انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 287/وحي العام الجديد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 287/وحي العام الجديد

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 01 - 1939



إلى أين نسير

بين التفاؤل والتشاؤم

للأستاذ محمد حسن ظاظا

(أم ترى نحن هنا، كما يقول غرورنا لنلعب على مسرح الحياة

دورنا الخالد؟)

جوفروي

انتهى عام وبدأ عام جديد، وانتهت من قبل أعوام وبدأت أعوام جديدة، وستنتهي غداً أعوام لتبدأ من بعدها أعوام جديدة؛ فإلى أين نسير وإلى أي مصير؟ أتُرى ندور في حلقة مفرغة يتصل أولها بآخرها وآخرها بأولها، فلا يمضي عام إلا ويتلوه عام آخر، ولا ينقضي خلق إلا ويخلفه خلق آخر؟

لشد ما يحار الإنسان عندما يسأل نفسه هذا السؤال في مطلع كل عام ولشد ما يجد الحياة حوله لغزاً معضلاً يستعصي على الحل، ولا ينفرج في ناحية إلا ليتعقد ويضيق في النواحي الأخرى

ولقد وقف هذا الموقف بالأمس الأستاذ فراح يتساءل أمام تلاميذه (بالسربون) عن الغرض في حياتنا تحت الشمس، وعن معنى الدور الذي نلعبه على مسرح العالم. وراح يعدد الظروف التي تستثير في نفوسنا هذا الموضوع، والنظرات التي تلقيه على مسامعنا؛ ونحن نورد لك اليوم موجزاً لأقواله، ثم نعقب عليه بما نريد

يقول: (لا يكاد يصل الإنسان إلى هذا السؤال إلا أخيراً، ولكن مشاغل الحياة لا تلبث مع ذلك أن تصرفه عن التفكير فيه؛ والناس حياله سواء، عالمهم وجاهلهم، وغنيهم وفقيرهم، وسعيدهم وشقيهم؛ فليس من واحد منهم يصدمه حادث أليم إلا ويغيم على ذهنه ذلك السؤال المحزن (لماذا نحن هنا؟ وما معنى هذا الدور الذي نلعبه؟)

ثم نحن ندخل الدنيا ونفوسنا مليئة بالآمال والشهوات والرغبات، وتدفعنا هذه النفوس النهمة الجائعة إلى تحقيق إرادتها وسعادتها، فيقف العالم أمامنا ليحارب تلك الإرادة بك يستطيع ومن هنا نقاسي ألم الحرمان ونسخط على حياة وجدنا فيها نهمين نريد أن نشبع وتريد الأقدار أن نجوع!! ولكنا نميل مع ذلك إلى اتهام أنفسنا فنتحلى ونتخلق بالصبر والقناعة والرضى إلى أن تنحط علينا كارثة هائلة، فنفتح أعيننا من جديد لنرى آمالنا المتلاشية، ولنصرخ من أعماق قلوبنا المجروحة، وعقولنا المتزلزلة، ولنتساءل في لوعة وأنين: (ترى لِمَ نحن هنا على ظهر الأرض؟)

وليس لمآسي الحياة وحدها الإصبع الأكبر في ذلك السؤال، فإن لسعادتها أيضاً إصبعاً بل أصابع كثيرة. ذلك أنا نسعد في المبدأ عندما نحقق رغبة من رغباتنا، ولكن إذا ظلت سعادتنا وقتاً طويلاً - وقلما يحدث هذا - فسرعان ما تخبو نارها، وتنمحي روعتها، فيقل شعورنا بها شيئاً فشيئاً، وينقلب على مر الأيام إلى كره فثورة وسخط لأنا لا نجدها حينذاك كافية لمطامعنا ومحققة لجميع آمالنا، من ثَمَّ نرى الحياة عاجزة عن إشباع رغبة السعادة فينا، فنشعر بأن نشعر مسراتنا أوهام، ورغباتنا فخاخ نحن أول من يقع فيها. ولا نستطيع أن نتهم أنفسنا هنا كأن نتهمها أمام المآسي لأن السعادة بين أيدينا؟!

ثم نحن نبدو في المدن كأعظم المخلوقات فنمتلئ شجاعة وثقة وغروراً، ولكن عندما نخرج إلى الطبيعة المكشوفة، ونجد أنفسنا وحيدين أمام سماء لا نهاية، وأفق تتلوه آفاق، وجبال شامخة هائلة، ونجوم عديدة لا تحصى، وقرى تخفى في غابات، وغابات تختفي في فضاء الطبيعة، بل وعندما نرى أن هذه الدنيا تسبح في عوالم الكون مع عوالم أخرى كثيرة ونحن حيالها لا شيء، ألا ننسى حينذاك سعادتنا وشقاءنا، ونروح متسائلين: (أين نحن من العالم وما دورنا فيه؟)

وحينما ننظر في تاريخ البشرية، ونعرف أنها جاءت عارية أو شبه عارية، ثم قامت منها شعوب، وقام بين هذه الشعوب نزاع فساد الفرس أولاً ثم الإغريق، ثم الرومان، ثم البرابرة؛ بل وحينما نذهب إلى الأصقاع المجهولة في شمال آسيا وأواسط أفريقيا وأمريكا، وجزر المحيط، لنجد فيها قوماً يختلفون في اللغة والفكر ولا يعرفون مثلنا لماذا خلقوا ولا من أين أتوا؛ عندما ننظر في ذلك التاريخ البشري بليله البهيم، وفي الأجناس كفاحها وصراعها، ألا نشعر بغموض هائل يكتنفنا من كل ناحية؟ أما هذه الإنسانية التي نحن جزء منها؟ من أين أتت؟ وأيان تذهب؟ أترى هي كأعشاب الأرض وأشجار الغابات تخرج من التراب وإليه تعود؟ أم ترى هي هنا - كما يقول غرورها - لنلعب على مسرح الحياة دورها الخالد المحتوم؟ وأي دور ذاك وما عسى أن يكون؟ لقد سقطت المدنية الشرقية تحت أقدام المدنية اليونانية، كما سقطت المدنية اليونانية تحت أقدام المدنية الرومانية، وكما سقطت هذه الأخيرة تحت أقدام المدنية الجرمانية، فترى أي مصير سيكون لهذه الأخيرة؟ أهو الانتصار المحتوم ثم السقوط كما حدث لسابقتها؟ وماذا يكون دور الإنسانية إذاً؟ أهو الدوران في حلقة مفرغة؟ أم هو الترقي والتقدم؟ وأين الترقي والتقدم من وحشية الحروب وفظاعتها؟ وهكذا يحار الإنسان كثيراً وسط هذه الغيوم فيتساءل عبثاً عن القانون الذي يسوق قطيع البشرية بهراوته من أصل مجهول إلى مصير مجهول!

ثم (العلم) بماذا يحدثنا؟ إنه يقول إننا مجرد حلقة في سلسلة المخلوقات!؛ فالأرض قد استُعمرت في المبدأ بالنباتات الضخمة التي لا تقارن بها نباتاتنا، والتي لم تكن لتظل بأوراقها الواسعة العريضة كائناً ما! ثم جاءت ثورة جارفة هدمت تلك الخليقة الأولى كما لو كان خلقها عبثاً، وأحلت محلها خليقة أخرى هي الزواحف والأسماك!! ثم جاءت من بعد هذه خليقة ذوات الأربع الهائلة فمهدت الطريق للإنسان الذي طفا أخيراً على السطح كحلقة في سلسلة سابقة! وقد عاشت كل خليقة من هذه الخلائق السابقة على الأرض كما نعيش الآن، فلم لا يأتي يوم ننقرض فيه وتصبح عظامنا أمام الخلائق الجديدة مجرد حفريات ضخمة شائهة تحويها المتاحف وتعجب منها العقول؟؟ إننا حلقة بين حلقات مجهولة ناقصة، وقد خرجت هذه الحلقة لتتحطم بدورها كما تحطمت أخوات لها من قبل، فمن نحن إذاً؟ وأي حق لنا في الأمل والغرور؟؟

في كل مكان إذاً حدود، وفي كل مكان ظلام وعجز وألغاز تتلو ألغازاً! ونحن نجد أنفسنا متسائلين وحائرين كلما وقعنا تحت تأثير هذه الظروف، وكم منا قد انتحر إزاء هذا المشكل الكبير!، وكم منا قد لجأ للعقائد التقليدية ليقنع بما فيها من أقوال ووعود، ولكن خيط حياتنا لا يفتأ يهتز ويتذبذب كلما تساءلنا في حزن وأسى عن أصلنا ودورنا ومصيرنا المحتوم!!

ولكن الأمر يبدو بالرغم من ذلك كله أهون مما نظن! وذلك لأن الحياة والموت، والسعادة والشقاء، وعِظم الخليقة وظلام التاريخ؛ كل ذلك وإن أحزن القلب والعقل والضمير فهو يتحدث إلينا بألف لسان ليثير ثورة جارفة تصد اليأس. وتذود النوم، وتدفع الإنسانية إلى البحث الشاق الطويل!!.

إلى البحث الشاق الطويل؟ أجل إلى البحث الشاق الطويل! وإذا كانت الأديان قد وفرت علينا مشقة الحل فما ينبغي لعقولنا النورانية أن تقف عند حد أو أن تقنع بالقليل. ولن يضيرنا أن نكون حلقة في سلسلة مجهولة الأطراف، فحسبنا أننا نعيش لنلعب دورنا المحتوم في الحلقة التي نعيش فيها، ولن يضيرنا أن نتعرض في حياتنا للكوارث والآلام، فحسبنا أن نعلم أن قانون الحياة صارم على الجميع وأن مجدنا وعظمتنا في التحمل والكفاح والصراع أكثر مما هما في الدعة والسرور واللين. ومهما يكن شأننا ضئيلاً في الكون الهائل المخيف فلا شك أننا نستطيع أن نسمو بعقولنا وقلوبنا إلى عليين، وأن ندرك كل عام من أسرار الحياة والوجود ما يقيم لنا وزناً في العالم المجهول. وإذا كان العلم يشير إلى سلسلة متدرجة مترقية في المخلوقات فلنسأل أين كمالنا نحن البشر وما عسى أن يكون دورنا الحق في الوجود؟ وإذا كانت ميزتنا الكبرى قائمة في (العقل) كما يقول أرسطو فلا مندوحة لنا من جعله يمتد بأشعته إلى سر الحياة والكون ليأتينا منه كل عام بجديد في نواحي ذلك الثالوث المقدس، ثالوث الحق والخير والجمال. ومهما يكن من شأن النكوص العارض في خط السير فلا شك أننا نقدر جميعا تلك الخطوات الهائلة التي قطعتها الإنسانية منذ فجر التاريخ إلى اليوم نحو التقدم والمدنية والنور. فاليوم علم بعد جهل، وديموقراطية بعد عبودية واستبداد، وسلام بعد حروب وغارات! أقول (سلام) وأعلم تماماً ما سوف تقول! وأين السلام من تلك الشعوب المتناصرة المتنابذة التي يحفر كل منها للآخر هوة سحيقة للموت الداهم الفظيع؟ ولكن رويدك فالفكرة موجودة، وتزداد بحرارة الخطر اختماراً، حتى إذا انفجر البركان وأصاب الإنسانية منه أقصى سعير استوت على عرشها وسادت سيادة أنجح وأضمن كما سادت بالأمس القريب فكرة تحرير الرقيق بعد قرون الذل والعبودية والانحطاط!

إلى الكمال إذاً نحن نسير! إلى كمال الحق والخير والجمال؛ ولا نفاضل بين الأجيال إلا على ذاك الأساس. ولا ينبغي أن تكون لنا غاية غير هذه الغاية! ولا يجوز أن نقيس حياتنا أفراداً وجماعات إلا بهذا المقياس. ولئن كان مقدراً للأجيال ألا تبلغ ذلك الكمال المثلث فإنما شاء الله ذلك لكيما تبقى للإنسانية غاية تعيش من أجلها وفي سبيلها تموت. فلننظر إذاً أي قدر من ذلك الكمال قد تركته لنا الخلائق والأجيال الماضية تراثاً ثميناً مجيداً، ولنعرف كيف نصونه ونحافظ عليه ونسلمه لأبنائنا وديعة كريمة جميلة؛ ثم نفكر في ماذا عسانا نستطيع أن نزيد عليه من الحق والخير والجمال كما فعلت الأجيال السابقة ليبقى ما نزيده ناطقاً باسمه على مر الدهور والأجيال

أجل يجب أن نفكر في ذلك ونسعى في تحقيقه ونحاسب أنفسنا بصدده عند مطلع كل عام جديد

ويجب على هذا الأساس أن نرحب بالعام وان نتفاءل بمقدمه، وأن نرجو الله داعين منيبين أن يكشف فيه للإنسانية عن درجات أخرى من سلم ذلك الكمال المنشود.

محمد حسن ظاظا

مدرس الفلسفة بمدرسة الخديو إسماعيل الثانوية الأميرية