مجلة الرسالة/العدد 293/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 293/الكُتُب
رجعة أبي العلاء
تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد
أبو العلاء المعري رجل عبقري الذهن ما في ذلك شك، وهو في عبقريته هذه نفاذ مستوعب يقتحم كل شيء ويحيط بكل شيء. ولقد اهتم به كثير من النقاد والباحثين في هذه الناحية، فدرسوا آثاره، وشرحوا أقواله، وحللوا ملكاته، وقال كل فيه بما يرى وعلى ما يفهم، والأستاذ العقاد في جملة هؤلاء الذين عنوا بشيخ المعرة، بل إنه لأشدهم مصاحبة له، ونظراً فيه، وإدماناً عليه. اتخذه رفيقاً في جميع أطوار فكره، وجرى معه في كل أدوار عمره، وكتب عنه في (المطالعات) عدة فصول هي أدق وأعمق ما كتب عن المعري في عبقريته وفلسفته وتحليل ملكاته. . .
والمعري أيضاً رجل عبقري النفس ما في ذلك شك، وعبقرية النفس هي الشعور بالواجب والحرص عليه، والإيمان بالحق والتفاني فيه، والإحساس القوي الذي يملأ النفس بالروحانية والثقة والكرامة والأنفة والترفع عن كل ما يشين ويزري بصاحبه. وغاية الكمال في (الشخصية) الإنسانية أن تجتمع لها العبقريتان: عبقرية الذهن وعبقرية النفس، فتتوازن من الجانبين، وتتعادل في الجهتين، فإذا هي على استواء في التفكير والتقدير، والعواطف والأهواء. . .
وإذا كان المعري في الناحية الأولى قد أشبعه الباحثون قديماً وحديثاً بالبحث والدرس، فإنه في الثانية مطمور مغمور، لم يفطن إليه كاتب، ولم ينتبه له ناقد، ومن هذه الناحية المجهولة، أراد العقاد أن يكشف عن أبي العلاء في (رجعة أبي العلاء) فبلغ من ذلك غاية ما يبلغه الناقد البصير في الكشف عن (مجهول) بالفرض والاستنتاج والحدْس والتخمين والمقارنة بين العبقريات والشخصيات، والمقابلة بين الآراء والأفكار، مع مراعاة الزمان والمكان، والظروف والملابسات.
ففي المقال الذي كتبه العقاد عن (صاحب الجلالة المعري) دراسة قويمة نافذة، تتجلى فيها عبقرية العقاد في البحث والتحليل وتنكشف فيها عبقرية المعري النفسية، أو ما يسميه العقاد بشيمة السمت والوقار، أو كما نقول في لغة العصر الحاضر: أدب البيئة وأصول اللياقة (ص 24) ومن رأي العقاد أن هذه الخصلة في الرجل ترجع إلى مراجع كثيرة: هي التربية في بيت العلم والوجاهة، والسليقة العربية، وفقد البصر، والكبرياء، وعزة النفس، ووهن البنية، وضعف الخوالج الجسدية ضعفاً أتاح له أن يكبح نوازع اللحم والدم ويقمع دوافع الشهوات.
وفي الفصل التالي يمعن العقاد في التحليل والكشف عن عبقرية المعري النفسية، ويحاول أن ينظر إليه في (عالم السريرة) فيسأل: هل كان من المستطاع تغيير هذه الخصلة، خصلة السمت والوقار؟ ثم يسأل: وماذا كان المعري صانعاً لو أنها تغيرت بعض التغيير أو كل التغيير؟ ثم يجيب العقاد على ذلك بأن تغييرها كان مستطاعاً كما يستطاع كل تغيير في عوارض الصفات، وأكبر الظن في هذه الحالة أنه كان يجمع بين النواسية والخيامية في نمط واحد، أو كان يخرج لنا نمطاً جديداً يضاف إلى نمط النواسي ونمط الخيام في ديوان الآداب الشرقية.
ولقد بلغ العقاد في هذا الفصل والذي قبله غاية لا تطاول في التحليل والتقدير والاستنباط، وهذان الفصلان هما خير ما في كتابه من الدراسة، وأمتع ما فيه من نفاذ الذهن العبقري في إدراك السر العبقري.
ولقد فرض العقاد لشيخه المعري فروضاً كثيرة، ونظره في أوضاع مختلفة، ولقد حاول أن يلبسه لبوس قاضي المعرة، أو أن يظهره في مظهر النواسي، أو يجعله على نهج الخيام وطريقته، ولكنه انتهى به إلى حقيقته الكائنة (فأبو العلاء هو أبو العلاء) حين يمعن في أغوار ضميره فيلمح هواجس قلبه، وشكوك عقله، ومادة علمه واختباره، وآثار نعمته وحرمانه.
وبهذه الطبيعة الكائنة رجع العقاد بشيخه المعري إلى الحياة، وطوّف به في أنحاء الأرض، واستطلع طلعه في شؤون العالم الحاضر مما رأى وسمع. فلما بلغ غاية المطاف، وسئم المضيفين والأضياف، رجع به إلى مثواه، وانتهى به إلى حيث هو في رقاده، بعد أن ودّعه بقصيدٍ على طريقة اللزوميات. والفكرة في رجعة أبي العلاء قد حاولها المنفلوطي رحمه الله من قبل، ولكن هناك فرقاً كبيراً بين العقاد والمنفلوطي في رجعة أبي العلاء وبعثه، فقد كان المنفلوطي يبغي دراسة المعري من أقواله وأشعاره فانتهج لذلك نهجاً قصصياً قريباً إلى النفوس، سهلاً في التناول. أما العقاد فقد تخيّل (رهن المحبسين) يجوس بيننا خلال الديار، ويتمرس بأحوال الأمم في عالمنا الحاضر. ثم راح ينطقه بالرأي في شؤون زماننا بالقياس على المعهود من كلامه، والمقابلة بين المعروف من آرائه، وهو في كل هذا يستشهد بشعره، ويتمثل بقوله، ويصطنع لغته، ويجري على طريقته. . .
ولقد أخذ على العقاد بأنه في كتابه قد أظهر شخصيته هو لا شخصية أبي العلاء، وأبدى رأيه هو لا رأي شيخه في الحياة، وأنه أنطق الرجل بالقرآن وما كان ديدنه ذلك، وكأني بقائل هذا قد فاته الغرض الذي قصد إليه العقاد. وأشار إليه في المقدمة بصريح العبارة، فإن العقاد لم يقصد إلى دراسة المعري ولكنه فرضه حيَّا في هذا العصر، وعلى هذا الفرض أنطقه بالرأي قباساً على المعهود من كلامه وآرائه كما يقول، فله أجر المجتهد إن أخطأ أو أصاب في مجال الفرض والتخمين. . .
وفي الكتاب أقوال يجوز فيها بيننا وبين الأستاذ الخلاف، فهو يقول مثلاً: أما الخمر فلا أستبعد أن الشيخ قد ذاقها في بعض الأديرة التي كان يغشاها للدرس (ص 46) وأنا أخالف الأستاذ في ذلك وأرى أن وصفه للخمر لا يقوم دليلاً على ذلك. والأستاذ العقاد نفسه يأخذ بهذا الرأي فيما كتبه عن المعري في المطالعات فبأي قولي الأستاذ نأخذ؟
ويقول على لسان المعري لتلميذه حسبك حسبك وهو يشرح له فلسفة العصر في المرأة، وعهدنا بالمعري يتلهف على المعرفة، ويضرب إليها أكباد الإبل، فليس من طبعه أن يقول: حسبك حسبك. في مثل هذا المقام.
ويقول العقاد: أما أبو العلاء فهو قريب من أبو نواس في الثقافة، وكان الأنسب أن يقول: ولقد كان أبو نواس قريباً من المعري في ثقافته. . . والفرق واضح بين القولين.
ويحاول الأستاذ العقاد أن يقف بالمعري في المناقشة والمحاجة دائماً موقف المتريث المجمجم الممتعض، وما كان المعري كذلك بطبعه إلا في مواقف التقيّة والمداراة.
وأعود فأثني على كتاب أستاذنا الكبير خير ثناء، وأشكره على يوم قضيته في استجلاء (كتابه) فلم أندم عليه، بل ربحت منه الكثير، وأفدت منه النافع الجليل.
م. ف. ع