مجلة الرسالة/العدد 290/الأم. . . أو التاريخ الحي
مجلة الرسالة/العدد 290/الأم. . . أو التاريخ الحي
للأستاذ عباس محمود العقاد
كثر الحديث في الأسبوع الماضي عن (ماري أنطوانيت) والثورة الفرنسية، لأن داراً من دور الصور المتحركة عرضت حياة هذه الملكة المنكوية في صورة قريبة إلى التاريخ ولكنها أقرب إلى الفن والتصرف الذي يقتضيه في بعض المناظر. وشهدت هذه الرواية التاريخية فأيقنت من براعة تمثيلها وعرضها أنها قد جعلت الثورة الفرنسية ذكرى حياة لمن شهدوها كأنهم قد عاشوا في أيامها وتقلبوا بين تقلباتها وطبعوا في إخلادهم بعض حوادثها. وأعانهم على ذلك أن حقائق التاريخ ملتزمة في مسائلها الجوهرية أحسن التزام مستطاع، وأنها معروضة على مثال نفسي لا على مثال اجتماعي أو علمي يقصر الأمر على التأمل والتدبر ولا ينفذ به إلى معترك العاطفة والإحساس
قال (ستيفان زفيج) أكبر كتاب السير المعاصرين فيما مهد به لسيرة (ماري أنطوانيت) إن: (الفاجعة التاريخية) تقوم على البطولة أو على أناس من جبابرة النفوس والعقول. فإن لم تكن كذلك فهي تقوم على (إنسان عادي) يتعرض للأحداث الجسام التي تفوقه في الكبر والضخامة وتجعله عظيما بما يحيط به من أقدار عظيمة وإحن لا طاقة له باتقائها ولا بالخلاص منها بعد وقوعها
ولم تكن ماري أنطوانيت من معدن البطولة والجبروت، ولكنها كانت امرأة من الطراز الوسط في الذكاء والمزاج والأخلاق، تحب سهولة الحياة ولا تشغل بالها بالفوادح والمشكلات. فلما أحاطت بها الفوادح والمشكلات على الرغم منها ظهرت (الفاجعة التاريخية) على نمط يشبه فواجع الأبطال والجبابرة، من غير بطولة ولا جبروت
والرأي عندنا أن (الفاجعة الكبرى) تهز النفس هزاً عنيفاً في حالتين اثنتين: إحداهما حالة البطولة والجبروت التي أشار إليها ستيفان زفيج، والثانية حالة الإنسان العادي الذي تمتحنه الأحداث في كل جانب من جوانب نفسه فلا تدع له حاسبة بعيدة من سلطانها غير مجروفة في دوافق تيارها. وكذلك كانت فاجعة التاريخ التي أحاطت بماري أنطوانيت
كانت ملكة وزوجة وأما ومحبة وامرأة من بنات آدم وحواء كسائر النساء. فما تركت لها الأحداث جانباً من هذه الجوانب إلا استغرقته وطغت عليه: امتحنت منها الملكة في دولته ونظام حكمها وعلاقتها بسياسة بلادها التي حكمتها وسياسة بلادها التي ولدت فيها؛ وامتحنت منها الزوجة في قرينها الذي حالت بينها وبينه علة العجز الصحي سبع سنوات، حتى إذا شفي من عجزه أصابتها فيه خطوب الثورة ودسائس البلاط؛ وامتحنت منها الأم فطعنها الثوار وطعنها وليدها نفسه في أمومتها، بل في شرف الأمومة فضلاً عن حنانها؛ وامتحنت منها المحبة فكانت قصتها مع السويدي فرزن كأقسى ما تكون قصص الفراق أو قصص الغرام المكبوت؛ وامتحنتها في أنوثتها فوقفت بينها امرأة عزلاء بادية المقاتل لكل سهم مسموم
لذلك كانت فاجعة (ماري أنطوانيت) من أكبر فواجع التاريخ وإن كانت هي وكان لويس السادس عشر زوجها المظلوم من معدن غير معدن البطولة والجبروت، لأن النفس الآدمية تقابل هذه الفاجعة من نواحي شتى وصلت كلها إلى غاية المدى وقصارى الاستقصاء. ولا ريب أن الفجيعة الكبرى بين هذه الفجائع المتفرقة التي التقت في شخص واحد كانت هي فجيعة الأم أو فجيعة الأمومة البالغة في القسوة والإيلام
شهد القاهريون (نور ماشيرر) وهي تمثل فجيعة ماري أنطوانيت يوم جاءها وكلاء الثورة يأخذون منها طفلها الصغير وسلوتها العظمى في بلاء السجن وبلاء الضنك والحرمان
فأما (ماري أنطوانيت) فالتاريخ لا يروي لنا أنها قد فعلت في ساعة توديع ابنها ما فعلته نور ماشيرر على اللوحة البيضاء، ولا أنها قد مانعت هذه الممانعة وتخبطت هذا التخبط وبكت هذا البكاء، ولكن الممثلة أرادت أن تجمع في هذا الموقف ما تفرق في أعوام من الحنان المفجوع والعطف المطعون، فبالغت هذه المبالغة التي صدقت بها الفن وإن لم تصدق التاريخ
فقد ثبت في الأسانيد الصحيحة أن هذه الأم الوفية ضيعت نفسها مرات وأعرضت عن كثير من وسائل النجاة في سبيل الطمأنينة على وليدها الصغير
فلما فشلت خطة الهرب إلى (فارين) وأصبح استئناف السير في المركبة المقفلة ضربا من المستحيل عرض عليها بعض الأنصار المخلصين ركوب الجياد في المسافة القصيرة الباقية بينهم وبين الحدود قبل إطباق الثوار والجنود، فأبت هذا الاقتراح مخافة على ابنها أن تصيبه رصاصة من بعض الجند، لا يأمن التعرض لها على ظهر جواد كما يأمنها في المركبة المقفلة أو الركب المجهول
ولما دبر الملكيون إخراجها من السجن وإخراج ابنها وبنتها معها في أسمال العامل الذي يوقد المصابيح مع أولاده الصغار فشلت هذه الخطة في اللحظة الأخيرة، ثم قيل للملكة إنها تستطيع الهرب وحدها على أن تترك ابنها وابنتها ولا خوف عليهما كما يخاف عليها هي من جراء المحاكمة والاضطهاد. فأبت كل الإباء وآثرت البقاء مع ولديها على النجاة وحدها وهي لا تعلم مصير هذين الطفلين
ولما ألح عليها المحامي أن تسأل المحكمة الثورية تأجيل يوم المحاكمة ريثما يستعد للدفاع ويفرغ من مراجعة الأوراق رفضت إلحاحه وأصرت على رفضها مخافة أن يكون اعترافها بحكومة الثورة بمثابة النزول عن حق ولدها في وراثة التاج. فعاد المحامي يحتال عليها من ناحية حنان الأمومة، ويذكرها أن حياتها مطلوبة لولدها لا لنفسها، واسترسل في هذا الإغراء فلم يتحدث طويلاً على هذه النغمة حتى أقلعت عن عنادها وثابت إلى القبول وكتبت خطابها المحفوظ الذي جمعت فيه بين الحيطة والإصغاء إلى رجاء المحامي، فأفرغته في قالب الإخبار والعمل بنصيحة المحامي كأنما هو مكتوب على لسانه لا على لسانها حتى يتحقق به الإبلاغ ولا يتحقق به الاعتراف
والكارثة الكبرى يوم ضبط ابنها الصغير بعد فصله منها وهو يعبث العبث الذي لا يعرف في مثل سنه الباكرة، فلما روّع بالسؤال عمن علمه هذا أجاب على عادة الأطفال: إنها هي أمه وعمته. . .! ثم حرضه المحرضون على الشهادة بما قال وبما أضافوه إليه من هراء لا يقبله العقل ولا يحتمله التصديق، فأنفت أن تجيب عن هذه التهمة وتجاهلتها حتى نبه بعض المحلفين رئيس المحكمة إلى هذا التجاهل فأعاد سؤالها فلم تزد على أن تقول: (إذا كنت لم أجب فإنما أبيت الجواب، لأن الطبيعة تأبى أن تجاب تهمة كهذه توجه إلى أم. وإني لأحيل الأمر في هذه المسألة إلى جميع الأمهات الحاضرات في هذا المكان)
فشعر أعضاء المحكمة وشعر دعاة الاتهام معهم أن الضربة فائلة، وأنهم ما صنعوا بها إلا أن قربوا بين هذه الأم وبين جميع الأمهات والآباء، فسرى في الحاضرات والحاضرين شعور العطف عليها والرثاء لما أصابها، وما كانوا حاضرين إلا للشماتة والازدراء
وقد كان آخر ما صنعته بعد صدور الحكم بموتها ويقينها أن وليدها لم يبق له بعدها من يشرف على أمره غير عمته المسجونة، أنها كتبت إلى تلك العمة ترجوها الصفح عن الغلام وتعتذر له بصغر سنه وسهولة إغرائه، وتوصيها به خير الوصاة
لقد كانت مصيبة الأم في حياة ماري أنطوانيت أظلم المصائب وأشدها حلكة وسواداً، ولكنها كانت أنصع الصفحات في سيرة هذه الملكة المنكودة والمرأة المبتلاة، وإن تلك الصفحة وحدها لكفيلة بخلق (الفاجعة الكبرى) في هذه السيرة النادرة بين سير النساء
عباس محمود العقاد