مجلة الرسالة/العدد 295/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 295/رسالة الفن
التصوير الإغريقي في مرحلته الأولى
للدكتور أحمد موسى
كان الفنان المصري إذا صور جماعة من الناس أو الحيوان أو المواد، فأنه يضعها بحيث يكون بعضها خلف بعض أو إلى جانبه، من غير مراعاة الوضع الطبيعي الذي كانت تظهر به أمام عينيه، وكان هذا هو الحال أيضاً عندما أراد التصرف بعض الشيء - مثلاً - في تصوير مائدة عليها أدوات أو مواد، فتراه يصورها قطعة قطعة، كما لو كانت متفرقة غير مجتمعة على مائدة واحدة؛ ذلك لأنه لم يكن يعرف أصول تصوير المجسمات، وعلاقة الحجم والبعد بالتصوير المنظور وكان هذا سبباً جوهرياً في ظهور مختلف المصورات التي مثلت شئون حياته الزراعية والصناعية والدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها، كما لو كانت متجاورة بالرغم من أن بعضها كان يجب أن يخفي البعض الآخر بحسب وضعه وراءها.
كما أن نظرة الفنان المصري لجماعة من الناس بينها شخصية بارزة، دفعته حيناً إلى إظهار هذه الشخصية بمقياس أكبر من المقياس الذي تقيد بتنفيذه في مصوراته، غير ناظر إلى موقع هذه الشخصية من حيث البعد أو القرب منه، أو لوضعها بالنسبة إلى مجاوريها، فضلاً عن نظرته إلى جسم الإنسان على وجه الخصوص، كما لو كان شيئاً ينظر إليه من وضعين مختلفين؛ فتراه كما ذكرنا في مقال سابق، نظر إلى الرأس والبطن والساقين والقدمين من الجانب، على حين نظر إلى العينين والكتفين والبطن من الأمام.
هذا هو التقرير العلمي عن التصوير المصري القديم، ذكرناه لتعريف القارئ بعض الشيء عنه، ليلمس الفوارق بين فنين قديمين أحدهما فن قومي والآخر فن مثلي بلغ الذروة التي تدفعنا دائماً إلى تلمس آثاره والسير على نوره والعمل على استيعابه، والمناداة بأنه وإن لم يكن أول الفنون جميعاً إلا أنه كان ولا يزال أعظمها خطراً وأجملها مظهراً وأصدقها تعبيراً.
لذلك كله لا نشك في أن الإغريق خلقوا فناً تصويرياً حقيقياً تقدموا فيه بخطوات واسعة ووصلوا إلى نتائج باهرة.
إلا أنه لشديد الأسف لم يبق الكثير من آثارهم فيه، وحتى الصور التي نقلت عن الأصول لا يمكن التأكد - غالباً - من صحة نقلها، أو مطابقتها لما نقلت عنه
وعلى ذلك فالتصوير الإغريقي الذي يمكن اتخاذه مادة لتأريخه والوقوف على اتجاهاته ينحصر باستثناء قليل في التصوير المرسوم على أواني الزهر التي اتخذ منها الإغريق عالماً كاملاً لتصوير مختلف شئون الحياة عندهم، وفي التصوير الزخرفي الذي جاء متأخراً ومعاصراً للرومان.
ولذلك كان معظم ما نعرفه عن المصور الإغريقي أو قل كل ما نعرفه عنه مأخوذ من المصادر المكتوبة.
وبالرغم من أن التصوير وصل في دقته إلى درجة مثيرة لكل إعجاب، فإنه لم يكن ليصل إلى درجة السمو والعظمة التي بلغها فن النحت الإغريقي الخالد، وهذا لا يمنع من ذكر بعض فنانين مصورين ارتفعوا بفنهم إلى درجة عالية لا يمكن إغفالها أو إهمالها إطلاقاً.
وإذا شئت فقل: إن الاختلاف الجوهري بين فن التصوير الإغريقي - على قدمه - وبين فن التصوير (الحديث) محصور في ناحية (الظل والنور) وناحية (التلوين)
أما من ناحية روح الفن والطابع المميز والطراز والموضوع الإنشائي وتقدير الجمال والوثوب إليه رغبة تسجيله؛ فإن مصورات الإغريق لم تكن لتقل نسبياً عن أعمال الفنانين المحدثين.
فقد كان المصور الإغريقي قادراً على تجسيم الرسوم وإعطائها شيئاً من الحياة، ولكنا لا نزال نكرر القول بأنه لم يصل للدرجة الهائلة التي وصل إليها النحات والمثال.
وظل التصوير إلى القرن الخامس قبل الميلاد بدائياً بسيطاً، أي أنه سار في أول أمره بخطوات أبطأ بكثير من تلك التي سار بها فن النحت.
ولعل أول ما يمكن ذكره عنه هو أنه تطور في مدرسة أتيكا، تلك المدرسة التي أسسها في أثينا الفنان أول مصوري العالم بالمعنى الفني، والذي عمل بين سنة 475 وسنة 455 ق. م في أثينا.
والفنان في اعتبارنا لا يكون عظيماً إلا إذا كان له طابع مميز واتجاه معين، مثله في ذلك مثل الموسيقي والشاعر والكاتب، وإلا ففي أي شيء آخر يمكن أن تظهر هذه العظمة؟ إن كثرة إنتاج الفنان لمما يساعد دون نزاع على درس طابعه واستخلاصه من خلال هذا الإنتاج، ولكنها لن تكون سبباً في تعظيمه أو تخليده؛ إذ أن من بين أساطين التصوير من كان نسبياً قليل الإنتاج ومع هذا كان عظيماً، على حين رأينا غيره ممن كثرت لوحاتهم وبقيت آثارهم لم يكن لهم نصيب في الخلود في عالم الفن، نظراً لضآلة طابعهم المميز أو انعدامه.
وهاهو ذا المثل بين أيدينا، فالمصور بوليجنوت مع قلة ما أنتجه وضآلة ما وصل إلى أيدينا من خلقه، كان فناً بارزاً لوضوح طابعه الدال على سمو نفسيته وقوة تعبيره ودقة ملاحظته.
ويتلخص هذا الطابع في أنه أول من أبتدع التصوير التذكاري الذي سار فيه متجهاً نحو المثل الأعلى؛ فدل في جلاء على النضوج العقلي. وإلى جانب ذلك يعد بوليجنوت أستاذاً في التصوير الخطي أي المكون من خطوط تحديدية خصصها لتصوير موضوعات أخلاقية أظهر فيها ناحية الجمال المثلى، فكان كما أطلق عليه علماء الفن (مصور الأخلاق) ويعنون بذلك الانتماء إلى الاتجاه الفلسفي الذي يعني بالتفرقة بين عادلات الإنسان وبين ميوله لتحقيق فكرة الخير أو العمل مندفعاً نحو الشر.
على أن هذا الطابع وهذا الاتجاه ليس دليلاً على النضوج الفني الذي لم يصل إلى نهايته في التصوير، ولذلك، كما قلنا، كانت معظم أعماله تصويراً خطياً لونها بألوان معدودة دون ظل ولا نور؛ فبدت أشبه شيء بصفوف بعضها وراء بعض على أرضية ذات مستوى واحد. وكان غالباً ما يرسم - في ركن من الصورة - شجرة أو بيتاً قاصداً بذلك تمييز مصوراته متخذاً معظم مادته الإنشائية من سير الأبطال.
وأشهر ما تبقى من إنتاجه صورتان حائطيتان في ردهة الاجتماع بمدينة دلفي، أولاهما مثلث (تخريب تروادة ورحيل الإغريق عنها). وثانيهما زيارة أوديسوس - بطل تروادة - للدنيا السفلى.
كما أن له صورة حائطية مثلت (تشاور الإخائيين) في ردهة السوق. وغيرها (الديوسكوريين يخطفون بنات لويسبس) في معبد ديوسكور أو معبد أبناء زويس من معشوقته إليدا التي كان - كما تذكر القصة الإغريقية - يزورها وهو في هيئة البجعة.
وكان له تلاميذ تأثروا به ونهجوا على منواله أهمهم ميكون الذي صور (أعمال ثيسيوس) في معبد سمى باسمه، ورسم (عراك الأمازونات) في ردهة السوق. وتنسب إليه أيضاً (؟) صورة حائطية موضوعها (موقعة مارتون) في نفس الردهة، وهي الموقعة المشهورة التي قامت في البقعة المعروفة بهذا الاسم على ساحل أتيكا الشرقي، والتي ترجع شهرتها إلى النصر المبين الذي أحرزه الأثينيون تحت قيادة ملتيادس على الفرس في 12 سبتمبر سنة 490 ق. م.
ووجد حوالي نهاية القرن الخامس قبل الميلاد فنان ذو طابع جعل منه رائداً لمرحلة فنية، هو أبولودور الأثيني، لأنه استطاع إبراز الصور بهيئة مجسمة وذلك بإدخال التظليل فيها بعد أن كانت صوراً خطية. ولذلك يطلق عليه مؤرخو الفن (مصور الظل) فخطى بذلك خطوة جديرة بالتسجيل والإعجاب.
أحمد موسى