مجلة الرسالة/العدد 305/من برجنا العاجي
مجلة الرسالة/العدد 305/من برجنا العاجي
كلما ارتقى فكر أمة انصرفت إلى إتقان الصناعة وحذق الوسائل الفنية، وشعرت في الحال بافتقارها إلى المواد الأولية. فالصناعة غول فاغر فاه يريد أن يلقف أكبر مقدار من المادة ليحيلها إلى خلق جديد له وزن وثمن. أما الأمم العادية فهي مشغولة في أغلب الأحيان بإنتاج المادة الخام
كذلك الحال في دولة الأدب والفن. فإن الأديب أو الفنان قبل أن يصل إلى مرحلة الانقطاع للفن والصناعة يكون شأن عامة الأفراد يعيش الحياة المفعم بشتى الحوادث الزاخرة بألوان المادة الصالحة، حتى يدعوه الفن إلى سمائه، فإذا هو يرى أن حذق أساليب الفن وإتقان أسباب الصناعة أمر لابد له من تكريس حياة بأكملها. فإذا هو قد أنصرف عن حياة الناس العادية بما فيها من وقائع هامة وتافهة وأحداث هائلة أو حقيرة، وانزل في شبه (معمل) فني أو مصنع فكري يجود فيه وسائله ليملك ناصية ملكاته، إلى أن يحس من نفسه أنه قد قطع في هذا السبيل شوطاً كبيراً وأنه قد غدا صاحب صناعة. فيلتفت فإذا أيامه التي قضاها في مصنع الفن قد فصلته عن مصنع الحياة الرحبة الصاخبة الزاخرة، وإذا حياته الآن فارغة إلا من جواهر الفكر ولباب التأمل وتجاريب الصناعة القلمية أو الفنية. وإذا هو محتاج لاستعمال فنه وصناعته إلى مواد أولية لا يدري من أين يأتي بها. فهو تارة يرجع إلى حوادث الماضي فينسج من ذكرياتها تلك الأثواب الجميلة التي تخرج عن مصنع فكره وفنه. لقد لحظ ذلك مرة شارلز ديكنز فقال وهو في سن الستين:
(إني دائماً أتغذى وأغذي قصصي ومؤلفاتي بذكريات الطفولة والصبا)
ما الأديب ذو الصناعة إذن إلا دولة صناعية في حاجة إلى المواد الأولية.
توفيق الحك