انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 313/من هذيان الحر. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 313/من هذيان الحر. . .

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 07 - 1939


نحن يا صديقي القارئ من سموم تموز على حالٍ سواء: أنا لا أحسن الكتابة، وأنت لا تحسن القراءة؛ فتعال أهذِ أنا وتسمع أنت؛ فإن الهذيان في الحر كالهذيان في الحمى تنفيس عن الروح المكروب، وتخفيف عن الدم الفائر، والهذيان كلام كفورة الإناء ليس له نظام ولا فيه عقل؛ ولكنه كحلم النائم لا تغلب فيه جملة على جملة، ولا تظهر به صورة دون صورة، إلا لأن لهما في العقل الباطن أثراً، وبالروح اليقظان صلة. ولعلك واجد في لواغي المحموم والملموم والنشوان والنائم من ومضات الحق ما لا تجده أحياناً في بعض الكلام. ولقد كان في قرى الريف جماعة من الممسوسين المستهامين يعتقد الناس أن وسوستهم من كشف الغيب وإنذار القدر؛ وربما أصابوا في لحونهم توجيهاً إلى منفعة أو تنبيهاً إلى مضرة!

يقولون: في شهر تموز، يغلي الماء في الكوز، ويجري الشر على البوز! فهل صمم الفوهرر أن يفتح في (دانزيج) طاقة من جهنم تجعل البحر حميماً على كل مستجم، والجبل جحيماً على كل مصطاف؟ ما ضر هتلر أن يمهل الأغنياء المدللين حتى يبذروا الذهب في مدن المياه، كما أمهل الفقراء المساكين حتى حصدوا الحنطة في قرى اليابسة! ماذا يصنع ذلك الأمير أو ذلك الكبير الذي وقف دخل العام كله على هذا الشهر، فقسم أمواله بين موائده الخضر في كل ساحل، وفرّق آماله على مواخيره الحمر في كل حضيض؟ أيجوز أن يحرمه هتلر غدوات القمار وأصائل الغزل وأماسي الرقص وأسحار الفتون، لأنه يريد أن يتسع وطنه، ويرتفع شعبه، وينتشر سلطانه؟ هل هانت الأرستقراطية على الناس إلى هذا الحد؟

لو كنت ذلك الأمير أو ذلك الكبير لصحت ملء فمي: لعن الله

الديمقراطية والدكتاتورية! فإنهما منذ رفعتا كلمة الشعوب فوق إرادة

السادة، ونقلتا سلطان الملوك إلى الساسة والقادة، هوت الأرستقراطية

إلى الدرك الأسفل من بناء المجتمع، وأصبح أهلها كدُمى الأثاث توضع

للزينة، أو كذلاذل الثياب ترسل للحلية. لقد كانت الحرب في عهد العزة الأرستقراطية لا تقوم بين إمارتين أو مملكتين إلا لأن الأمير أو السيد

أراد أن يصيد فصُدّ عن الأرض، أو يخادن فدُفع عن المرأة، أو ينفق

فعجز عن المال. أما اليوم فمن مهازل الدهر أن تشب الحرب بين

دولتين أو قارتين لأن عاملاً فقيراً أراد ليده عملاً فلم ينل، أو تاجراً

حقيراً طلب لبضاعته سوقاً فلم يجد!!. وفساد الأمر كله إنما جاء من

وضع الحكم في أيدي المتعلمين من أبناء الصناع والزراع والعملة!

آمنت أن الله خلق في الناس العُلّيق والعلق. فالعلّيق نبات يتسلق ما يقربه من الشجر فيعلوه ويلتف به ويعرش عليه حتى يحرمه نسم الريح وضوء الشمس وجلال الرفعة. والعلق دود يتعلق بمن يمسه من الحيوان فينشب فيه خرطومه، ثم يمتص دمه ويستلب حياته.

فهؤلاء الأتباع والأوزاع الذين يلتفون حول (أبناء الذوات) يهرّجون لهم في الحديث، ويروجون لهم المنكر، ويتطالون من وراء أكتافهم إلى فخفخة الحياة، هم علّيق.

وهؤلاء (البلطجية) الأوشاب الذين يلقون أبدانهم الثقيلة على عواتق البغايا الضعاف والتجار المساكين فيفرضون عليهم بالقوة ملء البطون والجيوب من السحت والأثم، هم علق.

وأولئك المتزعمون المتبطلون الذين قصروا جهدهم في الحياة على أن يتخاطفوا عصا القيادة ويتنازعوا كراسي الحكم، ووسيلتهم إلى ذلك أن يقوموا على هامش الطريق أبواق فتنة، أو يقفوا في سوائه أحجار عثرة، هم علّيق.

وأولئك المترفون المسرفون الذين استولوا على الأرض من غير ثمن، وتسلطوا على الفلاح من غير سلطان، فأكلوا ثمرة الزرع حتى انتفخوا وشربوا عرق الزارع حتى طفحوا، هم علق.

وأولئك النقاد المتخرصون الذين يتهجمون على أعيان العلم والأدب باللغو والجهل والسفه، ليدركوا نباهة الذكر من بلاهة العامة، هم علّيق.

وأولئك المؤلفون المزيفون الذين يستغلون ضعف المعلمين وفقر الأدباء فيكلفونهم أن يكتبوا المقالات وهم يمضونها، ويضعوا الكتب وهم يستلحقونها، ويربحوا الأموال وهم يقبضونها، هم علق.

وأولئك الرؤساء البلداء الذين يحملون على الموظف الصغير بالإعنات والقهر حتى يكفيهم كل رأي في التقارير، وكل نظر في الأضابير، ولا يدع لهم إلا نفخة الشدق بالأمر، ولطعة الإمضاء بالخاتم، هم علّيق. وأولئك الموظفون المخادعون الذين يسرقون جهود زملائهم بالمكر، ويكسبون رضى رؤسائهم بالملق، ويلقون التبعات عن كواهلهم بالحيلة، هم علق

ولو شئت لحدثتك عن العليق والعلق في كل طائفة؛ ولكن مالنا نبغّض الهابط إلى الصاعد، ونحرض الساعي على القاعد، ولا نترك شؤون الخلق للخالق؟

إن عقرب الساعة يهدف إلى السابعة في خُطى غير منظورة؛ وإن أنفاس المساء الندية قد أخذت ترف بطراءتها على الغرف المحرورة. وهأنذا أشعر شيئاً فشيئاً بحمّاي تذهب، وبرشدي يثوب، وبدمي يسكن، وبذهني ينتعش، وبفكري يتجمع، وبقلمي يجري على الورق بكلام لا أدريه، وبالغلام يطلب المقال للجمع فلا أستطيع أن أصرفه لأعيد النظر فيه!