مجلة الرسالة/العدد 292/الأستاذ محمد عبد الوهاب
مجلة الرسالة/العدد 292/الأستاذ محمد عبد الوهاب
من الوجهة الفنية
لم يخدم (الحظ) في دنيا الموسيقيين أحد كما خدم عبد الوهاب، ولم
يتطوع الزمن في ركاب كما تطوع في ركابه حتى أبدله نعمى بيؤس،
ويسراً بعسر. . .!
هو من صدور (الملحنين) في الشرق، ولكنه سيد المطربين فيه. بز القدماء بقديمة، وعز على قرنائه بجديده وتجديده.
سما بالموسيقى سمواً كبيراً حتى جعل منها شيئاً محترماً، وارتفع بمنزلة (المطرب) ارتفاعاً عظيماً حتى أصبح العظماء يتوددون إليه بعد أن كانوا يحسبونه مهرجاً لا أكثر. . .!!
صوت رخيم جميل، ولعله أسلم أصوات مطربينا وأقدرهم على التطريب الحق الذي يأسر النفس، ويملك الحس. لا نستطيع أن نقول عنه إنه غني (بتريولاته) ولكننا نستطيع أن نقول إنه غني بالطاعة لصاحبه، والخضوع لكل أوامره ونواهيه
يبلغ أربعة عشر مقاماً (أوكتافين)، خمس مقامات (تينور) ثقيل، وتسعة مقامات (بريتون) تقريباً كلها سليمة قوية واضحة لامعة
لا يرتجل، ومع كل ذلك فهو (يشتغل)! ويشتغل شغلاً عجيباً يدر عليه الآلاف المؤلفة. والسر في هذا أنه لا يؤمن بالتصرف ولا بالارتجال، ولا يغني إلا بعد أن يكون قد لحن الكلام وجربه أكثر من عشرين مرة مع رجال تخته. فإذا طلبت منه (مقطوعة) له قديمة غناها كما سجلها دون تصرف أو خروج كالأسطوانات تماماً. . .!
يحب فنه أكثر مما يحب نفسه؛ ولذلك لا تعجب حينما تعرف أنه لا يرى بأساً من مواصلة ليلة بنهاره ونهاره بليله ملحناً وعازفاً دون أن يراعي صحته الضعيفة! درس (الصولفيج) دراسة طويلة، وهذا ما أفاد صوته كثيراً، ولكنه مع هذا لم يستطع أن يسجل لنفسه لحناً واحداً (بالنوتة) بل يستعين في ذلك بالأستاذين جميل عويس، وعزيز صادق
هو أول من أدخل على التخت العربي آلات الكونترباس. . . الفيولانسيل. . إلاكورديون الكاستنيت. . المثلث النحاسي. . النقرزان. . .
له مدرسة واسعة تضم أغلب الشرق مطبوعة بطابعه، ملونة بلونه، لا تحب إلا إياه ولا تستسيغ إنتاجاً إلا إنتاجه وكفاه فخراً أنه (متبوع) أبداً فلا يكاد يخرج شيئاً جديداً حتى ترى بعض الملحنين الذين يتعقبونه ويترسمون خطاه قد حاكوه وقلدوه. فالموسيقى العربية لم تكن تعرف أو لم تكن تعترف بالرومبا، والتانجو، والكاريوكا. فلم يكد يمصرها يخضعها للذوق الشرقي حتى تهافت عليها غيره كالذباب عدداً وهم يحسبون أنهم ملحنون مجددون كعبد الوهاب
تدين له الموسيقى بالشيء الكثير؛ فهو وإن كان لم يخلق كبتهوفن، ومونسارت، وفجنر، وهندل، ودي لاسو (مثلاً) إلا أنه جدد، وجمع من هنا وهناك بذوق سام حتى خلع على الموسيقى إهاباً قشيباً متيناً! أصبح الآن (مقلاً) لدوجة تبعث على النقد؛ وهو يحتج بتفرغه للسينما ولكننا لا نعفيه من اللوم، فالمال لا يدوم، وإن دام فالسمعة وحب الشعب والمجد والشهرة، كل هذه الأشياء لا يغذيها إلا العمل، والعمل المتواصل الذي يمدها بالحياة.
سن للمطربين سنة (الطراوة والاسترخاء، والدموع) فقلما يغني شيئاً حماسياً أو وصفيا، بل أغلب أغانيه غزلية فحسب فإذا سألته السبب قال: إن الشعب لا يحب ولا يشجع إلا هذا اللون، وما درى أنه وحده الذي يقع عليه أغلب هذا الوزر. المعروف أن المغني الحق هو الذي يقع لا يعرف إلا فنه، وفنه فقط ولكن عبد الوهاب أراد أن يخالف هذه النظرية فعرف الفن وغير الفن، وتأثر بميول ضد ميول وقد عرف عنه ذلك ومع ذلك كل فهو يصر على لونه. . .
إن الفن موطنه السماء؛ ومن في السماء فوق الجميع وللجميع. فمن ترك فنه وسماءه ليعيش فوق الأرض جرفه التيار الذي لا يرحم
محمد السيد المويلحي