مجلة الرسالة/العدد 312/في سبيل العربية
مجلة الرسالة/العدد 312/في سبيل العربية
كتاب البخلاء
للأستاذ محمود مصطفى
(تتمة)
ص 158 عند الكلام على أن تثمير المال في بناء البيوت يعود على أصحابها بالضرر بسبب مماطلة السكان وتقطيع الأجرة عند الدفع قال:
(فصارت لذلك غلات الدور - وإن كانت أكثر ثمناً ودخلاً - أقل ثمناً وأخبث أصلاً من سائر الغلات)
وإن نظرة عارضة إلى العبارة توجب علينا مراعاة المقابلة التي أراد أن يعقدها القائل للعبارة فإنه يقول إنها وإن كانت في الأصل أكثر ثمناً ودخلاً صارت الآن بمعاملة السكان لأصحابها أقل ثمناً وأخبث دخلاً) ومن هنا ظهر خطأ الشارحين في إثبات كلمة أصلاً بدل دخلاً، ومحاولتهما ما لا يستقيم من الشرح على هذا الاعتبار حتى اضطرا أن يقولا: (في العبارة شيء من التجوز يظهر للمتأمل) والواقع أن الذي يظهر للمتأمل هو تحريفهما أو قبولهما لتحريف كلمة دخل إلى أصل
في ص 160 يرد في الحديث عن إساءة السكان إلى صاحب المنزل (إن عفا عفا على كظم ولا يوجه ذلك منه إلا إلى العجز، وإن رام المكافأة تعرض لأكثر مما أنكره) فيعلق الشارحان بقولهما: (وإن أراد أن يكافأ بالمعروف على معروفه وبالإحسان على إحسانه كان عرضة لأن يلحق به من الأذى أكثر مما أنكر هو منه واستفظعه. ولا شك في أن الشارحين لا يفهمان المكافأة إلا على أنها المقابلة الحسنة، وهو المعنى الذي يفهمه منها صغار التلاميذ حين يسمعون من معلميهم أسماء المكافآت ومنحها عقب الامتحان أو القيام بعرض ألعابهم في حفلات آخر العام.
فأما المكافأة بمعنى المقابلة مطلقاً أو المجازاة بخير أو شر فهي في كتب اللغة فحسب، لم تخرج بعد إلى خير الموجود ولم يسمح لها بطروق آذان الشارحين؟!
وغريب جداً من أمر الشارحين أن يدورا في كلامهما ويتجنبا الوقوع في هذا المعنى كأنم هو منكر لا يريدان أن يقعا فيه مع أن استقامة الكلام تستلزمه ولكنهما يحيدان عنه عملاً بالأمانة اللغوية التي في عنقهما لمعنى المكافأة!
في ص 165 وردت هذه العبارة: فمدحتم من جمع صنوف الخطأ وذممتم من جمع صنوف الصواب. فاحذروهم كل الحذر ولا تأمنوهم على حال
وفي الشرح يقول الأستاذان الفاضلان: (من جمع صنوف الصواب) أي وهو من سميتم (بخيلاً) و (من جمع صنوف الخطأ) أي وهو من سميتم (جواداً) ثم يعلقان على عبارة (فاحذروهم) بقولهما الضمير يرجع إلى الذين تسمونهم أجواداً وهو التفات من صيغة المفرد إلى الجمع.
ومعنى ذلك في رأي الشارحين أن القائل للعبارة استعمل اللفظ مفرداً ثم أعاد عليه الضمير جمعاً لأن لفظ (من) في نظرهما مفرد بدليل تفسيرهما بقولهما (أي وهو من سميتم بخيلاً) فقوله بعد ذلك فاحذروهم يكون خروجاً عن مقتضى الظاهر إذا الظاهر في رأيهما أن يقول فاحذروه ما دام الضمير عائداً على (من)
وفي هذا الكلام خطآن ظاهران: أما أولهما فبلاغي وهو اعتبار مثل هذا الخروج عن الأصل (إن كان) التفاتاً، والالتفات لم يعهد إلا في العدول عن الخطاب إلى الغيبة أو عكس ذلك أو ما أشبهه مما لا نطيل به، فأما إرجاع الضمير جمعاً إلى لفظ مفرد فلم يدخل في حساب البلغاء أن يعقدوا له هذه التسمية أو غيرها
وأما الخطأ الثاني فهو عدم تنبه الشارحين إلى أن لفظ (من) من الألفاظ التي يصح اعتبارها مفرداً وغير مفرد فيعاد عليها الضمير على حسب ذلك الاعتبار وهنا اعتبرها القائل جمعاً فأعاد إليها الضمير كذلك. ونرى أن هذا الكلام من الوضوح بحيث نعد أنفسنا مسرفين إذا توسعنا فيه أكثر من ذلك
في ص 178 في الحديث عن آداب السلف على الطعام وأنهم كانوا لا يمدون أيديهم إلى الجدي الذي يقدم آخر الطعام لعرفانهم أنه إنما يقدم ليجعل علامة الختام والفراغ، حتى قال أبو الحارث جمين حين رآه لا يمس (هذا المدفوع عنه) ويعلق الشارحان على هذه العبارة الأخيرة من كلام جمين بقولهما: أي هذا الذي لا تناله الأيدي بالأذى. والمراد التعجب
والذي نقوله: إنه لا تعجب ولا شبه تعجب، بل هو إخبار بالواقع لأنه لما رآه لا تمد إليه الأيدي لأنه جاء بعد الشبع وصفه بهذا الوصف فأين التعجب الذي في كلام الرجل؟
في 183 يحكي الجاحظ حال ابن أبي المؤمل في معاملة ضيفانه وذيادهم عن طعامه، فإنه كان إذا قدم عليه زائر ابتدره قبل أن يستقر في مجلسه وقبل أن تذهب عنه وحشة المكان بقوله لخادمه هات يا خادم شيئاً لفلان ينال منه. فإذا قال الضيف قد فعلت سجل عليه تلك الكلمة ثم يقول الجاحظ:
فإذا استوثق منه رباطا وتركه لا يستطيع أن يترمرم لم يرض بذلك حتى يقول في حديث له: كنا عند فلان فدخل عليه فلان فدعاه إلى غدائه فامتنع ثم بدا له فقال: في طعامكم بُقيلة أنتم تجيدونها
وهنا يضع الشارحان علامة الاستفهام بعد كلمة تجيدونها ووضع الاستفهام هنا خطأ لأن الجملة خبرية والمعنى أن الضيف بدا له أن يعدل عن الاعتذار من الأكل فأحب أن يتطرق إليه بقوله إنكم تجيدون عمل هذه البقيلة التي أراها على المائدة أي فهو يقدم لقيامه إلى المائدة بهذه المقدمة، وابن أبي المؤمل إنما يحكي لضيفه هذه الحكاية ليأخذ عليه طريق هذه الحيلة فالكلام خبر على وجهه ولا رائحة للاستفهام فيه
وفي ص 185 يرد كلام ابن أبي المؤمل:
ومن لم يشرب على الريق فهو نكس في الفتوة دعي في أصحاب النبيذ وإنما يخاف على كبده من سورة الشراب) فيذكر الشارحان في معنى النكس أنه المقصر عن غاية المجد والكرم وأنه الرجل الضعيف ثم يقولان يعني أن من لم يشرب على الريق فهو ضعيف الكرم مقصر فيه، وهذا خطأ وإنما المراد أن من لم يشرب على الريق فهو ضعيف في فتوته ناقص الصلابة في جسمه بدليل قوله بعد ذلك وإنما يخاف على كبده من سورة الشراب.
ولا ندري السبب الذي من أجله حشد الشارحان في شرحهما معاني النكس من غير أن يكونا بحاجة إلا إلى معنى واحد منها على حسب ما رأيا في شرحهما. وما نرى ذلك إلا تضليلاً للقارئ وتردداً من الشارح. وإنما الواجب تلمس ما يناسب المقام ثم المضاء في القصد إليه وحده. فأما هذا الاستكثار من أقوال أصحاب المعاجم فليس فيه كبير فائدة لمن أسلم ذهنه إلى شارح وثق به واعتمد عليه في هدايته إلى الصواب قد انتهينا وما انتهينا من التعليق على شرح أستاذينا الفاضلين، ذلك أننا تركنا كثيراً من القول رأينا أن فيه تطويلاً، وأنه لا يتضح فيه الصواب إلا ببسط كثير وتعليل واسع، ولكنا نكتفي بما أثبتنا معتقدين أننا أدينا الخدمة خالصة لكتاب الجاحظ ولقرائه ولشارحيه، والسلام
محمود مصطفى