انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 294/رسالة المرأة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 294/رسالة المرأة

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 02 - 1939



فن التجميل

للآنسة زينب الحكيم

التطور سنة الحياة، ومعناه النمو التدرجي والتكشف، ومعناه أيضاً نشوء الأشكال العليا من الدنيا في الحياة كما يقول القاموس

إذن نفهم من هذا أن كل شيء حي، وأي شيء يمت لذلك الحي بأدنى صلة، يسري عليه ناموس التطور التدرجي في الحياة. ومن غير الضروري أن نثبت منطقياً أو علمياً سلسلة تطور الإنسان مثلاً من عصور ما قبل التاريخ إلى البربرية الأولى فالثانية فالثالثة، ولا أن نعدد الأطوار التي قطعها حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. فلسنا في حاجة إلى ذلك في هذا المجال. إن هذه أشياء مقطوع بصحتها على الأقل من ناحية التدرج النشوئي الذي استغرق آلاف السنين

إنما الذي يعيننا هو أن نوضح أن الحياة في مختلف نواحيها تخضع للناموس ذاته؛ فكلما تطورت حالة الإنسان اختلفت بيئته وتغيرت طرقه ووسائل معيشته من تجارة وصناعة، وعادات ونظم، وتعاليم ومبادئ، وعلوم وفنون وغير ذلك

وفن التجميل ولو أنه يبدو فناً كمالياً، فانه في الواقع فن ضرورة ولزوم إذا أخذنا بالمبدأ القائل بسذاجة الطبيعة وأنها جرداء قاحلة ما لم نضف عليها من رائع خيالنا وبديع تصويرنا

فإذا وضحت النظرية الآن، وصح تطبيقها على الجمادات والعجماوات، فمن الضروري لزومها للكائن المفكر الذي يسوقه تفكيره إلى بلوغ أقصى درجات الكمال في كل شيء. ولا جناح عليه إذا لحظ أنه يعمل للارتقاء في جهات قبل أخرى، أو إذا تباينت درجات ذلك التطور، فهذه سنة الحياة ونظام تكوينها

وفن التجميل على هذا الأساس من اعرق الفنون وأكثرها حركة واشدها اقتحاماً. فالكوخ لم يبق ذلك الشكل الساذج، بل تحول وتحور حتى صار بيتاً، والبيت تطور وتطور على أشكال وأنماط. . .

والقدر لم يبق ذلك الإناء الضروري لحمل الماء أو غليه، وإنما تطور فتحور وهذب، واختلف أنواعاً وأشكالاً، ونقش تارة، ولون وزركش أخرى

وكذلك الناس تطوروا، ولم تعد المرأة تلك البربرية التي كانت تحمل نفسها الأحجار وقطع المعادن الثقيلة للتزين مثلا، وإنما تطورت زينتها إلى ما هو ألطف وأجمل

لهذا نقول: إن فن التجميل في كل العصور بالنسبة للمرأة في الشرق والغرب، يتغير مثله الأعلى بالنسبة لدرجة تطورها، وإن اتفقت بعض مظاهره في أشياء

فمثلاً من زمن بعيد كانت منضدة التزين هي المرآة التي انعكس عليها نشاط المرأة. وقد وجد المنقبون في بلاد أشور، وفي مصر، مناضد للزينة تكاد تكون محملة بضروب من وسائل الزينة، كما قد يرى على أفخم مناضد التزين اليوم في البيوت، وفي محال التجميل العامة

والتاريخ يبرهن، مع الأسف أو مع الغبطة، على أن الجمال لم يكن طبيعياً أبداً (وهذا يتفق مع النظرية التي أشرنا إليها في أول هذا المقال) ثم قرر العقل البشري إثبات ذلك في الشرق والغرب، بدليل ما اتخذه الناس من وسائل للتجميل، ومن تحايل لأسبابه انتفعت به النساء بوجه خاص؛ وإذا اختلفت وجهات النظر في ذلك، فإنما تختلف من حيث التقدم في التطور لا من حيث المبدأ

ففي الغرب اخترعت محسنات البشرة ولون الوجه وفق أسس فنية وعلمية. أما الشرق فقانع بهذه النتائج غير المتقنة، التي يمكنه الحصول عليها من أنواع الكريم والحناء، والكحل الأزرق الذي تكحل به الجفون من الداخل، فيحدث تهيجاً في العين بسبب ملأها بالدموع، ويجعلها شديد اللمعان، ويعتبر ذلك من الجمال، وهو خطأ مضر بالعين

ويستعمل الروائح العطرية القوية التي تضعف من أعصاب نساء الشرق البدينات فتزيدها وهناً على وهنها، وبالجملة فإن نساء الشرق لا يحسن استعمال وسائل تزين الغربيات، وكثيراً ما يخطئن في تطبيقها العملي، ويخلطن بينها مما يؤذي أجسامهن ويسيء إلى أخلاقهن بوضعهن الأشياء في غير موضعها

كل ذلك لجهلهن تراكيبها، وعدم دراستهن لأنفسهن بحيث يعرفن ما يلزم لهن، وكذلك لعدم استعمالهن مبتكرات بلادهن، التي تكون وليدة حاجاتهن، وما يتناسب مع طبيعتهن

إن غفلتهن عن التعليل المنطقي تجعلهن مقلدات مسرفات في التقليد، فكثيرات منهن قلدن وما زلن يقلدن النجمة السينمائية فلانة، والممثلة المسرحية علانة، وغاب عنهن أن زينة الفتاة الممثلة على المسرح أو السينما، لا يمكن أن تجعلها جميلة أو متزينة بالمعنى الذي يقصد من التزين، لأن المقادير الهائلة التي تصبغ بها وجهها، إنما يقصد بها أولاً أن تساعد على إظهارها بوضوح على المسرح الشديد الضوء، أو أمام أنوار التقاط الأفلام السينمائية، كيلا تظهر شاحبة ذابلة، غامضة الملامح إذا ما سطعت عليها تلك الأنوار القوية.

والصورة البشعة، التي نراها هنا وفي كل مكان من المعمورة بوجوه النساء، إنما تدل على الجهل الذي تحمل المرأة عنوانه على ابرز جزء فيها، مما ينفر من مزاولة فن التجميل الذي يعتبر من أرقى الفنون وأعرقها.

لو عاشت جدتنا لتسمع ما نقوله اليوم عن التزين، ولو رأت بعيني رأسها حال وجوه السيدات اليوم، لذهلت وطار لبها، لأنه ما كان يستعمل للتزين في أيامها إلا أنواع من الصابون الصحي غير المهيج للبشرة كصابون القطران والكبريت الممتازين.

بينما كان الرجال في ذلك الزمن، يوضحون رجولتهم بنحو قدم أو أكثر من لحية مربعة مهذبة حول ذقونهم.

أما وسائل التزين التي يعلن عنها بلا انقطاع في جميع المجلات النسائية وغيرها الآن، أو ما يسمع عن علاجات البشرة المختلفة وما شابه ذلك، فكان غير مألوف، ولم يطق سماعه أو السماح باستعماله السواد الأعظم من الناس في القرن التاسع عشر

وقد اعتبر استعمال الدهون وأصباغ الوجه - من أحمر وذرور وغيرهما - من الجرائم الخلقية. والغواية في المجتمع، واعتبر استخدام أصباغ الشفتين وتزجيج الحواجب من علامات الانحراف، ومنتهى التبجح، بل دليل الفساد والشر

لهذا طالما انتهرت الجدة العزيزة بناتها إذا ارتابت في حمرة وجنتي إحداهن، أو إذا هي صففت شعرها بأداة التجعيد المحماة. ولعمري ما عساها كانت تفعل الآن، إذا رأت بعض الفتيات االمتطرفات، اللائي ينمين أظافرهن حتى تصير كمخالب الحداة، أو يلبسن أحذية طول كعوبها أربع بوصات أو خمس؟! من غير شك كانت تثور وتفور ولها الحق، وليست معارضتها في هذه الحالات وأشباهها مما تؤاخذ عليه، والشيء إن زاد عن حده انقلب إلى ضده وفي الواقع، لا يوجد شيء تطور في العالم بسرعة مثل ما تطورت وسائل الزينة وطرق استعمالها

وأصبح استخدامها باعتدال وفن من التقاليد المرعية والعادات المقبولة.

فالسيدة التي تظهر بأظافر غير معتنى بها مثلاً، أو بشعر لا تظهر عليه دلائل العناية والتهذيب والتجميل، أو بوجه شائه وكان في استطاعة صاحبته أن تقلل من شوهه، تعتبر خارجة على التقاليد، مقصرة في حق نفسها، وفي حقوق المجتمع. وهل هذا العصر إلا عصر تجدد ونشوء؟!

لهذه الاعتبارات من جهة، ولإسراف السيدات وبعض الرجال في التزين الخاطئ من جهة أخرى، ارتفعت تكاليف التزين جداً، بحيث أصبح ما ينفق على وسائله من نقود مقادير لا تصدق بسهولة لو لم تثبت صحتها الإحصاءات الرسمية

لقد قدر الآن في الولايات المتحدة أن المرأة تنفق ثلاثمائة مليون جنيه في السنة على معالجة التجميل، والدهون من كل نوع. وقد قسم الإحصائيون هذا المبلغ الضخم بين أصباغ الشفاه، وأصباغ الوجنتين والذرور، ودهانات تغذية بشرة الوجه والكريم بأنواعه، وأصباغ الحواجب والأهداب، ودهونات الشعر وغير ذلك

أما في إنجلترا، فإن أرقام ما ينفق على هذه الأشياء ليست إلى هذا الحد من الغلو، والمصاريف في إنجلترا على التجميل خمسون مليوناً من الجنيهات، أو ربما كانت 70000000 جنيه

أما في مصر، فليست لدينا إحصائيات يمكن الاعتماد عليها في هذا الصدد، ولابد أن يكون الإنفاق في منتهى الإسراف، لأن مصر سوق دولية، والعرض كثير والمهارة في التصريف ممتازة، والعقول ساذجة، والإرادة ضعيفة في اغلب الحالات

كثيراً ما ألحظ وأنا أشتري شيئاً من الصيدلية، أو من متاجر الأدوية، سيدات يستغلهن مهرة الباعة فيها استغلالاً سيئاً، وكثيرات من السيدات يفوضن أمرهن للبائعة اللبقة، أو البائع ذي الحيلة لينصحا لهن بما يشترين، مما يكون أقوى أثراً في زينتهن

ولنا أن نتصور أي نوع وأية كمية من البضاعة يبتاع هؤلاء السيدات!

أما الحالة في العراق، فانه ولو لم أعثر فيه أيضاً على إحصائيات يستدل منها على مقدار ما تنفقه السيدات هناك على التجميل، فإني بما شهدته من تهافت المرأة، وطنية وأجنبية، على الأصباغ والدهون والعطور، والتغالي في عمل التواليت بوجوههن وأيديهن بل وأرجلهن، باستعمال أجود أنواع الزينة وأغلاها ثمناً، أستطيع أن أقول أن المبالغ التي يصرفنها حتماً تكون ضخمة.

ويأتي بعد سيدات العراق السيدات اللبنانيات

أما السوريات (وعلى الأخص الرشيقات) فكثرتهن لا يحسن استعمال هذه الأشياء، ولا يسرفن فيها

والسورية العادية لها طرق تزين أهلية، فتستعمل أنواعاً من تربة أرض بلادها وأعشابها، وتستعمل أنواعاً من الصابون من صناعات حلب. وبالضرورة قد تحتوي هذه الأشياء أنواعاً من العناصر الضارة التي تتلف الأجزاء التي توضع فوقها من الجسم، ولكن المرأة لا تبالي كثيراً بذلك لجهلها من جهة ولشدة اقتصادها من جهة أخرى، ولا تستطيع أن تدرك أنها تسرف من حيث تقتصد

أما المرأة التركية فتسرف في استعمال وسائل الزينة ولكنها تتزين بفن وحسن وذوق

والمرأة اليونانية الحديثة قد سبق لنا ذكر شيء عن زينتها، والأغلب عليها الاعتدال والبساطة في التجميل وفي النفقات

أما المرأة اليوجسلافية، فأشد نساء أوربا الحديثة تطرفاً، ولكن بحسن تصرف وإتقان، ويغلب عليها الإسراف الشديد.

والنساء الفرنسيات لهن شهرة معروفة عالمية في فن التجميل، ومع إسرافهن الشديد في عمل التواليت، وانفاق الكثير جداً على أسبابه، فانه مشهود لهن بالدقة والصنعة وحسن التصرف.

أما المرأة الألمانية، فتكاد تكون مسترجلة في هذا الصدد، والتزين الصناعي قليل عندهن، ولذلك فكثرتهن يعانين حياة سقيمة مع أزواجهن، ومن العجيب أن العلم وحده لا يفيد كثيراً في الحياة، فانه بقدر ما تمتاز به المرأة الألمانية من علم وثقافة، وتفرغ لفن الأسرة، بقدر ما يتعلل الرجل عليها. وهي تكلف نفسها فوق ما تحتمل النهوض به من مسؤوليات الحياة العملية، فتهرم قبل أوانها، ولا تحاول كثيراً أن تخفي هذه المظاهر بعمل التواليت.

هذه إلمامة سريعة بفن التجميل بالنسبة للمرأة في العصر الحاضر، فهل كانت وسائله قديماً مشابهة لما تستخدمه الآن؟ هذا ما سنطالعه في الأسبوع القادم إن شاء الله.

زينب الحكيم