مجلة الرسالة/العدد 289/على هامش الفلسفة
مجلة الرسالة/العدد 289/على هامش الفلسفة
للأستاذ محمد يوسف موسى
مدرس الأخلاق بكلية أصول الدين
هذه أولى كلمات اعتزمت بمعونة الله وتوفيقه موافاة مجلة الرسالة الغراء بها إن تفضلت وفسحت لها مكانا متواضعا بينها رأيت في نشرها خيراً لطلبة الأخلاق في الأزهر وفي غير الأزهر لأنها تتناول بحوثاً لا يستغني عنها دارس الأخلاق
دعاني إلى التفكير في نشرها، بعد أن تعبت كثيراً في تحقيقها، الرغبة الخالصة في المساهمة في إقامة الأخلاق ودراستها على دعائم علمية صحيحة ثابتة، وما أعلمه من أن أحداً لم يتوفر على بحثها مع مسيس الحاجة إليها. وهل يليق بدارس الأخلاق أن يذكر مثلاً (أنها علم من العلوم) دون أن يكلف نفسه عناء البحث في صحة هذا الإطلاق أو عدم صحته؟ ثم أليس من الضروريان يتعرف الباحث بعد ذلك المعين الذي ترجع إليه الأخلاق، والطريق القويم إلى تحديد القانون الأخلاقي؟
هذه المسائل التي تحتاج إلى صبر وطول أناة في بحثها، ونحوها من موضوعات الفلسفة الأخلاقية وما يتصل بها، هي بعض ما عنيت وأعني بدراسته، وما أرجو أن أوفق فيه إلى الصواب غن شاء الله تعالى
الأخلاق والعلم
العلم اليقين، أو المعرفة العامة المضبوطة الصادرة عن نظر وتمحيص. أو المعرفة العامة التي تتجه في جهودها نحو العموم للوصول إلى الحقيقة، هذه التعاريف كلها بمعنى تقريباً. فهل الأخلاق وهي تبحث في الخير والشر والحق والواجب وتعنى بتحديد القانون الأخلاقي وتعرف المثل الأعلى وما شابه ذلك من المعاني الكلية والبحوث النظرية - هل الأخلاق، وهذا أهم مباحثها، يصح أن توصف بأنها علم من العلوم؟ وبعبارة أخرى هل وصلت أو تصل الأخلاق إلى آراء وأحكام تبلغ من العموم وقبول الناس لها حداً يجيز لنا وصفها بأنها حقائق علمية، فيكون هذا الفرع من الدراسات الفلسفية علماً من العلوم التي تقرر حقائق وقوانين عامة؟ هل هي دراسة علمية، أي عمل من أعمال العقل، أو دراسة مرجعها التقاليد التي سيطرت على الأمم في مختلف الأزمان والبيئات؟
نترك الإجابة مؤقتاً عن هذا التساؤل لنتعجل القول بأنه يعرض بادئ الأمر لمن يتساءل هذا التساؤل حقيقة واقعية تفرض نفسها فرضاً، هي إن العلم على اختلاف أنواعه كعلوم الطبيعة والرياضة والمنطق والنفس والاجتماع والحياة والتاريخ، لا يعارض الأخلاق ولا يحل محلها بل يتطلبها
العلم لا يعارض الأخلاق، لأن العقل العلمي يدفعنا إلى معرفة الحقائق على ما هي عليه وفهمها دون أن نعتمد في بحثنا على أية فكرة أو نظرية لم تمحص بعد تمحيصاً كافياً. لكنه لا يمنع أن نقابل بين الواقع وبين ما يجب أن يكون، معرفة الواقع والحقائق العلمية لا تحول بيننا وبين أن يكون لنا مثل أعلى أخلاقي يسمو على ما تعارفه الناس جميعاً
كذلك العلم لا يحل محل الأخلاق ولا يغني عنها. العلم يعرفنا الواقع فحسب في مختلف مناحي الكون ومظاهره، ولا يُعنى البتة بما كان يجب أو بما يجب أن يكون. هو يتحقق لكن لا يحكم. كل العلوم التي أشرنا إليها وأمثالها - ومنها علوم النفس والتاريخ والاجتماع - لا تمدنا بمبادئ للسير والسلوك، ولا بقاعدة نهتدي في أعمالنا بهديها. لكنها في الوقت نفسه لا تريدنا على أن نمتنع عن طلب هذه المبادئ خارجاً عنها
علم الحياة مثلاً يرينا أن الأنواع الحيوانية في تقاتل مستمر، وأن الحرب بينها سجال، وويل للمغلوب فيها لأنها حرب الحياة أو الموت. القوي يفترس الضعيف، والغلب والبقاء للقادر على تعديل نفسه حسب البيئة التي يعيش فيها. هذا هو قانون الحياة بين أنواع الحيوان؛ فهل لنا أن نتخذ ذلك مبدأ لنا في أعمالنا؟ هل مما يتفق مع الأخلاق النبيلة أن نقرر أن الناس - كسائر الحيوان - يجب أن يصدروا في أعمالهم عن مبدأ تنازع البقاء، وبقاء الأقوى؟ أو الخير في أن نحكم أنهم على العكس من هذا يجب أن يتساعدوا، وأن يحترم الأقوياء حقوق الضعفاء؟
وهاهو ذا علم النفس يكشف لنا عما يتركز في طبائعنا من ميول وشهوات وعواطف مختلفة، منها عاطفة الأثرة وعاطفة الإيثار. أليس لنا أن نعطي لكل من هذه الميول والعواطف قيمته الأخلاقية؟ كذلك علم الاجتماع، وقفنا على ما كان من حرب وتطاحن بين العالم في العصور المختلفة القديم منها والحديث. هل هذا التحقق العلمي يكفينا للبت في اختيار أي المبدأين: مبدأ الاحتفاظ بروح العداء بين الأمم والشعوب، ومبدأ العمل على استئصال العداوة وبذر عواطف العدالة والمحبة العالمية التي تسمح لنا يوماً ما أن نصل إلى سلم عام نهائي وأخوة إنسانية متبادلة
الروح العلمي لا يتطلب منا أن نأخذ العلوم كدليل أخلاقي وحيد، وإن شئت التعبير على نحو آخر لا يتطلب منا أن نأخذ مما تكشفه لنا العلوم من حقائق وقوانين مثلاً أعلى نتجه إليه في أعمالنا ونسير على ضوءه وسناه
إن العلم لا يعارض الأخلاق ولا يغني عنها قط، بل هو يقرر ضرورة وجودها ولا يستغني عنها، وبدونها يكون إثمه أكبر من نفعه. ولنا في تحليل نفسيات العلماء وكشف العواطف التي كانت تسودهم في حياتهم وبحوثهم العلمية ألف دليل ودليل إن صح هذا التعبير. ففي هذه الجهود المضنية التي قام بها العلماء لفهم الطبيعة وأسرارها وللوقوف على النظم التي تسير عليها، وفي تلك المشاق التي عاناها قادة الأمم وهداتها والمحسنون إلى الإنسانية، نجد عاطفة أخلاقية كانت تملك على هؤلاء الأبطال ألبابهم ومشاعرهم وتسوقهم إلى أداء رسالاتهم متحملين في سبيل ذلك ما تهددون بعضه عزائم صغار النفوس؛ تلك العاطفة هي الرغبة في خدمة الإنسانية وتحسين حالتها المادية والعقلية. وأيضاً القيمة العالية التي يراها العلماء للعلم، تفرض أن الأعمال الإنسانية ذات قيم مختلفة: منها العالي ومنها الدون؛ فالعلم مثلاً أفضل من الجهل، والهدى خير من الضلال، والسعي لمعرفة الحقيقة خير من مقاومتها. إذن واجب البحث عن المعرفة وإعلانها يفرض الواجب بصفة عامة، والمثل الأعلى العلمي يفرض أن هناك مثلاً أعلى عاماً يجب أن ننشده جميعاً
كذلك حب الحقيقة، وعدم التحيز للهوى، والإخلاص، والصبر، والحمية في العمل؛ هذه صفات أخلاقية بدونها لا يتحقق عمل طيب علمي بل ولا علم أيضاً. العالم كالرجل الفاضل يستشعر سروراً عالياً روحياً؛ هو الرضاء بالواجب المؤدى بنبل، والحياة تقضى في شرف وأمانة. يقول الفيلسوف الفرنسي (إرنست رينان) في كتابه مستقبل العلم: (المعرفة بين جميع الإنسانية أسماها قدراً، لأنها أكثر بعداً عن الهوى، واستقلالاً عن المسرات) ثم يضيف: (وإنه لمن العناء الذاهب سدى أن يدلل المرء على قداستها وسموها، أنه لا ينكر ذلك إلا من لا يعترف لشيء بالسمو والقداسة) والمؤرخ الفرنسي العلامة (أوجستين تييرِّي) الذي عمي لإفراطه في أبحاثه الدقيقة التفصيلية يذكر في مقدمة كتابه: (عشر سنوات في دراسات تفصيلية) أنه لو خُيِّرَ في اختيار حياة له ثانية لما اختار إلا أن يكون أيضاً عالماً مؤرخاً؛ لأن الدراسة الجادة الهادئة مأمن وأمل وحرفة يبلي المرء فيها حياته بشرف. . . أعمى ومتألم بدون رجاء وبدون راحة، يمكنني أن أتقدم بهذه الشهادة التي أعتقد أنها لن تكون موضع شك بحال؛ هي أنه يوجد شيء في العالم خير من الثروة وسائر المسرات المادية ومن الصحة أيضاً: هو الإخلاص للعلم)
هكذا الدراسة العلمية وتحليل نفسيات العلماء، يكفيان لبيان أن الخير والشر، وهما موضوع الأخلاق، يلاحظان دائماً في كل البحوث والدراسات العلمية على اختلافها.
والآن نعود إلى التساؤل الذي صدرنا به هذا البحث؛ وهو إذا كان العلم - كما تبين - لا يعارض الأخلاق ولا يغني غناءها، بل يسير معها جنباً لجنب، هل لنا أن نسير في البحث خطوة أخرى لنعلم ما إذا كانت الآراء والحقائق الأخلاقية تبلغ من العموم حداً يجعلها حقائق علمية، فتكون الأخلاق علماً من العلوم؟ الأخلاق علم إذا كان هناك حقائق أخلاقية عامة؛ ولكن هل البحث الأخلاقي يكشف لنا حقائق أخلاقية عامة للجميع؟
جواب ذلك فيما يتبع هذا من بحوث إن شاء الله تعالى.
محمد يوسف موسى
مدرس الأخلاق بكلية أصول الدين