشخصية العربية هي الشخصية التي تهدد ممالك الأرض، والتي تسنّ شرائع الفتوّة وقوانين المجد، والتي تلوّن العالم بألوان مختلفات، والتي مكنت العرب من أن يكون لهم صوت مسموع في أقطار المشرق والمغرب

فهل يُعقل أن يكون أدب العرب في ذلك العهد صورة ثانية من أدبهم في أيام الجاهلية؟

ومن الذي يصدق أن الشعراء المسلمين كانوا يتهاجون على نحو ما كان يصنع الجاهليون؟

وهل خطر ببال أحمد أمين أن العصبية السياسية في العصر الإسلامي كانت لها ألوان لم يعرفها شعراء القبائل في الجاهلية؟

هل فكّر في تحديد الخصائص الشعرية للمدح والهجاء في العصر الأموي؟ وهل تنبه إلى ما ابتكره الشعراء الأمويون حين أوقدوا نار العصبية الجاهلية؟

يعزّ عليّ والله أن يقع في هذه الأخطاء أستاذ فاضل من أساتذة الأدب بالجامعة المصرية، وهي اليوم معهد عظيم يحج إليه طلبة العلم من أقطار الشرق

يعز ّ عليّ أن يكون في رجال الجامعة المصرية من يفهم أن العصر الإسلامي صورة من العصر الجاهلي في التفكير، وطرائق التعبير مع أن ذلك مستحيل

وهل يتصور عاقل أن خطب علي بن أبي طالب صورة من خطب أكثم بن صيفي مثلاً؟

هل يقول مفكر بأن رسائل عبد الحميد صورة مكررة لما كان يكتب الجاهليون؟

وهل يمكن القول بأن معاوية كان يكتب بأسلوب عمر بن الخطاب؟

إن التطور شريعة طبيعية يا صديقي، فكيف تتوهم أن يكون العرب خرجوا وحدهم على تلك الشريعة؟

إن العرب في أدبهم وتصورهم وعقليتهم قد انتقلوا من حال إلى أحوال، وإن غاب ذلك عن فطنتك الواعية

وأين أنت من القصص الرائع الذي عرفته المساجد في العصر الأموي؟

أين أنت من الشعر الرقيق الذي ابتكره الأمويين في وصف مجالس الأنس والشراب؟

وهل تعرف يا حضرة الفاضل أن العصر الأموي ظلم أقبح الظلم حين اعتدى عليه خلفاء بني العباس بالمحو والتبديل؟

هل مرّ في خاطرك أن العصر الأموي رُزِئ بمؤامرة سياسية حَرَمتْ تاريخه الأدبي من نعمة الوجود؟

ثم ماذا؟

ثم يتحذلق الأستاذ أحمد أمين فيقرر أن الخضوع للأوزان الجاهلية والقوافي الجاهلية جنى علينا جنايات كبرى، لأنه (حرمنا من الملاحم الطويلة التي كانت عند الأمم الأخرى وحرمنا من القصص الطويلة الممتعة)

وهذا الحكم يشهد بأن أحمد أمين يجهل طبيعة الأمة العربية بعض الجهل، ويجهل طبائع الأمم الأخرى كل الجهل

إن أحمد أمين لا يعرف أن العرب ليس في طبيعتهم أن يأنسوا بالمنظومات المطولة في القصص والتاريخ، وهو يتوهم أن العرب كان يجب عليهم أن يسلكوا في الشعر مسالك اليونان، وذلك خطأ فضيع

إن عبقرية العرب ليس في القصص، وإنما عبقرية العرب في الغناء والتعبير عن الأنفاس الروحية. وفي بلاد العرب نشأت الديانة الموسوية والديانة العيسوية والديانة المحمدية، وفي بلاد العرب نشأت أحاديث القلب والوجدان، وهم بلا جدال أصدق من تحدث عن الأرواح والقلوب

فإن امتازت لغات الشرق والغرب بالمنظومات الطويلة في القصص والتاريخ فقد امتازت لغة العرب بأكرم أثر عرفه الوجود وهو القرآن، وهو حجة اللغة العربية يوم يقوم التفاخر بين اللغات بالأحساب

والى الأستاذ الجسر أوجه الكلمة التالية:

أنت تعجب أيها السيد من أن نمنح أحمد أمين (قدرة الجناية على الأدب العربي) وأجيب بأن أحمد أمين ليس من النكرات حتى نتركه يتحذلق كيف شاء. إن أحمد أمين أستاذ بكلية الآداب يا حضرة السيد، وكلية الآداب من أكبر معاهدنا العالية، وما يصدر عن أساتذتها الأفاضل قد يتلقاه أكثر الناشئين بالقبول

وما الذي تخشاه من منح أحمد أمين ما لا يستحق؟

إن كان هجومنا عليه يعطيه فرصة جديدة من فرص الشهرة فلا بأس، فهو صديق عزيز، والتنويه بشأنه من أوجب الفروض

المهم (يا حضرة السيد) أن يعرف أحمد أمين أن في مصر رقابة أدبية تزجر المتطاولين على ماضي الأدب العربي وتصرفهم عن اللجاح فيما لا يفيد

ونحن لا نحارب أحمد أمين بالذات، وإنما نحارب الآراء التي نقلها نقلاً عن خصوم اللغة العربية، وسنرى في المباحث الآتية ما يشفي صدور قوم مؤمنين

(للحديث شجون)

زكي مبارك