انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 290/صحائف من تاريخنا القومي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 290/صحائف من تاريخنا القومي

مجلة الرسالة - العدد 290
صحائف من تاريخنا القومي
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 01 - 1939



الغرب يتجنى

للأستاذ أحمد خاكي

حينما يستشرف المؤرخ القومي لأخريات القرن التاسع عشر، ومبدأ القرن العشرين، يرى في مصر مدرسة من مدارس الفكر والسياسة جديرة بأن تذكر بين الأفراد القلائل الذين قادونا في تاريخنا القومي. وكانت هذه الفترة في تاريخنا هي الفاصلة بين حياة من الاستعباد المقيم، وبين حياة أخرى من الحرية والمجد. وقد استطاعت القومية المصرية أن تحيا خلال تلك السنين السود على الرغم مما اعتورها من أطماع الإمبراطوريات المستعمرة، وعلى الرغم من فترة الركود التي تثاقلت على أفئدة المصريين بعد الفشل الذي أصاب الثورة العرابية. وإذا انتزع المؤرخ نفسه من غمار الحوادث التي قامت في مصر منذ مبدأ القرن التاسع عشر حتى اليوم، استطاع أن يشهد للقومية المصرية وحدة خاصة تبدأ منذ اليوم الأول الذي خطا فيه نابليون في بلادنا المقدسة، وتظل مجدة جاهدة تصيب النجاح في أحيان، ويصيبها العثار في أحيان أخرى

على أن في دراسة القومية المصرية في الفترة التي تلت الثورة العرابية كثيراً من العظات والعبر التي ينبغي أن ننعم النظر فيها. ذلك بأن حياتنا الاجتماعية والسياسية تقوم على الأسس التي بناها سلفاؤنا في أعقاب القرن التاسع عشر؛ بل كثير من النقائص التي ما زالت تميز كياننا الاجتماعي ترجع إلى تطورنا أثناء ذلك القرن. وهذه الفترة الخطرة هي التي التقى فيها الغرب والشرق على أساس من سوء الظن والاستغلال، وهي كانت الفترة التي بلغت فيها الفكرة الإمبراطورية عند إنجلترا وفرنسا أكثر ما بلغت، فكان ضحاياها بلاد الشرق الأدنى، وبلاد المغرب الأقصى، وغير أولئك وهؤلاء من سكان أفريقية وآسيا. وإذا كانت مصر قد استطاعت أن تتخفف من تلك القيود التي ضربت عليها في سنة 1882 فإنما ذلك لأن القومية المصرية كانت شديدة المراس شديدة البأس

وقد بدأت الحركة القومية في مصر في زمن نابليون، وأنتجت تولية محمد على في سنة 1805. على أن القومية لم تصبح أملاً من آمال الشعب إلا في سنة 1882، حين قام عرابي وصاحباه يحتجون على تفوق العنصر الجركسي والتركي في الجيش، وسوء المعاملة التي يلقاها المصريون. كان هذا سبباً من أسباب الثورة، إلا أن الثورة الفكرية كانت عنيفة في نفس كثير من المصريين. فإن البلاد كانت أوتيت قليلاً من العلم، وكانت تعاليم جمال الدين الأفغاني الذي نزل مصر سنة 1871 قد بدأت تزدهر. وظهرت الجرائد وكونت رأياً بين الخاصة، وكان الجيش وعلماء الأزهر أقوى هؤلاء. فكانت الثورة التي حمل لواءها عرابي باشا، وقد اقترنت الثورة بخليط معقد من العناصر. فقد كانت مسلمة، وقد كانت دستورية، وقد كانت تنفسن على الأجانب ما حازوه من سطوة، وما ينعمون به من متاع الوظائف وبسطة النفوذ

على أن الثورة العرابية لم تكن مستنيرة شُجاعة على الرغم مما انطوت عليه من عناصر. ذلك بأن العسكريين الذين ملكوا أزمتها لم يدركوا الخطر المحقق الذي تنطوي عليه خطة العداء للخديو؛ ثم إنهم لم يكونوا عسكريين بالمعنى الذي نفهمه الآن من تلك الكلمة، فلم يكن لهم قوة التنظيم ولا المصابرة على أنواع الجهاد. حتى عرابي نفسه لم يستطع أن يتصرف في موقفه تصرف الجندي المغامر. ولو أنه أراد النجاح بأي ثمن لما تردد لحظة واحدة في القبض على الذين اشتبه في خيانتهم، ولا تردد في سد قناة السويس حتى يقطع السبيل على الإنجليز. ثم إن الجيش الذي كان يأتمر عليه عرابي لم يكن إلا فلول الجيش الآخر الذي انتصر أيام محمد علي وإسماعيل لأنه الوسيلة التي كانت تتبع في جمعه كانت وسيلة منفرة شائنة، ويكفي أن الجنود كانت تؤخذ قسراً من القرى والدساكر تحت لهيب السياط

لكن العنصر القومي الذي بدأ بالسيد عمر مكرم أيام محمد علي ما زال يدب في أوصال البلاد دبيباً خفيّاً لا يكاد يسمع له ركز حتى تمثل في حركة الإصلاح التي قامت بعد أن هدأت الثورة العرابية وبعد أن استقرت الأمور. ذلك العنصر هو الذي تمثله المدرسة الفكرية التي بدأها جمال الدين، وكانت قد وقفت تلك المدرسة تنتظر حينما فشل عرابي وتشتت ما أعضائها أفراد كثيرون. لكنها أقبلت على الحياة بعد استقرار الثورة وهي مؤمنة بحق مصر في الحياة العامة على الرغم الاحتلال البريطاني الذي ابتليت به البلاد وعلى الرغم مما أصاب الحزب العسكري من وهن. وقد احتكت هذه الفئة الجديدة بالتفكير الأوربي فاستوعبت كثيراً من الأفكار الغربية من مصادرها الأولى، وازدهرت هذه الفئة في أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وبلغ من تقدير اللورد كرومر لهم أن قال: إنهم كانوا يشبهون الجيروند في فرنسا. والحق أن كثرتهم كانت تشبه الجيروند في تعلقهم بالمثل الأعلى وفي إيمانهم بسمو الفكرة وفي الثقافة والشجاعة والإخلاص

كان بين هؤلاء الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وانضم إليهم قاسم أمين وسعد زغلول. وقد اجتمع هؤلاء لا على أن يكونوا حزباً سياسياً ولا ليدافعوا عن فكرة خاصة عينوها، وإنما هي الحوادث والميول ربطت بين قلوبهم. وكانت الوطنية المصرية قد فقدت قليلاً من الثقة حين ضعضعها الفشل بعد الثورة لكنها بدأت تلتئم رويداً رويداً فابتنيت على أسس أخرى غير التي قوضتها الثورة. ونمت في أعقاب القرن الماضي تلك الفئة المثقفة التي مثلت في مصر نفس الدور الذي قامت به الطبقة الوسطى المستنيرة في إنجلترا وفرنسا. فكانوا هم رسل الحياة الأوربية في مصر. درس الكثير منهم القانون في جامعة ليون بفرنسا، وتأثر الكثير بالدراسات التي زخرت بها كتب الفلسفة والقانون. فكان من هؤلاء زعماء الفكر في مصر، بل لقد كان منهم الزعيم السياسي مصطفى كامل

لم يكن بين هذه المدرسة الحديثة التي قامت في سنة 1890 وما بعدها علاقات وثيقة بالثورة العرابية، وقد كانت الثورة العرابية مادية طغت فيها المصلحة على الوطنية الخالصة، ولم تكن هذه الثورة مستنيرة لأن الكثرة من زعمائنا كانوا جنودا غير مستنيرين، بل ولم تكن شُجاعة لأن عرابي نفسه لم يكن شجاعا. أما جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين ومن جرى في أثرهم فقد جمعوا بين الوطنية والتنور والشجاعة. ولم يربطوا غرضهم القومي بترقيات لفئات خاصة، وكانت ثقافتهم أصيلة لأنهم درسوا أصول الثقافة عند الغرب وعند الشرق وحاولوا أن يؤلفوا بين الثقافتين.

تلك هي الفئة التي حملت الثقافة القومية الأولى في هذه الفترة الدقيقة من تاريخنا الحديث. ولقد أدت رسالتها على خير وجوهها وكان عصرها غنيا بمختلف أنواع النشاط. وحينما ألقى العرابيون سيوفهم شرع هؤلاء أقلامهم يكتبون، وحينما خَفَت زئير المدافع اعتلوا المنابر يخطبون. ولقد كان الشرق والغرب خلال تلك الفترة في كفاح ظاهره العلم والدين والثقافة وباطنه الاستغلال والسيطرة والاستعباد. وكان هانوتو ورينان ودوق داركور يكتبون من ناحية الغرب، وكان جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين يردون من ناحية الشرق.

والحق لقد كانت ظاهرة نفسية غربية تلك التي تنظرت بها كتابات هانوتو ورينان وداركور وقد نقد هؤلاء وكثير غيرهم من الكتاب والمؤرخين والفلاسفة أصول الإسلام، ولعل هؤلاء كانوا يؤيدون في ذلك الاتجاهات الاستعمارية الخاصة التي توجهت بها فرنسا من غير أن يكونوا يشعرون بذلك. ولأمر ما قام هؤلاء قومة رجل واحد يحاولون أن يتحيفوا من الجماعة المصرية وأن يتنقصوا من الدين الإسلامي جميعه. لكنهم وجدوا تلك المدرسة العصرية المثقفة. وكان على هؤلاء أن يثبتوا أن الإسلام الحقيقي غير العادات العتيقة والتقاليد البالية التي حسب الفرنسيون أنها الدين.

حينما بحث هانوتو قواعد الإسلام كان يحاول أن يختط خطة لمعاملة المستضعفين من أبناء المستعمرات التي انتقلت تحت الحكم الفرنسي. وكان جديراً بمثل بحثه أن يكون متحيزاً لأنه كان في مكان الحاكم الذي يملي على المحكوم. وقد وجد هانوتو في كتابات محمد عبده صدى لما كان يجول في صدور هذه المدرسة الكريمة التي ذكرت. وكذلك قل عن الدوق داركور فإن هذا الكاتب مكث في مصر بضعة شهور كان يحسب أنه قد أوتي خلالها العلم جميعاً بأحوال المصريين. وقد

حاول أن يرجع كل نقص رآه إلى طبيعة الدين نفسه، فكان على قاسم أمين أن يقرع الحجة بالحجة ويرد البرهان بالبرهان. وما فرغ دوق داركور من كتابه عن (مصر والمصريين) حتى كان قاسم أمين يهيئ كتاباً في الرد عليه سماه (المصريون).

والحق أن هذا الكفاح الذي قام بين الشرق والغرب كان مفيداً للحياة المصرية بوجه عام. ذلك أن قوماً مثل محمد عبده وقاسم أمين قد أدركوا في دفاعهم عن مبادئ الإسلام أن في المجتمع المصري كثيراً من المثالب التي ينبغي إصلاحها. ونحن نرى أن في الوقت الذي كان الأستاذ الإمام وقاسم أمين يردان فيه على كتاب الفرنسيين - في نفس الوقت كانوا يهيئون أنفسهم للكتابة عن مصر، وكان محمد عبده يمثل الناحية الدينية فحاول أن يضع أصول الدين في موضعها الأول وحاول أن ينشر ثقافة دينية في مصر لم تزل إلى اليوم مجدة قوية جاهدة، وما كان ذلك الاتجاه الجديد إلا لأنه وجد نفسه في موقف المدافع فعرف القضية من جميع وجوهها وحاول أن يقيم ما اعوج وأن يحفظ على مصر والمصريين كرامتهم.

ولقاسم أمين بعد ذلك وجه آخر من وجوه الإصلاح. فقد كتب كتابه رداً على دوق داركور في سنة 1894 إلا أنه لم يلبث بضع سنوات حتى وجد أن دوق داركور نفسه قد تكلم عن مفاسد حقيقية بالبحث والتفطن فكتب كتابيه (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة) ينقد فيهما نظمنا الاجتماعية الفاسدة والمبدأ الذي دارت عليه بحوثه في المرأة وتحريرها هو مبدأ القدرة على استكمال النقص الذي يتبعه كثير من أنصار التقدم، وقد حاول على هذا الأساس أن ينقد التقاليد والعادات التي جدّت من حرية المرأة وجعلتها في الموضع الأدنى من تقدير الرجال. على أن قاسماً من وجه آخر كان يرى أن إصلاح المرأة بدء الإصلاح العام كانت المدرسة المثقفة التي قامت في نهاية القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين هي المدرسة القومية التي استنارت بنور العلم والتي أقبلت على الإصلاح بلهفة المؤمنين بالمثل الأعلى، وهي المدرسة التي تخرج فيها مصطفى كامل وسعد زغلول، وهي الأصل في نهضتنا القومية التي بدأت بعد الحرب الكبرى والتي لما تنته بعد من وضع منهاجها القومي الذي يجب أن نعمل له

وكانت هذه المدرسة مؤمنة للمثل العليا في الدين والخلق النصيب الأوفى من تقديرها، بل كان لها من المعايير الدينية والخلقية ما لا نزال نحن في حاجة إلى أحيائه في العصر الحاضر.

دفعها هذا إلى الإيمان بأن وحدة الإسلام ينبغي أن تقوم ضد الغرب وقد أراد أن يعصف بذلك الأيمان العميق الذي حل في أغوار النفس عند الشرقيين عامة والمصريين بوجه خاص. وذلك نفسه تفسير لتلك الوحدة الإسلامية التي دعا إليها الداعون في ذلك الزمن. كان لا يزال هؤلاء وكثير غيرهم يحسنون الظن بدولة الخلافة. لكنهم في نفس الوقت الذي كانوا يحتفظون فيه بعلائق المودة والرحمة بالدولة التي كان عليها أن تحفظ تراث المسلمين - في نفس ذلك الوقت كانت آثار أقلامهم تحيي الشعور القومي عند المصريين. وما تجيّل هذا الجيل حتى نبتت فكرة أساسها الدفاع عن الوطنية المصرية أمام الأتراك والمتتركين. فدعا الجيل الذي عاش قبل الحرب الكبرى إلى أن تكون مصر للمصريين. وأنت تلمح هذين الوجهين من وجوه القومية المصرية في حياة مصطفى كامل وأنت تلمح الوجه الأخير ظاهراً جلياً في حياة سعد زغلول، ولو أن مصطفى كامل عاش إلى ما بعد الحرب العظمى لدعا إلى ما دعا إليه سعد

أحمد خاكي