انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 286/تنظيم الإحسان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 286/تنظيم الإحسان

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 12 - 1938


الإحسان في مصر - وإن شئت قلت في بلاد الإسلام - فوضى. وإذا كان للفوضى نظام فهو أن ينال المستطيع ويدرك السريع ويظفر المُلِح. والبؤس يسلب المنة ويعقل القدم؛ فلا يغشى مساقط الندى ومهابط الرحمة إلا من اتخذ الفقر تجارة والتكفف حرفة. أما الذين واراهم التعفف وأقعدهم العجز، فهم يتضاغون من السغوب وراء الحجب، فلا تبصرهم عين، ولا تسمعهم أذن. والناس من هؤلاء العاجزين المتعففين، وأولئك القادرين المتكففين في مأساة تبكي وملهاة تضحك!

دخل علينا القهوة ذات مساء فتى ريان الجسم بالشباب والصحة؛ على رأسه طربوش، وحول عنقه كوفية، وفي يده خيزرانة؛ فحيى بأدب وضراعة، ثم أخذ يسترحم القلوب ويستندي الأكف بأسلوب يخبل العقل النير ويختل الطبع الحريص. وكان خطابه التمثيلي المؤثر يدور على عزته التي لا تألف الهون، وأسرته التي لا تصيب الدُّون، وكفايته التي لا تجد العمل. . . فأعطاه بعض من في المجلس، ثم استدناه صديق من أهل السراء وأرباب الضياع وقال له:

- لِمِلا تطلب العيش من طريق أخلق بالرجولة وأليق بالكرامة؟

- طلبت العمل يا سيدي في كل مكان فلم أجده

- أتقبل العمل عندي في المزرعة؟

فبدا على الفتى شيء من التردد والحرج لأنه أحس الجد في لهجة الرجل، ولكنه سأل:

- وماذا يعطيني ألبك إذا قبلت؟

- ثلاثة جنيهات غير طعامك وكسوتك

فابتسم الفتى ابتسامة فيها معان شتى من الدهش والعجب والتهكم، وقال وهو يدني فمه من أذنه كأنما يريد أن يساَّره:

يا سيدي، إني أسأل في اليوم الواحد ألفاً على الأقل ممن أتوسم فيهم رقة القلب وكرم المهزَّة؛ فإذا أعطاني مائة وردني تسعمائة تجمَّع لي من ذلك في الشهر خمسة عشر جنيها، أصيبها وأنا في القاهرة أتقلب بين مطاعمها ومقاهيها، وأتمتع بمناعمها وملاهيها. فكيف تريدني على أن أقبل ثلاثة جنيهات في الريف على عمل قذر متعب بين الأجلاف والبهائم؟

أرأيت خمسة عشر جنيها يجبيها من الأغرار هذا المتبطل المتعطل وينفقها في الخمر والقمر والحشيش، ومئات من الأسر الكريمة تكابد عبث الأقدار أو خطأ الأغيار فلا تجد مواسيا في معروف الأحياء ولا في موقوف الموتى! وخمسة عشر ألف فدان يقتنيها ذلك الغنى الشره ينفق ريعها الفياض على وساوس غيه وهواجس أحلامه، ومن حوله ألوف وألوف لا يدرون من طول الحرمان لماذا شق الله لهم الأفواه وجوّف فيهم الأبطن!

هذا البليد الملحف، وذلك الجمَّاع الطماع هما اللذان أكلا نصيب العاجز من رزق الله! فلو أن السائل المحترف ترك نفحات الأيدي للفقير، والغني المنهوم عف عن فضول الرزق للعاجز، لما رأيت عليها رجلاً يشرق بالدموع بجانب آخر يشرق بالشمبانيا! ولكن النفس البشرية تؤثر الجانب الأيسر من العيش، وتطلب النصيب الأوفر من المتاع، فلابد من سلطان يقيم المعدلة بين الساعي بقوته والقاعد لضعفه. ومن ثَمَّ جعل الإسلام تنظيم العلاقة بين الغني والفقير ركناً من أركانه الخمسة، يصلح به وبالحج أمر الجماعة، كما يصلح بالصلاة والصيام أمر الفرد وكان هذا الركن الإسلامي الركين عسيّاً بعناية أولي الأمر يجعلون له (مصلحة) أو (وزارة)، تأخذ من أموال الناس صدقة تزكي النفوس من حقد الفاقد على الواجد، وتطهر المجتمع من بغي طبقة على طبقة. ولكن الأمم الإسلامية الحديثة توزعتها الجهالة والمذلة، فحسبت أن دستور القرآن لا يأتلف مع المدنية الغالبة؛ فتركت شريعة الله إلى شريعة نابليون، وهجرت سياسة الرسول إلى سياسة كارل مَرْكس، فلم يكن بد من قسوة الأكباد لجفاف القانون، وثورة الأطماع من شدة التنافس. وليست الرهبانية من نظم الإسلام حتى تقوم الراهبات. بما لم تقم به الحكومات من جمع الزكوات وتوزيعها على صرعى الفاقة وأسرى المرض، فكان ما لا حيلة في اتقائه من فوضى الإحسان، فحبس عن غير أهله، وحل في غير محله، وذهب كله للمتشردين في الطرق، والمحتالين في البيوت، والمتبطلين في المساجد

إن فريضة الزكاة في الإسلام هي الفرق بين الدين والقانون، وبين الشرق والغرب، وبين الإنسان الذي يعيش بالروح والإنسان الذي يعيش بالآلة. فمن المحتوم على دولة تطمح الى الخلافة أن تُلزِم بها الناس لتكون حكومتها للشعب كله. وإلا فما جَداي أن أقول إن لي دولة دستورها المساواة وقانونها العدل، ووطناً ثراه الذهب وماؤه الكوثر، وأنا محروم لا أنتفع بخير الحياة، ومهضوم لا أتمتع بحقوق الحي؟ إما أن تقولوا إن من عجز عن واجب السعي نزل عن حق الوجود، وإما أن تنصفوا بعض الناس من بعض فيشعروا أنهم عباد لإله واحد ورعايا لملك واحد. أما أن تتعدد الآلهة فيكون لكل أرض إله وهو المالك، وتتنوع الملوك فيكون لكل عمل ملك وهو المموَّل، فذلك مالا يطيب به عيش ولا يصلح عليه أمر

افرضوا الإحسان كما فرضه الله، ونظموه كما نظمته الشريعة، واجبوه كما جباه الراشدون، ووزعوه كما وزعه القرآن، تضمنوا للفقير سكون الجوف، وللغني زوال الخوف، وللأمة بأسرها السلام والوئام والمحبة

أحمد حسن الزيات