انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 304/أشباح القرية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 304/أشباح القرية

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1939



تأليف الأستاذ كرم ملحم كرم

للسيدة وداد سكاكيني

الأستاذ كرم ملحم كرم من أكبر أدباء القصة في بلاد العرب ومن أكثرهم إنتاجاً وجهداً موزعا بين فنون الأدب، فهو موهوب في الفن القصصي، نشر رواياته الثلاث: (المصدور) و (صرخة الألم) و (بونا أنطون) فكان لها دوي بعيد، وكتب أقاصيص رائعة في مجلته (ألف ليلة وليلة) أبدعها قلم مرهف مطواع وتلقاها قراؤه بلهفة وإعجاب، لا سيما ما كان منها يعبر عن أحداث رأوها رأى العين أو طرقت مسامعهم، وكان لها مساس بحياتهم. وقد أتخذ الأستاذ كرم الصراحة ديدناً لأسلوبه فما يخشى بأساً إن عرض في قصصه لشخوص بخصائصهم ودخائلهم حتى أنه اكتسب من جراء قلمه الحر عداء وحسداً فوقف تجاههما كالرواسي الشامخات لا تحفل قصيف الرعد ولا تعبأ بهزيم الرياح. وإليه يرجع الفضل في نهضة القصة بلبنان لأنه أول من شق طريقها الجديد منذ أكثر من عشر سنوات فكانت قصصه خير قدوة ودعوة لمن سار على دربه

إذا شئت أن ترى القرية اللبنانية وتتعرف إلى حياتها الصحيحة وأهلها رجالاً ونساء فاقرأ كتاب كرم (أشباح القرية). في هذه القصص ترى الحياة الخالية من كل تبرج وتصنع، وكيف أن القرية على خلوها من كل زيف وزخرفة لا تسلم من مساوئ المدينة التي تنتقل إليها على أيدي بناتها وأبنائها الذين يهجرونها لتغذية مطامعهم الوثابة، فما يتركون قريتهم حتى تتولاهم الحيرة والدهشة في طريق البلد الذي يبتغون، حتى إذا حطوا رحالهم باتوا كالمخمورين، وكلما تغلغلوا في حياتهم الجديدة امتدت آفاق العيش أمامهم دون أن تقف على حد. كل هذا بأوصافه الملونة ودقائقه المصورة تراه مثبتاً في (أشباح القرية) كأنك تتطلع على ألواح بارزة ورسوم ناطقة بكل ما في الجبل اللبناني من ألوان وظلال

ففي (جبور في بيروت) يصور سحر المدينة لابن القرية وإيثاره العمل الشائن فيها على خدمة الأرض التي عاش عليها آباؤه وأجداده بين الزراعة وجمع الحطب ورعاية الماشية فجوزي على جحوده وطمعه بارتكاب المنكر من فسق وميسر ومراهنة في سباق الخيل وقتل نفس حتى وقع في السجن ولحقته الشماتة والندامة فرجع إلى القرية مريضاً بعيداً عن الساخرين

وفي (رزوق عاد من أميركا) يمثل لك صاحب الأشباح طموح الفلاح والتماسه الرزق وراء البحار وكيف يعود رجلاً آخر يسخر من القرية وأهلها فيضيع ثروته في حياة المدنية ومستواها الذي لم يخلق له

إن في (أشباح القرية) لروعة في الوصف وإبداعاً في التمثيل ونكتة في السياق. غير أنها قد حملت في بعض رسومها ألواناً قاتمة، ولعلها ندت في بعض أطرافها عن تصوير الحقيقة، كأن يصف روائي لبنان عجوزاً بأنها كتعاء عوراء عرجاء، فهذا الغلو في التعبير قد يخرج الصورة عن إطارها الذي يليق بها. ولعل لموهبته المولدة وبصيرته النفاذة وقلمه السيال يداً في هذه ألهناه التي تنجم عن وفرة الإنتاج وجموح الخيال؛ فالأستاذ كرم يخلع على قصصه ألواناً من لإبداعه حتى تتسع أفياؤها ويلتبس على قارئها أهي واقعة من الحياة أم ابتدعتها مخيلته في الرواية، ولكني أعتقد أن مذهبه في الفن القصصي مبني على الحقيقة والواقع، مستمد روعته من مسارح الخيال بدليل أن (أشباح القرية) تمثل لك الأشخاص كأنك عشت بينهم ووعيت حياتهم وعرفت طبائعهم وميولهم. وصفوة القول أن الأستاذ كرم ملحم كرم من بناة النهضة الأدبية الحديثة في لبنان، وكتابه (أشباح القرية) جدير بالمطالعة والإعجاب لأسلوبه الجميل ولهجته السليمة وصبغته الخاصة على ندرة هذه الميزات في كتاب القصة.

وداد سكاكيني