انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 284/للتاريخ السياسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 284/للتاريخ السياسي

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 12 - 1938



جهود المستر تشمبرلين

وما أدت إليه

للدكتور يوسف هيكل

(علمتني التجارب أن الضعف في القوة العسكرية يعني

الضعف في السياسة)

تشمبرلين - 6 أكتوبر

إن خطاب الهر هتلر في نورمبرك وما تبعه من اضطرابات في تشيكوسلوفاكيا، وقطع المفاوضات بين حكومتها وحزب السوديت الألمان، أقلق الرأي الدولي ولا سيما في لندن وباريس. فقام المستر تشميرلين، رئيس الحكومة البريطانية، بالاتفاق مع المسيو دلادييه رئيس الحكومة الفرنسية، ببذل جهود شخصية لم يكن أحد يتوقعها منه، لإبعاد شبح الحرب العالمية وتثبيت السلام. وإننا في عرضنا لهذه الجهود نتكلم عن مباحثات برختسكادن ومشروع لندن، ونذكر مطالب الهر هتلر الجديدة، ونبدي ما تلاها من الذعر الدولي، وما تم في مؤتمر مونيخ

مباحثات برختسكادن ومشروع لندن

اشتدت خطورة الحالة في تشيكوسلوفاكيا في 13 سبتمبر (أيلول) وخشي حدوث حرب أهلية بين التشيك والألمان السوديت على أثر انتشار الاضطرابات بين العنصرين في كثير من المقاطعات السوديتية، وذلك مما كاد يؤدي إلى تدخل الجيوش الألمانية، وبالتالي إلى مساعدة الجيش الفرنسي لحكومة براغ. وهذه الأعمال الحربية إن وقعت، لا تلبث أن تصبح حربا عالمية بتدخل الدول الأخرى عملا بالمحالفات تربطها مع براغ وباريس من جهة، ومع برلين من جهة ثانية

وبما أن النظام الدكتاتوري الذي يضع مصير البلاد في قبضة رجل واحد قلل الانتفاع من النظام الدبلوماسي الاعتيادي ولا سيما في ساعات الأزمات، لذلك قرر المستر تشمبرلين، بالاتفاق مع حكومة باريس، الذهاب إلى ألمانيا، ومقابلة الهر هتلر، ليتحقق ما إذا كان لا يزال باقيا أي أمل في حفظ السلام. فأرسل إليه في 14 سبتمبر (أيلول) برقية قال فيها:

(نظرا لازدياد تحرج الحالة أرى أن آتي لمقابلتكم بقصد السعي لإيجاد حل سلمي. وفي عزمي أن آتي بطريق الجو، وإني مستعد للسفر غدا. فأرجو أن تخبرني عن أقرب وقت تستطيع فيه مقابلتي، وعن المكان الذي نجتمع فيه). فرد الهر هتلر على هذه البرقية بقوله إنه مستعد لمقابلة رئيس الوزارة البريطانية غداً في برختسكادن

طار المستر تشمبرلين إلى ألمانيا صباح 15 سبتمبر (أيلول) فوصل برختسكادن الساعة الرابعة. وبعد تناول الشاي مع زعيم ألمانيا أخذ رجلا الدولة يتباحثان. ولم يحضر مباحثاتهما هذه التي دامت ثلاث ساعات غير المترجم

خلال هذه المحادثات أبان الهر هتلر بوضوح وتأكيد، وجوب إعطاء السوديت الألمان حق تقرير مصيرهم، والعودة إلى الريخ إذا كانوا يريدون ذلك. وإذا لم يعطوا ذلك الحق فان ألمانيا تأخذه لهم بالقوة.

وقد تذمر الهر هتلر من تهديدات بريطانيا له فأجاب المستر تشمبرلين على ذلك أنه يجب التفريق بين التهديد والإنذار. وقد يكون للهر هتلر سبب معقول من التذمر لو أن المستر تشمبرلين مكنه من التفكير في أن بريطانيا لا تدخل ضده في حرب مهما كانت الظروف، ولكن عملياً توجد حالات إن وقعت تضطر بريطانيا إلى دخول الحرب ضد ألمانيا.

ظهر للمستر تشمبرلين أن الهر هتلر كان يتأهب إلى اكتساح تشيكوسلوفاكيا مما جعله يسأله لماذا مكنه من السفر إليه مسافة طويلة، ما دامت نتيجة ذلك ضياع وقته فقط. فأجاب الهر هتلر على ذلك أنه لو أن المستر تشمبرلين يؤكد له هناك (أي في ألمانيا) وفي ذلك الوقت - أن الحكومة البريطانية تقبل مبدأ حتى تقرير المصير، لكان (أي الهر هتلر) مستعداً لبحث الطرق والوسائل لتنفيذ ذلك. ولكن إذا كانت الحكومة البريطانية لا تعتبر هذا المبدأ، فان من الحق ألا تكون هناك فائدة من متابعة المحادثات. غير أن المستر تشمبرلين لم يكن حينئذ وفي ذلك المكان في حالة تمكنه من إعطاء مثل ذلك التأكيد، فأعلم محادثه أنه يريد العودة للمشاورة مع زملائه في هذا الشأن، إذا امتنع الهر هتلر عن القيام بأعمال عدائية ريثما يتمكن من معرفة جوابهم. فوعده الهر هتلر بذلك عاد المستر تشمبرلين إلى لندن صباح 16 سبتمبر (أيلول)، معتقداً أن لا شيء يحول دون احتلال الجيوش الألمانية تشيكوسلوفاكيا إلا منح الألمان السوديت حق تقرير مصيرهم في وقت قريب. وكان ذلك في رأيه، الأمل الوحيد في الوصول إلى حل سلمي.

وفي اليوم نفسه، وبطلب من المستر تشمبرلين عاد اللورد رنسيمان من براغ إلى لندن. ولما سأله الصحفيون عن رأيه في الموقف أجاب: (كنت أود لو أني أعرف عن الموقف ما تعرفون، وأخشى ألا يكون عندي من المعلومات ما أفضي إليكم به غير القول بأن الحالة دقيقة جداً وأنها بين يدي الله).

وفي مساء ذلك اليوم عقد مجلس الوزراء البريطاني جلسة، حضرها اللورد رنسيمان. وفي هذه الجلسة عرض رئيس وزارة بريطانيا لزملائه ما سمع من الهر هتلر، وما حمل من فكرة عن موقف الجيش الألماني إزاء المشكلة التشيكوسلوفاكية. وفي هذه الجلسة أيضاً أوقف اللورد رنسيمان الحكومة على الحالة في تشيكوسلوفاكيا وأبدى لها ما يعتقده من حل حاسم لمشكلتها.

بعد أن عرض اللورد رنسيمان سير المفاوضات ووضع مسؤولية فشلها على الهر هنلاين ومعاضديه داخل البلاد وخارجها قال: (مع ذلك فإنني أعطف على قضية السوديت. إنه من المؤلم جداً أن يخضع الشعب لحكم شعب غريب) ثم أبان أنه حين وصوله كان زعماء السوديت المعتدلون لا يزالون يرغبون في حل يبقيهم داخل حدود الدولة التشيكوسلوفاكية، لتأكدهم أن الحرب ستقضي على بلادهم لأنها ستكون ساحتها. وقد حاول اللورد الوصول إلى مثل هذا الحل ولكنه لم ينجح، لتصلب اتباع الهر هنلاين وإيجادهم العراقيل أمام تحقيق الحلول المعروضة. لهذا أخذ اللورد رنسيمان يدين بأن المقاطعات المأهولة بأكثرية كبيرة ألمانية يجب أن تعطى حالاً حق تقرير مصيرها، وأنه إذا كان لا بد من إلحاق بعض الأقاليم بألمانيا، وهو يعتقد بضرورة ذلك، فانه يجب أن يكون حالا ومن غير تأخر. لأنه يوجد - حسب رأيه في ترك الحالة غير جلية - خطر حقيقي: خطر حرب أهلية. ولذلك يرى وجوب اتباع سياسة سريعة حاسمة. أما إجراء الاستفتاء في المقاطعات التي تكون أكثريتهم الساحقة ألمانية، فما هو ألا عمل شكلي إذ الأكثرية من سكان هذه المقاطعات تحبذ الانضمام إلى ألمانيا. والاستفتاء لا يؤدي في هذه الحالة إلا إلى تهيج شعور الجمهور، وبالتالي إلى نتائج سيئة. لهذا فان اللورد رنسيمان يوصي بضم هذه الأقليم التشيكوسلوفاكية إلى ألمانيا

أما الأقاليم التي فيها النسبة الألمانية قليلة فانه يوصي بإعطائها الاستقلال الذاتي ضمن حدود الجمهورية التشيكوسلوفاكية

وبعد أن عرض اللورد رنسيمان مسألة الحدود، تناول الأوجه السياسية التي تتعلق بسلامة الجمهورية التشيكوسلوفاكية وبتحسين علاقتها مع مجاوريها الملاصقين، ولتحقيق ذلك يوصي:

1 - منع الأحزاب والأشخاص في تشيكوسلوفاكية الذين يشجعون اتباع سياسة الخصومة لمجاوريها، من متابعة تحريضهم حتى ولو باتخاذ وسائل قضائية ضدهم

2 - تغير حكومة براغ علاقاتها السياسية الدولية كما تعطي تأكيداً لمجاوريها بأنها لا تريد مهاجمتهم في أي ظرف من الظروف، أو بالاشتراك في أي اعتداء عليهم تنفيذاً لمعاهدات مع دول أخرى. ومعنى ذلك إلغاء حكومة براغ لمحالفاتها الدفاعية مع فرنسا والروسيا

3 - ضمان الدولة الرئيسية - الذين يهمهم السلام في أوربا - حدود تشيكوسلوفاكيا في حالة التعدي عليها، غير المحرض عليه

4 - عقد معاهدة تجارية بين تشيكوسلوفاكيا وألمانيا إن كان ذلك مفيداً لاقتصاديات البلدين

كان لتقرير اللورد رنسيمان تأثير عظيم على الحكومة البريطانية. وقبل أن تضع خطتها النهائية، رأت من الضروري استشارة الحكومة الفرنسية، فدعا المستر تشمبرلين المسيو دلادييه رئيس وزارتها، والمسيو بونيه وزير خارجيتها إلى لندن للتشاور مع الوزراء البريطانيين في 18 سبتمبر (أيلول)

اجتمع الوفد الفرنسي بالوزراء البريطانيين، وأبان له المستر تشمبرلين مطالب الهر هتلر ورأي الحكومة البريطانية فيها، وأوقفه على ما وصل إليه اللورد رنسيمان وقد تم الاتفاق بينهم على مشروع لحل النزاع الألماني التشيكوسلوفاكي ضمن تحقيق مطالب زعيم ألمانيا ويحتوي على النقط التالية:

1 - فصل المناطق المأهولة بأكثرية ألمانية عن تشيكوسلوفاكيا وضمها إلى الريخ.

2 - عدم إجراء الاستفتاء، للصعوبات التي تنجم عنه، والاستعاضة عنه بالتنازل عن المقاطعات التي كان يجب إجراء الاستفتاء فيها.

3 - تأليف لجنة دولية، تكون تشكوسلوفاكيا أحد أعضائها، لتعيين الحدود التشيكية الجديدة والأشراف على تبادل السكان.

4 - تعهد حكومة بريطانيا بالاشتراك بضمان دولي للحدود التشيكية الجديدة بدلا من معاهدات الدفاع الحالية.

وافقت الوزارة البريطانية بالإجماع على هذا المشروع، أما في فرنسا فاعترض عليه أربعة من الوزراء. وفي 20 سبتمبر (أيلول) أرسلت حكومة براغ ردها على مشروع لندن إلى الحكومة البريطانية، أبانت فيه الأسباب التي تدعوها إلى عدم قبول التنازل عن الأرض السوديتية. وأشارت إلى أنها لا يمكنها فقط قبول الاقتراحات الإنكليزية الفرنسية التي وضعت دون موافقتها، وطلبت أن يكون الخلاف بين تشيكوسلوفاكيا وألمانيا موضع التحكيم، وفقا لمعاهدة عام 1926 المعقودة بين هذين البلدين، وأن تعيد حكومتا لندن وباريس النظر في المسألة؛ غير أن سفيري بريطانيا وفرنسا زار الرئيس بنيش في الساعة الواحدة والربع من صباح 21 سبتمبر (أيلول) وألحا عليه بضرورة قبول مشروع لندن، وقد أفهماه أن الحالة في بريطانيا لا تمكنها من دخول حرب دفاعاً عن تشيكوسلوفاكيا، وبالتالي فان الحكومة الفرنسية لا تستطيع نجدة حليفتها. فقضت حكومة براغ ما بقي من الليل في درس الحالة. وفي الصباح أصدرت بياناً ذكرت فيه الأسباب التي اضطرتها إلى قبول مشروع لندن. ومما جاء فيه، أنه (لم يسع رئيس الجمهورية والحكومة إلا قبول اقتراحات الدولة الكبرى لأننا وجدنا أنفسنا بلا معين).

على أثر ذلك اضطرب الرأي العام في تشيكوسلوفاكيا، وقامت في البلاد مظاهرات وطنية، واحتشدت الجماهير أمام قصر الرياسة صارخة (فليحي سيروفي، وليحي الجيش). فأطل الجنرال سيروفي مفتش الجيش العام من شرفة قصر الرياسة وألقى خطاباً قال فيه: (إنكم لا تعلمون الأسباب التي حملت الحكومة على اتخاذ القرارات الأخيرة. إني أحب الجمهورية بقدر ما تحبونها. إننا لا نستطيع أن ندفع بالشعب إلى الانتحار). فأجابت الجماهير (إننا نفصل الانتحار ولا نريد أن يمس شرفنا. نريد الكفاح). . . وكانت النساء على الأرصفة يشهقن بالبكاء، والدموع تتساقط من أعين رجال البوليس.

وفي صباح 22 سبتمبر (أيلول) استقالت وزارة الدكتور هودزا وأعلن تأليف وزارة قومية برياسة الجنرال سيروفي، رجل تشيكوسلوفاكيا القوي.

وبرغم مطالب بولندا وهنغاريا التي زادت تعقيد المشكلة التشيكوسلوفاكية فان الدوائر السياسية ظنت أن الأزمة الدولية قد انفرجت بقبول تشيكوسلوفاكيا مشروع لندن الذي هو عبارة عن تحقيق مطالب الهر هتلر. واعتقدت أن طيران مستر تشمبرلين إلى ألمانيا للمرة الثانية في 22 سبتمبر (أيلول) مكلل بالنجاح. فهل تحقق ظن هذه الدوائر؟ هذا ما سنعرفه في المقال المقبل

يوسف هيكل