مجلة الرسالة/العدد 305/الدعاية الإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 305/الدعاية الإسلامية
للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد
ترجمة الأساتذة عبد الفتاح السرنجاوي، عمر الدسوقي، عبد
العزيز عبد المجيد
انتشار الإسلام في الأمم المسيحية في غرب أسيا
بعد وفاة محمد (ص)، وجه أبو بكر الحملة التي قصد الرسول إرسالها قبل وفاته، إلى بلاد الشام، بالرغم من الاعتراض الذي أعلنه بعض المسلمين لأن أحوال الجزيرة كانت في اضطراب. ولقد أسكت أبو بكر كل معترض على ذلك بقوله: (لن أبطل أي أمر قرره الرسول. ولو كانت المدينة فريسة للوحوش الضارية فلابد أن تنفِّذ الحملة رغبات محمد). تلك كانت أولى الحملات المتتابعة العجيبة التي اكتسح بها المسلمون الشام، وفارس، وشمال أفريقيا، محطمين أركان دولة الفرس القديمة، ومكتسبين من إمبراطورية الروم بعض أقطارها الخصبة الغنية. وليس الغرض من هذا الكتاب أن نتتبع تاريخ هذه الحملات والوقائع المختلفة، ولكن لما كانت غايتنا أن نشرح كيف انتشر الإسلام عقب الفتوحات العربية كان من المهم أن نميط اللثام عن الظروف والعوامل التي مكنت الإسلام من الانتشار.
ولقد ضمن أحد ثقاة المؤرخين المسألة التي نحن بصددها الآن العبارة الآتية: (أكان ذلك الحماس الديني الحقيقي نتيجة لتلك العقيدة القوية الطاهرة المترعرة في بكورتها، والتي جعلت جنود العرب ينتصرون في كل موقعة، ويؤسسون في مدة قصيرة أكبر إمبراطورية شهدها العالم؟ إننا في حاجة إلى برهان لإثبات ذلك: لقد كان قليلاً جداً عدد أولئك الذين اتبعوا الرسول وتعاليمه طواعية، وبإخلاص من أعماق قلوبهم. أما العدد الأكبر فهم أولئك الذين أدخلوا في صفوف المسلمين كرهاً أو رغبة في متاع الدنيا. وهاهو ذا خالد - سيف سيوف الله - أوضح مثال لطريقة القوة الممتزجة بالإقناع التي أتبعت معه ومع كثيرين من القرشيين لكي يعتنقوا الإسلام. ولقد قال هو فيهم حينئذ: إن الله قد قبض عليهم من أفئدتهم وشعورهم وساقهم لإتباع الرسول. ولقد كان أيضاً لروح الافتخار بالقومية العربية المشترك أثر قوى تلك الروح التي كانت أقوى عند العرب في ذلك الوقت منها في الغالب عند أية أمة أخرى؛ وتلك الروح وحدها هي التي حدت بالآلاف منهم أن يؤثروا واحداً من بني جلدتهم ودينه على أي مصلح أجنبي عنهم. وأقوى من هذا وذاك ما رغبهم فيه الرسول (ص) من غنى مؤكد باكتسابهم الغنائم الوافرة في الجهاد للدين الجديد، ومن استبدال الأقاليم الخصبة المثرية: كفارس والشام ومصر بصحرائهم المجدبة العارية التي تجود عليهم بالكفاف فقط.
وفي الحقيقة لم تكن تلك الفتوحات الرائعة التي وضعت حجر الأساس للإمبراطورية العربية نتيجة للجهاد والحروب الدينية التي أوقدت نيرانها لنشر الإسلام. ولكن تبع هذه الفتوحات ضعف عظيم في العقيدة الدينية المسيحية، ذلك الضعف الذي ظن أنه الغاية المقصودة من هذه الفتوح. وهكذا اعتبر المؤرخون المسيحيون السيف الآلة التي اتخذها المسلمون للدعاية لدينهم. وغطى ذلك النجاح المعزو إلى السيف على الأدلة التي تشير إلى نشاط التبشير الإسلامي الصحيح بطريق سليمة. ولم تكن الروح التي خلقت الحماس في الجنود من العرب الذين اكتسحوا أطراف الإمبراطورية البيزنطية، والإمبراطورية الإيرانية، روح تبشير لإدخال الجاحدين في الإسلام. بل الأمر على عكس ذلك، إذ يظهر أن المصلحة الدينية لم تتمثل إلا قليلاً في تفكير القادة للجيوش العربية
إن انتشار الجنس العربي ليتضح بحق في هجرة تلك القبائل القوية النشطة، ساقها الجوع والعوز إلى ترك الصحراء الكزة، والانتشار في أقاليم أكثر خصوبة، في تلك الأقاليم التي يقطنها السعداء.
وبعد، فلقد كان تأسيس الحكومة الدينية في المدينة العامل الذي خلق الوحدة في تلك الحركة (حركة الفتح والتبشير) وكذلك كان عاملاً على الوحدة نظامُ الأمة الحديثة الذي بدأه أصحاب الرسول المخلصون، والحجج الثقاة الذين اضطلعوا بتعاليمه أولئك الذين حفظت متانةُ خلقهم وحماُسهم الإسلامَ حياً، ودينا رسميا، وذلك بالرغم من عدم اكتراث أولئك العرب الذين انتسبوا إلى الدين ولما يدخل الإيمان في قلوبهم
وإذاً فلا يجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي دعت إلى انتشار الدين الإسلامي بتلك السرعة، في حوادث الجنود الفاتحة، ولكن الأولى أن نبحث عن هذه الأسباب في الأحوال التي كانت عليها الشعوب المغلوبة
إن ما امتازت به حركة الهجرة من كونها ذات جنسية عربية واحدة قد اجتذب إلى جيوش العرب الغزاة، ممثلي القبائل العربية ورؤساءها، تلك القبائل التي كانت تعيش في أطراف الجزيرة، والتي تمر بها طرق الجيوش الفاتحة. ولذلك فليس غريباً أن نجد كثيراً من أهل البدو المسيحيين قد اكتسحهم مد تلك الحركة القوية، ونجد تلك القبائل العربية التي دانت بالمسيحية عدة قرون تهجرها حينذاك وتعتنق الدين الإسلامي. ومن هؤلاء قبيلة الغساسنة الذين كان لهم السلطان في الصحراء الواقعة شرقي فلسطين وجنوبي الشام، والذين قيل عنهم إنهم (سادة في الجاهلية ونجوم في الإسلام) وبعد موقعة القادسية سنة 14 هـ التي هزم فيها جيش الفرس بقيادة رستم اشد هزيمة جاء كثير من المسيحيين من قبائل العرب البدوية المقيمة على شاطئ الفرات، إلى القائد العربي وقالوا له: (لقد كانت القبائل التي اعتنقت الإسلام في باكورته أعقل منا، أما الآن وقد قتل رستم فسندخل في الدين الجديد)
وشبيه بهذا أيضاً ما حدث بعد فتح شمالي الشام فإن معظم أهل القبائل البدوية انظموا بعد تردد قليل، إلى أتباع الرسول (ص)
إنه لمن الممكن أن نحكم أن القوة لم تكن العامل القاطع في حوادث اعتناق الإسلام، من العلاقات الطيبة التي كانت بين المسيحيين والمسلمين العرب. فقد عقد محمد (ص) نفسه تحالفاً مع بعض قبائل مسيحية، واعداً أن يحميهم، وكافلاً لهم الحرية الدينية، ولرجال دينهم أن يتمتعوا بحقوقهم القديمة وسلطانهم من غير أي تدخل. وقد ألفت مثل هذه العلاقات أيضاً بين أتباع الرسول وبين أفراد عشيرتهم من أصحاب الدين القديم (يعني المسيحية) وقد تقدم كثير منهم طوعاً ليساعد المسلمين في بعثاتهم الحربية، مدفوعين بروح الطاعة للحكومة الجديدة. وتلك الروح نفسها قد أبقتهم منعزلين عن حركة الردة العظيمة التي رفع أصحابها راية العصيان في جميع أنحاء الجزيرة العربية عقب موت الرسول (ص) مباشرة
ويرى بعض المؤرخين أن العرب المسيحيين الذين كانوا يحمون حدود الإمبراطورية البيزنطية من ناحية الصحراء قد غامروا بنصيب مع جيش المسلمين الفاتحين حينما رفض هرقل أن يدفع إليهم ما كان يجري عليهم من العطايا، مقابل خدماتهم الحربية كحراس لأطراف الإمبراطورية وفي موقعة الجسر سنة 13هـ لما بدت طلائع هزيمة قاضية، وأنحصر العرب - وقلوبهم خاوية - بين الفرات والجيش الفارسي، تقدم رئيس مسيحي من قبيلة طي (كما تقدم من قبل سبوريوس لأريوس لمساعدة هوريشس) إلى صنف العرب لمساعدة المثنى قائد جيوش المسلمين ليحمي الجسر الذي كان عبارة عن مجموعة من الزوارق الصغيرة، وكانت حينئذ الطريق الوحيد للتراجع المنتظم، ولما أخذ المسلمون في جمع الجنود ليستردوا مكانتهم، وليمحوا ما لحقهم من عار كان من بين المدد الحربي الذي انصب عليهم من كل جانب وناحية قبيلة مسيحية تدعى بني نمير، وكانت تقطن داخل الحدود البيزنطية. وفي واقعة بويب التي حدثت سنة 13هـ، والتي كانت قبل الهجوم الأخير للعرب الذي كان الهجوم الفاصل الذي نالوا فيه الفوز. في تلك الموقعة ركب المثنى إلى الرئيس المسيحي وقال له: (إنك من أبناء جلدتنا فتعال إذا وحارب معي كما أحارب) وقد تراجع الفرس وتقهقروا أمام ما لاقوه من هجوم عنيف. وبذا أضاف المسلمون نصراً جديداً في صفحة المجد إلى انتصاراتهم. وكان من أكثر مغامرات ذلك اليوم شجاعة ما قام به شاب من قبيلة مسيحية أخرى في الصحراء وكان هذا الشاب قد قدم في جماعة من أصحابه - وهم طائفة من البدو تجار الخيل - حينما كان الجيش العربي قد أخذ ينسجم في صفوف المعركة. اندفع هؤلاء التجار البدو إلى ميدان القتال في صف مواطنيهم، وبينما كان القتال في أشد عنفوانه إذ هجم ذلك الشاب إلى قلب الجيش الفارسي. وقتل قائده، ثم قفز على جواده الموشى، وقفل راجعاً بين حماس المسلمين وإعجابهم به وثنائهم عليه وكان يصيح في عودته منتصراً ويقول: (أنا من تغلب. أنا الذي قتلت قائدهم)
(يتبع)