انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 287/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 287/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 01 - 1939



التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق

تأليف الدكتور زكي مبارك

أمامك صورة الدكتور زكي مبارك فتفرس فيها ثم قل لي ماذا وقع في حسبانك منها. إن كنت قرأت له ما ألف وما كتب في النقد والمناظرة فستظنه خارجاً من معركة بولاقية كان فيها شدُّ الشعور، ولكم الصدور، ونطح الرءوس، وتمزيق الملابس. وما هذا الرواء البادي على وجهه وهندامه إلا خداع النظر أو فن المصور.

وإن كنت قرأت له التصوف الإسلامي فستتخيله لا يزال في سنتريس (مريداً) للشيخ الطماوي الشاذلي يعكف على الأوراد ويشارك في الإنشاد، ويحمل الإبريق، وينقر الدف؛ فهو أشعث أغبر ضاوٍ من أثر الذكر والصوم والعبادة.

وإن كنت قرأت له هذا وذاك غلب على ظنك أن الرجل قامت به حال نفسية جديدة دل عليها هذا المظهر الجديد؛ فإن إرسال الشعر وتشعثه من سمات الفلسفة والتصوف والفن. وأنت واجد في كتاب التصوف الإسلامي صفات وخطرات من كل أولئك جميعاً. وفي رأينا أن هذا الكتاب يؤرخ طوراً جديداً من حياة صديقنا الدكتور، هو طور التأمل والتعمق والنفوذ إلى صميم الجد في الموضوع. وهو خليق بأن يسبل على ما تقدمه من مغامراته الجريئة في الرأي والفعل ستاراً من الصفح الجميل. وإذا كان الله قد عود الشعراء والأدباء أنه يغفر لهم من ذنوبهم ما تقدم وما تأخر ببيت من الشعر أو خاطرة من الرأي فما أحرى زكي مبارك أن يدخل معه الجنة على حساب كتابه ألفاً من الأدباء المحرومين!

الحق أن كتاب التصوف الإسلامي بناء شامخ الذرى في تاريخ الأدب. وأقوى ما يروعك منه الجهد والاطلاع والفهم. وهذه الخصائص الثلاث هي ميزة الكتاب الجليل والبحث الجامع. وإذا كان المؤلف قد نجح في (إبراز الملامح الأدبية والخلقية للنزعة الصوفية) فانه نجح كذلك في كشف ناحية من الأدب العربي والفكر الإسلامي كان الأدباء المؤرخون يمرون عليها معرضين، كما يمر السائح الغفلان على منجم الذهب فلا يرى إلا صخوراً وحجارة. والصوفية هي النزعة الوجدانية الصافية في الفطر السليمة، ولها في الأدب والخلق والفلسفة والحياة إشعاع هادٍ كإِشعاع الحق، وكان لابد لهذا العنصر الباهر المجهو من (مدام كوري) في زٍيّ زكي مبارك تنهك الجسم والعِصب، وتنفق الوقت والذهب، في سبيل كشفه.

لا أريد أن أعرض لك الكتاب ولا أطيق الآن أن أحلله وأنقده، فهو يقع في نحو ثمانمائة صفحة من القطع الكبير؛ وعرضه وتحليله لا يغنيانك عن مطالعته شيئاً. وكل ما أقوله لك إنك ستجد زكي مبارك فيه رجلاً آخر غير الشاب الذي عرفته في سائر كتبه.

وزكي مبارك - إن أردت فيه كلمة الحق - مجاهد باسل من المجاهدين القلال الذين شقوا طريقهم في الحياة بالقوة، وأخذوا نصيبهم من المعرفة بالكد، وأحلوا أنفسهم محلهم اللائق بالصراع. وهو أحد الأدباء الذين لم يقم مجدهم الأدبي على الظروف والحظ. وإذا كان الحظ قد وقع في حياته فهو الحظ المنكود. لأنه تعلم بكدح قلمه، وتقدم بفضل جهاده، ثم كانت الظروف التي تساعد غيره تلح عليه بالنكران والحرمان من غير هوادة.

ومن أثر ذلك كان هذا الإعلان المستمر عن نفسه وعن عمله. وهي صفة لا تتفق كثيراً مع وقار العلم وجلال الخلق. ولكنها آتية إليه من وراء الوعي على ظن أن الناس ينكرون عليه فضله وينفسون عليه مكانه.

ولو استطاع زكي مبارك أن يتملق الظروف ويصانع السلطان ويحذق شيئاً من فن الحياة - لاتقى كثيراً مما جرته عليه بداوة الطبع وجفاوة الصراحة. ولكن هذه الأعراض النفسية ستفنى فيه وفي الناس، ويبقى ذلك المجهود العلمي الضخم الذي قدمه إلى الأدب العربي في شتى مناحيه شاهداً على صدق خدمته للأدب ورفيع مكانته في النهضة.

الزيات