انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 288/من مآسي الحياة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 288/من مآسي الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 01 - 1939


فتون وجنون. . .

إلى الآنسة (أ. ش. ف)

نعم يا آنستي العزيزة! لَشدَّ ما لاع القلبَ وراع الضميرَ ما قصصتُ من مآسي الحياة! ولا يزال في خبايا الغيوب وطوايا الحجب ما هو أمضُّ لوعة وأشد روعة.

وعدتِني أن تقصي عليّ أنباء من تعرفين من طرائد البؤس وأنضاء الهم، وأنا أقص عليك هذه القصة ريثما تنجزين هذا الوعد:

في المنصورة بلد المال والجمال والشعر كانت تعيش أسرة من أسَرِ الريف الغنية السريّة عيش اللهو والزهو والمرح. وكانت قبل ذلك تعيش في مزارعها الواسعة في قرى مركز (شربين) تستغل أراضيها الخصبة استغلال الدَّءوب اليقظ؛ حتى أبطرها الغنى، فرأت طرق الحقول التَّرِبة لا تلائم المركبة الفخمة، والبيت القروي العتيق لا يوائم الأثاث الأنيق، والقريةَ كلها لا تصلح مجالاً للعظمة ولا مجتلى للشهرة؛ فتركت ضياعها وزروعها في ذمة النُّظار والخَوَل، وأسلمت قيادها للبذَخ والسرف: ترتبع بالمنصورة، وتصطاف بالإسكندرية، وتُشتي بالقاهرة. وتظاهر على رب هذه الأسرة الجهلُ والطيش والفراغ والغنى والعُجب، فقلبته بين الحانات والمواخير قَفاً لوجه، حتى ركبه الدين والمرض، فباع الأرض لبنك (خوريمي)، والصحة لبار (أنسطاسي). وكبر عليه أن يعود إلى قريته ذليلاً بعد العز، فقيراً بعد الغنى، فظل في المدينة ولكن في بيت غير البيت، ومظهر غير المظهر. . .

تتألف هذه الأسرة من الوالدين ومن ست بنات وابن واحد. وفي هذا الصبي الواحد انحصر مستقبلها وأملها، فأرصدت ما بقي للأم من موروث الرزق على تربيته وتعليمه. فلعله يكون كابن فلان باشا: ينال (الليسانس)، ويعين وكيلاً للنيابة فقاضياً فمستشاراً فوكيلاً للوزارة. ويومئذ يرجع المال الذاهب، ويعود المجد المضاع، وتندم الشماتة الحاقدة. وكان الفتى نحيل البدن ولكنه ذكي مجد، فلم يتخلف في سنة، ولم يرسب في شهادة، حتى نال إجازة الحقوق. وكان في مدة دراسته الطويلة شغل الأسرة الشاغل: فالوالدان همهما تدبير المال له وتوفير الصحة عليه؛ والبنات الست عملهن غسل ثيابه وكي بِذَله وتصفيف شعره وتهيئة أكله وتهدئة نومه. وإذا فاتهن اليومَ أن يأكلن الهنيء، ويلبسن الناعم، ويجلون حسنهن للأتراب والخطاب في شارع البحر بالمنصورة، فسيعوضهن الله غداً بفضل أخيهن الموظف خيراً من كل أولئك في القاهرة.

وكانت الأم تبيع في كل سنة من سِنِي دراسة ولدها فداناً من أرضها، تنفق نصفه على المدرسة ونصفه على البيت حتى خرج هو من كلية (حقوقه)، وخرجت هي من كل حقوقها.

أصبحت الأسرة الفقيرة مُعدمة: فلا في الأرض ولا في البيت ولا في اليد. فهي تعيش على ما يبقى من مرتب أملها وكاسبها (فؤاد)، فقد وظف بأحد مراكز طنطا وعاش وحده. وظل الأبوان الشيخان والبنات النواهد في المنصورة على ضيق وقلق ينتظرون اتساع الرزق وامتداد الجاه فيجتمع الشمل ويرفُه العيش.

أتدرين يا آنستي بماذا أجاب القدر دعاء هذه الأسرة، وعمَّ أسفر الأمل في هذا الولد؟

كان فؤاد رقيق البدن والشعور والعقل، فأغرم بالأدب، وفُتن بالجمال، وكلِف بالرُّواء. وحياة الأقاليم لا تقضي حاجة النفس النزاعة الرغيبة من كل ذلك. فكان في مكان عمله بالنهار، وفي مجالي القاهرة بالليل، حتى افتتن بمطربة معروفة، فاضطرب أمره وانتكس حاله.

كان فؤاد عُذْري الهوى، لأن حياءه أقوى من طموحه، وشاعريته اشد من شهوته. وهو إلى ذلك فقير، ومعبودته من ذوات الثراء والمجد، فلا يدخل قصرها إلا غني أو فنان أو مهرِّج. فكان يقنع بالجلوس أمام تختها إذا غنت، وبالطواف حول بيتها إذا استراحت، حتى خبَله العشق وأضناه السهر. وبان أثر ذلك في عمله، فغاب طويلاً عن مكتبه، وأخطأ كثيراً في تصرفه، واختلف دائماً مع رئيسه؛ فانتهى الأمر وهو لا يزال في عهد التجربة بفصله!

لم يشعر فؤاد بهذه الصدمة الصاعقة كما شعر بها أهله؛ فإن حياته كانت في الحب، وحياة أهله كانت في الوظيفة. فلما انجلت غشاوة الهوى قليلاً عن عينيه رأى نفسه خالياً من العمل والأمل، يُزجي فراغه الثقيل الذليل بالهيام في الطرقات، والنظر في (الفترينات)، والاختلاف إلى (الصالونات)، والوقوف بباب المطربة أكثر النهار والليل، يحادث الخدم، ويرقب الزوَّار، ويرصد السيارة الحبيبة حين تذهب وحين تؤوب.

وأسرع إليه أبوه على كبره ووهنه يستكشف سر النكبة ويعالج مقطوع الرجاء، فوجده نفساً يتهافت في جسد ضارع وهيئة زرية؛ فما زال يتلطف به ويهاويه حتى كشفه عن أمره، وعاد به إلى الأسرة المفجوعة في ولدها الوحيد، وأملها الفرد، وملجئها الأخير، وشرفها الباقي. . .

ليس في طاقتي يا آنستي أن أقص عليك خاتمة هذه المأساة. ولو كان وصفها في إمكاني، لما كان استماعه في إمكانك. فإني أعرف رقة قلبك ووهن جَلدك في مثل هذه الحال. . . وليس من العسير على فطنتك استنتاج ما حدث. فالفتى من تباريج الجوى أصيب بالسل فمزَّق رئتيه وشفَّ جسمه، فهو في السرير عظم هامد ينتظر النهاية المحتومة. والأم من هول النكبة أخذها الفالج؛ فهي سطيحة على الفراش لا تُمر ولا تُحلى. والأب من فقد الرجاء اعتراه الخبال فمات قتيلاً في حادث محزن.

والبنات؟ البنات بقين بعد المخبول والمسلول مع الأم الكسيحة لا كاسبٌ ولا خاطب. فتصوري يا آنستي كيف يعشن! لو كان للإسلام أديرة صوفية لدخلن في حمى الدين؛ ولو كان للحكومة مدارس خيرية لاعتصمن بقوة العلم؛ ولو كان للأوقاف ملاجئ نسوية لعشن في ظلال الخير. ولكنهن يا آنستي يعشن العيش الكريه الضنك على فضلات الأقارب الأباعد. ومثل هذا العيش لا يثبت عليه إيمان ولا أمان. والبيت البائس إذا لم يدخله الملَك دخله الشيطان. . .

أحمد حسن الزيات