مجلة الرسالة/العدد 301/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 301/رسالة العلم
ما هي الحياة
وكيف ظهرت على الأرض؟
انطباق نواميس الطبيعة على الأحياء
للأستاذ نصيف المنقبادي
تكلمنا في مقالنا الأول عن وحدة الحيوانات (ومنها الإنسان) والنباتات وأثبتنا في مقالنا الأخير وحدة الأحياء والجمادات بأن بحثنا عن مظاهر الحياة في الجمادات وقد وجدناها جميعاً بلا استثناء ولكن مبعثرة ومشتتة فيها كالتكوين الدقيق والشكل النوعي والتغذي والتنفس والتحرك والتأثر والنمو الخ
واستكمالاً لهذا التحقيق (وحدة الأحياء والجمادات) واستيفاء له من جميع نواحيه نسلك اليوم الطريق العكسي لنصل إلى نفس النتيجة بأن نبحث في الكائنات الحية عن نواميس الطبيعة التي تدير الكائنات الحية، وسيرى القارئ فيما يلي أن تلك النواميس تنطبق جميعاً بلا استثناء على الأحياء (ومن بينها الإنسان) وأنها هي التي تعمل فيها وتديرها وليس شيء آخر خلافها
نقول إنه يتضح لكل من يطلع على كتب العلوم الديولوجية الحديثة (علوم الحياة كالبيولوجيا العامة والفسيولوجيا وعلمي الحيوان والنبات، وعلم التشريح التقابلي، وعلم تكوين الجنين الخ) أن هذه العلوم أخذت تفسر المسائل الحيوية وتعللها بالنواميس والقواعد المقررة في علوم الميكانيكا والطبيعة والكيمياء، وقد خطت خطوات واسعة في هذا السبيل، ولا يهدأ للعلماء الآن بال وهم يعالجون أية ظاهرة من ظواهر الحياة حتى التفكير والقوى العقلية إلا إذا عللوها بالعوامل الطبيعية وردوها إليها ووحدوا بينها وبين الجمادات
فوظيفة القلب والحركة الدموية على العموم خاضعة لنواميس الهدروليكا أو الهدروديناميكا. وهضم الأغذية ليس إلا تفاعلات كيميائية محضة. وامتصاص الغذاء بعد هضمه، وإفراز المواد الإفرازية خاضع لقواعد التشرب المقررة في علم الطبيعة، وكذلك الحال بالنسبة لامتصاص الأوكسجين وإفراز الحامض الكربونيك في الرئتين وفي أعضاء التنف الأخرى وفي الشرايين الشعرية. وتحرك الحيوانات وسيرها على الأرض أو طيرها في الهواء أو عومها في الماء، كل هذا يجري طبقاً لقواعد علم الميكانيكا دون غيرها. وإبصار العين وسمع الأذن وحدوث نبرات الصوت ارتفاعاً وانخفاضاً، كل هذا يحصل بمقتضى القواعد المقررة في علمي الضوء والصوت المتفرعين من علم الطبيعة. وكذلك الحال بالنسبة للتلقيح وانقسام الخلايا وتكوين الجنين وتكوين الزهور والأثمار. . . الخ. وكذلك الحال أيضاً فيما يتعلق بالانفعالات النفسية والغرائز والعواطف والتفكير، فقد توصل العلماء إلى إرجاع الكثير منها إلى ظواهر طبيعية وكيميائية محضة وفسروها بالعوامل الطبيعية التي تدير الجمادات. ويضيق بنا المقام لو أردنا شرح شيء من ذلك لأن هذا يستغرق المجلدات الضخمة العديدة، فنحيل القراء على المؤلفات الحديثة في علوم البيولوجيا والفسيولوجيا والبسكولوجيا. ونقصر حديثنا الآن على الناموسين الأساسيين اللذين تتفرع منهما باقي نواميس الكون وهما ناموس عدم تلاشي المادة وناموس عدم تلاشي الطاقة (القوة سابقاً) '
المادة والطاقة
ينقسم كل ما في الوجود إلى مادة وطاقة ولا ثالث لهما. فالمادة تشمل الكواكب والشموس والسيارات ومنها الأرض وما عليها من المعادن والجبال والبحار والمواد التي تشكلت بشكل خاص كالأجسام المبلورة والكائنات المسماة بالحية كالإنسان وباقي الحيوانات والنباتات
والطاقة تبدو في صور مختلفة معدودة تتحول من الواحدة إلى الأخرى وهي الكهرباء، والجاذبية، والضوء، والطاقة الميكانيكية كالحركة، والطاقة الكيميائية الكامنة في ذرات المادة، والحرارة
والمادة والطاقة ليستا مستقلتين إحداهما عن الأخرى فلا يمكن تصور وجود الواحدة منهما بمفردها دون الأخرى
بل ثبت أخيراً على اثر اكتشاف الراديوم والأجسام المتشععة المماثلة له، أن المادة تتحول إلى طاقة والطاقة إلى مادة، فكأنه لا وجود للمادة في الواقع، وأنها ليست إلا طاقة متكاثفة كما أن السوائل غازات متكاثفة وكذا الجمادات بالنسبة للسوائل.
وعلى هذا تكون المادة صورة أخرى من صور الطاقة فوق الصور المتقدم ذكرها
ومن نواميس الطبيعة الأساسية ناموسا عدم تلاشي المادة، وعدم تلاشي الطاقة سالفا الذكر. ومعنى هذا أن مجموع المادة التي في الكون ثابت لا تزيد عليه، ولا تنقص منه ذرة واحدة، وإن كانت المادة تتحول على الدوام من تركيب إلى آخر ومن شكل إلى شكل، وكذلك الحال فيما يتعلق بالطاقة؛ فإن صورها أو مظاهرها في تحول مستمر من الكهرباء إلى الحركة إلى الضوء إلى الطاقة الكيميائية إلى الكهرباء وهلم جرا، ولكنها في مجموعها ثابتة لا تزيد، ولا تنقص منها أية كمية مهما صغرت.
انطباق هذين الناموسين على الأحياء
قلنا وكررنا في المقالين السابقين أنه لا يوجد عنصر من عناصر المادة خاص بالكائنات الحية، وأن العناصر التي تتركب منها أجسامها تدخل في تراكيب معدنية لا عداد لها. وبيّنا كيف أن المواد التي تتألف منها أجسام الأحياء مشتقة من الجمادات رأساً بفعل قوة الشمس أو طاقتها الإشعاعية بواسطة المادة النباتية الخضراء (الكلورفيل). فالحيوانات آكلة اللحوم تتغذى من الحيوانات النباتية، وهذه تتغذى من النباتات. والنباتات تركب المواد التي تتغذى بها وتشيد منها أجسامها من المواد المعدنية - أي من الجمادات - على الوجه المتقدم بيانه، بحيث لا يزيد على الكائنات الحية شيء أكثر مما تتناوله من الغذاء ولا ينقص منها شيء أكثر مما تفرزه أو يتبخر منها
وبعد الموت تتحلل أجسامها وتتحول إلى كمية من بخار الماء ومن الحامض الكربونيك ومن بعض تراكيب أزوتية ومعدنية بحيث يساوي مجموع كل هذا وزن الجسم عند الموت تماماً لا أكثر ولا أقل
وكذلك الحال بالنسبة للطاقة فإن الكائنات الحية تتحرك حركة ذاتية كالانتقال من مكان إلى آخر، وحركة أعضائها الداخلية وحركة نمو الخ، وهي تفرز عصائر وخمائر وسوائل مختلفة وإفرازات داخلية وخارجية متنوعة، وتحلل بعض المواد الكيميائية وتركب غيرها، وتتولد فيها حرارة ثابتة في ذوات الثدي (التي منها الإنسان) وفي الطيور، أو حرارة عرضية في الحيوانات الأخرى وفي النباتات، كما يتولد الضوء والكهرباء في بعضها، وهذه كلها من الطاقة، ولا يمكن أن تأتي من العدم لأن الطاقة لا تخلق ولا تنعدم، ولا بد أن تكون قد اشتقت من صورة سابقة من صورها الأخرى. فما هو مصدر تلك الطاقة التي تدير الأحياء وتحركها وتعمل فيها؟
لقد أثبت علم الفسيولوجيا بالأدلة والاختبارات والمشاهدات القاطعة أن جميع القوى التي تعمل في الإنسان وباقي الكائنات الحية تنتج من احتراق المواد الغذائية داخل أنسجة الجسم وفي خلاياه، وما الغذاء إلا وقود الكائنات الحية يحترق فيها ليولد الطاقة والحرارة اللازمتين لأعمال الحياة كما يحترق الفحم أو البترول في الآلات الميكانيكية لإدارتها؛ وما الحيوانات والنباتات إلا آلات تحول الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء إلى طاقة ميكانيكية كالحركة وإلى حرارة وإلى كهرباء وضوء في بعض الحيوانات
وقد أراد علماء الفسيولوجيا أن يتحققوا مما إذا كانت العوامل الطبيعية، وبعبارة أدق الطاقة الناتجة من احتراق المواد الغذائية في الأحياء هي التي تدير بمفردها الكائنات الحية وتعمل فيها، أم أن هناك عوامل أخرى من وراء الطبيعة تشترك معها في ذلك. فمن أجل ذلك صنع اثنان منهم وهما الأميريكيان أثوثر وبينديكت جهازاً خاصاً هو عبارة عن كالوريمثر كبير مركب تركيباً دقيقاً من مواد تحفظ الحرارة وتمنع تشععها إلى الخارج وهو في الوقت نفسه يقيس أقل كمية من الحرارة توجد فيه مهما صغرت. ووضعا فيه شخصاً وأحكما غلقه عليه، ويخترق هذا الكالوريمتر تيار من الهواء يمر في أنابيب مصنوعة خصيصاً ومركبة عليها آلات للتحليل والقياس فيقيسون مقدار ما يدخل من الهواء وما يشتمل عليه هذا الهواء من الأكسيجين وغاز حامض الكربونيك، وكذلك مقدار الهواء الخارج من الجهة الأخرى وما نقص منه من العنصر الأول، وما زاد عليه من الغاز الثاني، والفرق يدل بطبيعة الحال على كمية ما احترق مدة العملية داخل جسم الشخص الجالس في الكالوريمتر من المواد الغذائية المدخرة في أنسجته وخلاياه، ذلك لأن كل احتراق حتى في الجمادات يستهلك الأكسيجين ويفرز غاز الحامض الكربونيك
ومن جهة أخرى يقيس الكالوريمتر كمية الحرارة التي تتشعع من جسم ذلك الشخص، والحرارة التي تتحول إليها في النهاية الحركات المختلفة التي يقوم بها كحركاته الذاتية، وكحركات أعضائه الداخلية كالقلب والرئتين.
فكانت النتيجة أن الطاقة (الحرارة) التي تنتج من احتراق المواد الغذائية المدخرة في الجسم تساوي تماماً الطاقة (القوى) التي تعمل في الجسم وتتحول في النهاية إلى حرارة.
وكان بعض الفسيولوجيين قاموا قبل ذلك بمثل هذا الاختبار على حيوانات مختلفة وكانت النتيجة واحدة.
ومعنى هذا أنه لا تعمل في الكائنات الحية بما فيها الإنسان ولا تديرها سوى القوى الطبيعية، وأن هذه القوى ليس لها إلا مصدر واحد وهو الغذاء، أو بعبارة أصح الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء
وحتى التفكير والقوى العقلية فقد ثبت بالاختبارات والمشاهد العديدة أنها تستهلك كمية من الطاقة الناتجة من احتراق المواد الغذائية المدخرة في المخ والتي يوردها الدم إلى ذلك العضو. وإننا نكتفي بالتجربة التالية إثباتاً لذلك: فقد صنعوا جهازاً خاصاً دقيقاً لقياس كل زيادة تطرأ على حجم المخ مهما كانت طفيفة، يستخدمون هذا الجهاز في أشخاص يكون قد أصابهم كسر في الجمجمة وتفتت قطعة من العظم حتى صار مكانها مكشوفاً لا تغطيه إلا قشرة من نسيج رقيق، فيضعون قاعدة الجهاز على رسم الجزء المكشوف وقياسه ويغطونه بها. وتتفرع من قاعدة الجهاز هذه أمبوبة من الكاوتشوك تتصل بآلة تدل على أقل زيادة أو احتقان يطرأ على المخ وترسمه رسماً
يرسم هذا الجهاز في الحالة الاعتيادية خطاً متعرجاً ولكنه يكون في مجموعه على منسوب أو ارتفاع واحد، وهذه التعرجات هي أثر نبض القلب. ويكلفون الشخص الموضوع عليه الجهاز بالقيام بأعمال عقلية بأن يطلبوا منه مثلاً إجراء عملية حسابية، حتى إذا بدأ في التفكير أخذ حجم مخه في الزيادة بورود كمية من الدم إليه أكثر من المعتاد يدل عليها ارتفاع منسوب الخط المتعرج الذي يرسمه الجهاز، كما يحدث في كل عضو يؤدي وظيفته، لأن الدم يحمل إليه الغذاء الذي يحترق فيه لتوليد الطاقة اللازمة لقيامه بوظيفته، وعندما ينتهي ذلك الشخص من العملية العقلية التي كلف بها يرجع مخه إلى حجمه الطبيعي بأن ينزل الخط المتعرج إلى مستواه الأصلي
يؤيد هذا أيضاً التجارب التي قام بها كل من شيف من جهة وموسو من جهة أخرى، فإن كليهما استعان بآلات دقيقة جداً لقياس درجة حرارة المخ على مثل ذلك الشخص المكسورة جمجمته صنعها خصيصاً على أساس الكهرباء، وهي حساسة إلى حد أن تقيس واحدا من الألف من درجة الحرارة الواحدة. وقد دلت هذه الآلات بطريقة ظاهرة على أن حرارة المخ ترتفع أثناء التفكير، وهذا الارتفاع لا يمكن أن يأتي إلا بورود كمية من الدم إلى المخ واحتراق بعض المواد الغذائية التي يحتويها أو من المدخرة في المخ شأن كل عضو في حالة العمل
يؤيد هذا أيضاً ازدياد كمية المواد الفوسفاتية في البول لدى الأشخاص الذين يزاولون الأعمال العقلية المتواصلة كما يدل على ذلك التحليل الكيميائي، وهي تنتج من احتراق المواد الغذائية الفوسفورية المدخرة في المخ مثل الليسيتين أو التي يوردها الدم إلى ذلك العضو
ويؤيد هذا أيضاً ما هو معروف للجميع من أن الطفل يكون عند ولادته عديم التفكير ثم تأخذ قواه العقلية في النمو بنمو مخه مع باقي جسمه، وأن كثيراً ما تضعف هذه القوى في الشيوخ حينما ييبس المخ وتتصلب شرايينه ويذهب فريسة كريات الدم البيضاء المفترسة، أو حينما يتناول الإنسان كمية من الخمر أو يصاب بحمى شديدة أو بأي مرض يؤثر في المخ. فلاشك في أن التفكير إنما هو وظيفة المخ وأن مصدره الوحيد الطاقة الناتجة من احتراق المواد الغذائية شأنه شأن باقي وظائف الأعضاء الأخرى
وبالجملة فإن ناموس بقاء الطاقة وعدم تلاشيها ينطبق على الكائنات الحية ومنها الإنسان وانطباقه على الجمادات
النتيجة
فمن أية ناحية نظرنا إلى الموضوع نجد أنه لا يوجد أي فرق جوهري بين الكائنات الحية وبين الجمادات كما قلنا في ختام المقال الأخير، وهذا يدل دلالة قاطعة على وحدتهما
ولا يسعني إلا أن أختم هذا البحث بالعبارة التي ختم بها أستاذي المأسوف عليه فريديك هوسيه أستاذ علم البيولوجيا بجامعة باريس (السوربون) محاضراته في هذا الموضوع حيث قال: (إذن فكل ما في الطبيعة حي، أو ليس فيها حي) , (يقصد أنه لا يوجد أي فرق بين الكائنات الحية وبين باقي ما في الطبيعة من أجسام أخرى معدنية أو جمادات
وحتى الأخلاق فقد تناولها العلم وأثبت أنها ظاهرة طبيعية تطرأ على الحيوانات الاجتماعية كالنمل والإنسان نتيجة لازمة لحياة أفرادها جماعة، وقد أصبحت - أي الأخلاق - غريزة متأصلة في النمل والنحل، وهي غريزة في دور التكوين في النوع الإنساني لأنه أحدث من تلك الأنواع كما سنبينه في مقال قادم
وسنبين في المقال الآتي كيف ظهرت الحياة على الأرض بعد أن ثبت لنا نهائياً وقطعياً أنها ظاهرة طبيعية مثل باقي ظواهر الطبيعة
نصيف المنقبادي المحامي
دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية
من كلية العلوم بجامعة باريس (السوربون)