انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 303/لعبة التخادع في الحياة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 303/لعبة التخادع في الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 04 - 1939



للأستاذ عبد الرحمن شكري

كثيراً ما يخطئ المخادع المحتال إذا حسب أن الناس قد انخدعوا بمكره، وكلما كان نصيب المخادع من الذكاء أقل كان اعتقاده في قدرته على خدع الناس أعظم فلا يتخذ في وسائل خداعه من الأساليب ما يحتاط به لفطنة الناس إلى خداعه

أما المخادع الذكي فإنه يفطن إلى أن الناس كثيراً ما يتظاهرون بالانخداع ويدعونه أما لكي يعرفوا غاية المخادع ومأربه، وأما لأن لهم لذة في أن يخدعوا المخادع وأن يضحكوا منه في سرهم، وأما لأن لهم مأرباً لا ينالونه منه إلا بإظهار الانخداع له. ومن أجل ذلك ترى المخادع الذكي يحاول أن يستفيد من ادعائهم الانخداع قدر ما كان يستفيد لو أنهم انخدعوا حقيقة. والقدرة على الاستفادة من ادعاء الناس الانخداع هي سر النجاح في الحياة، وليست بمستطاعة لكل إنسان. والحياة في كل عمل أو مظهر أو رأي أو مطلب ومكسب وفي كل حاجة من حاجاتها يوجد يجانب ما بها من الصدق شيء من الخداع والانخداع وادعاء الانخداع، وهذه هي أقانيم الحياة الثلاثة أو ثالوثها المقدس

وقد تدرك الحيرة الشاب الذي يزاول الخداع في الحياة في أول عهده بالفطنة لما يتطلبه النجاح من الخداع، فإنه قد يبدأ في خداع إنسان فإذا بذلك الإنسان يحاول أن يخدعه بأن يدعي أنه انخدع به حقيقة. وهذا يكون كالنشال الذي يقابل إنساناً يتوسم فيه السذاجة وهو لا يدري أنه نشال مثله فيسلم عليه بيد ويمد اليد الأخرى بخفة إلى ثياب ذلك الإنسان يبحث بها عن حافظة نقوده، فإذا به يشعر أن يد ذلك الإنسان الأخرى تبحث عن حافظة نقوده هو، فتدركه الحيرة ويكاد لا يعرف أيهما النشال

وهذا يذكرني بما جاء في كتاب الكامل للمبرد عن أخذ البيعة بالخلافة ليزيد بن معاوية، فقد أطنب الناس في مدحه وأسرفوا إسرافاً جعل يزيد، وقد كان ذكياً، يعرف أنهم غير منخدعين بصفات المدح التي وصفوه بها وهي ليست من صفاته، وأدرك أن لهم مأرباً في ادعاء الانخداع بخلقه وصفات نفسه، فالتفت إلى أبيه معاوية وقال: يا أبي هل نخدع الناس أم هم الذين يخدعوننا؟ فقال له معاوية: يا بني، إنك إذا أردت أن تخدع إنساناً فَتَخادَع لك حتى تنال منه ما تريد فقد خدعته. أي أن ادعاء الناس الانخداع وأن كان باطلاً فهو وانخداعهم سيان مادام المرء ينال منهم ما يريد. وهذه حكمة من معاوية تدل على أنه كان بصيراً بالنفس الإنسانية ومسالكها في الحياة.

وهي حقيقة تُحسُّ في كل مجلس من مجالس الناس، وفي كل بيئة. فهي ليست بالأمر الصعب إدراكه. بل لولا ادعاء كل معاشر أنه انخدع بمعاشره في أمور الحياة ما طابت الحياة. ومن أجل ذلك لا يمقت الناس أحداً قدر مقتهم الرجل الذي يريد أن يرفع غطاء الرياء عن الحياة، ويختلقون له أسباباً يسوِّغون بها مقتهم. وكأن لسان حالهم يقول له: دعنا نخادعك وخادعنا أنت أيضاً كما نخادعك، وادَّع أنك انخدعت بنا، ودعنا ندَّعي أننا انخدعنا بك. فإن من الإنصاف، أو من الذوق، أو من الرحمة أن يدَّعي كل عشير أنه انخدع بعشيره ما دامت النفوس لا تستطيع الحياة إلا على هذه الأخلاق، ولا تستطيع أن تغيرها. وكأنما يقول لسان حالهم أيضاً: إن تبادل ادِّعاء الانخداع مَثلهُ مَثلُ من يعطى هدية، ويأخذ هدية في قدر قيمتها. ومطالب الحياة لا تنال إلا على هذا النمط. أما الذي يريد من الناس أن ينخدعوا له ويغضب إذا اتضح له أنهم لم ينخدعوا، بل يدعون الانخداع، ويعد ادعاءهم الانخداع له عملة زائفة لا يقبلها، ويطلب منهم العملة غير الزائفة، أي انخداعهم الحقيقي؛ ثم هو لا يعطيهم لا انخداعاً ولا ادعاء للانخداع، فمَثلهُ مَثلُ من تقدم له هدية فيغضب إذا لم يُعط أعظم منها، وهو لا يُعطى مثلها.

وينبغي للإنسان إذا ادَّعى الانخداع لعشير أو رئيس أو مرءوس أو عميل أن يلازم الحذر من أن ينقلب ادعاؤه الانخداع انخداعاً حقيقياً؛ فيكون كمن يرى لصّاً في منزله فيدَّعي النوم حتى يجد من اللص غفلة ليتمكن منه، فإذا بادعائه النوم قد صار نوماً، فيغط في النوم حتى يأخذ اللص كل ما يريد من البيت ويتركه، وصاحبه قد ادعى النوم حتى نام.

وهذا أيضاً شبيه بمن يريد أن يحتال على إنسان فيقدم له قطعة من الذهب ويدعي أنه وجد كنزاً كي يخدع ذلك الإنسان، ويسلبه ماله، فيدعي ذلك الإنسان السذاجة وأنه انخدع، ويأخذ القطعة كي يسأل عن قيمتها ثم لا يعود.

وهو أيضاً شبيه بصاحب الورق المقامر على الورق المقلوب من ورق اللعب، يدعي الخسارة ويعطي اللاعب جنيهاً كي يستدرجه ويسلبه ماله فيدعي اللاعب أنه ساذج، ويظهر رغبته في استئناف اللعب، والقمار، ويستأذن في قضاء حاجة ضرورية من حاجات الجسم ثم يذهب بالجنيه ولا يعود.

وهذه الأعمال لها نظائر وأشباه بالقياس في أعمال الناس الجليلة الكبيرة المشروعة المحترمة. فالحذر عند ادعاء الانخداع ضرورة. أما أن يفتخر المرء بأنه لا يستطيع أحد أن يخدعه فإذا كان يراد به التملق لمن يتظاهر مع ذلك بالانخداع لهم فهو دهاء، ووسيلة كسب بالمكر. أما إذا أريد به مضايقة الناس وتحريك عوامل خوفهم وبغضهم فهو سذاجة أو بلاهة، ولا شيء يدعوا إلى الفشل في الحياة كاعتقاد الناس في إنسان أنه لا ينخدع، ولا يدعي الانخداع؛ وهذا الاعتقاد يؤدي إلى بغض الناس من يعتقدونه فيه حتى وأن كان اعتقادهم باطلاً لا أساس له، وهذا التظاهر بالانخداع هو ما جعله أبو تمام من أسباب السيادة وسماه بالتغابي في قوله:

ليس الغبيُّ بِسَيَّدٍ في قومه ... لكنَّ سيد قومه المتغابي

وتبعه البحتري فقال:

وقد يتغابى المرء في عَظْمِ مَالِهِ ... ومِنْ تحت بُرْدَيْهِ المُغيَرُة أو عمرو

عبد الرحمن شكري