انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 283/الحالمون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 283/الحالمون

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 12 - 1938



ترجمة السيدة الفاضلة (الزهرة)

الحالمون هم الذين أقطعونا في الدنيا جوانب العيش الخصب العريض، والخير الجم المستفيض، وأرشدونا إلى مبادرة السوانح، وفتحوا لنا أمصار الفرص البيض. ولعله لم يخطر لك ببال مطلقاً أن ما تردد فيه طرفك، وتعدّه من خاص ملكك في هذا الكون الوسيع، منتسب إلى عطاء حلم رائع تحقق، ورؤيا مجيدة صدقت. . .

أدر الطرف حولك واسأل: مَنْ ذا الذي منحنا النعم المألوفة لدينا، والصنائع الشائعة بيننا؟ ومَنْ ذا الذي أسبغ علينا النور ليلاً، وحبانا بالمقدرة على الطواف حول العالم؟ ومَنْ ذا الذي أباد الوباء ومحق الطاعون، وأعاننا على قهر جميع العلل والأدواء؟

لقد ملأت جميع هذه المواهب الكبيرة صدر العالم، وتتابعت علينا تتابع القطر على القفر، فورثناها مع الهواء الذي نستنشقه، وتلك الصيحة الظافرة تنبعث إلينا من أروقة الزمن قائلة: (وجدتها! وجدتها!)

إن أرخميدس لم يقم بمظاهر هائلة حين باح للعالم بسر الثقل النوعيً، ولكنه قفز من حمامه فجأة، وراح يركض في طرقات المدينة متهللاً، ويهيب بالناس قائلاً: (وجدتها! وجدتها!)

وكذلك كانت تلك الروح الزخارة، التي أنعشت دنيا العلم قاطبة، دون أن تضطرب بحب الكسب والمنفعة الشخصية، في كيان أي رجل ممن أثقلوا الكواهل بأياديهم التي يفرض لها الشكر ويتحتم، لأنهم بذلوها في سبيل المصلحة العامة، وأضافوها إلى حصائل العمران من فيض سجاياهم البارة، بسخاء نفوسهم الأمارة بالخير، المطبوعة على المعروف كأنه غريزة فيها تشبه غريزة التغريد في الطير، وعنصراً من عناصرها يحاكي الجمال والشذى في الزهر. . . وكانوا جميعهم سعداء مغتبطين إذ مكنوا الإنسان من حكومة نفسه، وضاعفوا قدرته على تصريف أموره والأخذ بناصيتها، وقد حملوا ألوية جهادهم، وبنود كفاحهم، وكلمات كبار (المجالدين) المستميتين من معشر الرومان، تتدفق من شفاههم، ولكن بروح من النبل الذي يبز كل ما اختلج من معانيه في حياة أولئك الرومان الغرّ الميامين وكأنهم كانوا يخاطبون الإنسانية بلسانهم قائلين:

(نحن الذين نوشك أن نموت موت الإيثار والمفاداة نحييك يا قيصر!) حقا إن انتصاراتنا الباهرة على ويلات الحياة مسجلة في سير كثير من أولئك المجالدين البررة. ولئن لم يكن الموت في سبيل العرفان وآيات الجهاد من نصيبهم على الدوام، فان مثابرتهم الصامتة كثيراً ما كانت محفوفة بمرائر جسيمة تتحيف الصبر وتهد الأركان وتجعل الموت عذباً مستساغاً؟

وإننا لنعلم أن (وليم هارفي) حين أعلن في محاضراته المتواضعة سير الدورة الدموية في الجسم الإنساني، وفتح الأذهان لأول مرة لتفهم سر من أسرار الوجود العظيمة لم يكن يطمع في منحة أعظم من إقبال الناس على أبحاثه وقبولها بروح العطف، بيد أن العالم أبى عليه هذه المنحة. وغاليلو لم يتطلب منفعة من اكتشافاته التي جلَّت للإفهام حقائق كثيرة في الفلسفة الطبيعية، بل كان جزاءه التهديد بالتعذيب، ووجد غنمه الأكبر في نجاته من هول الخازوق والعذراء: آلة التعذيب بمطَّ الجسم!

ولقد مات (تيخوبراه) في أحضان الفاقة والشقاء لأنه قشع عن العقول البشرية غيوم الترهات والخزعبلات التي كانت تدفعها إلى الفزع من الأجرام السماوية والكواكب السيارة. وقد أحدث (دارون) وهو في مرتقاه الرفيع، فوق ذروة تلال (كنت) ثورة عظيمة في العقول لم يسبق لها مثيل في كل ما أحدثه عالم من علماء الطبيعة. بل إن الراهب (مِندل) في حديقة صومعته المشمسة، وبنحله وببازلته قد بلغ حيث لم تبلغ جهود دارون في كل ما توصل إليه لاكتشاف ناموس الوراثة. ومع ذلك فقد لاقى هذان الرجلان المناجزة والعداء (مع أن راهب برن الشيخ) قد أسبغ منناً عظيمة كفلت الغذاء الصالح للإنسان والحيوان، وأدخل على نتاج العالم الحيواني والنباتي تقدماً لم يسبقه إليه أي إنسان بل أي جيل من الناس. وكل من يبغي أن يجئ اليوم بسلالة جديدة من الماشية والأغنام، أو نوعاً جديداً من الزهر والثمر والبر والحنطة، لا بد له أن يتبع النواميس التي اكتشفها وفسرها الراهب الشيخ في حديقته ببلدة (برن) وكل ديون العالم تقصر عن الوفاء بحقوقه التي لم يتقاض لأجلها شيئاً من العالم، أو يفرض عليه أجراً لها، بل إنه لم يؤثر نفسه بامتياز من امتيازاتها أو يحتكر حقاً من حقوق اكتشافها، وذلك لأنه كان رجلاً من الرجال الذين يغتذون بالأحلام.

وكذلك كان الحال في الثروة المادية التي تنشط اليوم مئات الصناعات والحرف، وتوطد دعائم حضارتنا، ونحن لا نستطيع بحال من الأحوال أن نحصي أياديها لأنها لا تعد، ولا تقف عند حد. على أن الاستفادة بها والتغني بذكرها هما جل ما يبغيه أولئك الأعلام الذين جدوا وسعوا دون أن يتطلبوا جزاء ولا شكورا في سبيل الإنارة والنهوض بالإنسانية.

ولقد انتقل العالم من عصر الحديد إلى عصر الفولاذ فعصر الكهرباء واللاسلكي، وجميع هذه الاكتشافات الأساسية التي غيرت وجه الوجوه من عصر إلى عصر قد أغدقها علينا رجال أفاضوا شعاب برهم وسحب معلوماتهم وذكائهم كعطايا سمحة لأهل جيلهم. فنحن نشيد عمراننا على أسس وضعها أولئكم المجاهدون الصناديد الذي اتخذوا من ميادين النزال ومعامع الكفاح مدارس للبحث والتفكير والاستقراء ومعتملات للاختبارات والتجارب العلمية. ولقد قدم نيوتن ونابير لعصرهما آلتين من افضل ما جاءت به مستحدثات العلوم الرياضية فزودوا العلم بقوة عقلية تفوق كل وصف. وقد اثبت الطبيب دالتون تلك الصورة النهائية القطعية لنظريته العجيبة - نظرية تركيب الجوهر الذريري. كما وضع العالم الإنجليزي جول الأساس الراسخ لجميع الأعمال الباهرة التي تجري الآن في دائرة (استحالة الاقتدار) وقد ورث العلامة العظيم جيمس كلارك مكسوبل ثروة طائلة من أمالي الفلسفة الطبيعية فاستغلها في التمهيد لاكتشاف التموجات الأثيرية بعد أن تمكن من إدراك أبعادها وتقدير مساحاتها ومقاييسها. وتناول هتريك هرتز الألماني أعمال ذلك العلامة الإنجليزي فتمكن من إشعاع أمواج اليكترماجنتيكيه (المغناطيسية الكهربية) بواسطة جهاز كهربائي للذبذبة وجعل العامل الأساسي لإنتاج هذه الأمواج الشرر الصغير الذي كان يظهر من ثغرة صغيرة في أداة معدنية فيعبر الغرفة دون أن تكون هناك أية حلقة للاتصال غير الهواء. ولقد انسحق قلب دافيد ادوارد هو، من جراء الفشل الذي صادفه في تجاربه اللاسلكية، ولكن جيلاً من الناس الباحثين المستطلعين أفلحوا في تحقيق أحلامهم التجريبية حتى ظهر أخيراً المخترع الإيطالي العظيم جوليلمو ماركوني وتناول أبحاث أسلافه ولم يزل بها حتى تمكن من زيادة الإشعاع وتحسينه وتنميته وضبطه، وتوصل إلى إتمام اختراعه فلم يكد يشارف السابعة والعشرين من سني حياته حتى برهن على مخترعه عملياً وأذاع إشارته اللاسلكية الأولى عبر المحيط الأطلنطيقي، وبذلك أكمل اللاسلكي أهم رحلة في حياته مثبتاً للملأ أنه كان سائراً به في الطريق الموصل إلى ذروة النجاح النهائي بعد أن تجشم صعوبات هائلة وذلل عقبات كبيرة.

ولا شك في أن أغلبنا يعرف عظم ما ندين به لصمام الحرارة (الثرمونيكي) الذي اخترعه الأستاذ (فلمنج) ولا يخفى علينا أن ذلك الصمام ينبعث من كوكبة (هي المصباح الكهربائي) ولكن كم منا يذكر أن هذه الكوكبة لم تكن لتوجد لولا تلك الأنبوبة المفرغة التي ابتكرها سير وليام كروكس؟ على أن هذه الأنبوبة التي كانت فكرة تتردد في مخيلة ذلك الرجل المستطلع، صارت فيما بعد مهداً للخوارق التي بذت جميع ما سبقها من أعمال قوى الطبيعة الغامضة، فقد اكتشف فيها وبوساطتها أشعة (إكس)، وإن من العسير أن نذكر نصف المدهشات التي تأتت من هذه الأنبوبة العجيبة. . .

إننا نعيش كل يوم على المواهب الباهرة التي قدمها لنا (هنري كافنديش) الذي اكتشف غاز الأيدروجين، وجوزيف بريستلي الذي اكتشف الأكسجين، والكمياوي الفرنسي لفوازييه الذي علمنا وظيفة التنفس. . . ولكننا قلما نفكر في الأحلام الطويلة التي استرسل فيها جميع أولئك الفطاحل، ولعلنا ننسى أن بريستلي فر إلى أمريكا قانعاً من الغنيمة بالسلامة في سبيل كرازته عن الأكسجين، وأن الفرنسيين قضوا على حياة لفوازييه بحد المقصلة الجهنمية مجاهرين بأن الجمهورية ليست في حاجة إلى جمهرة الكيميائيين، وأن العدل يجب أن يأخذ مجراه

إن هذه الفيافي التي نجوس خلالها مترامية الأطراف وعرة المسالك ولكنها عظيمة حقاً لأن رجالاً مجدودين عظماء قد عبدوها وأخضعوها لسلطاننا حباً في العلم والعرفان، لا طمعاً في الربح والكسب:

مقاديم وصالون في الروع خطوهم ... بكل رقيق الشفرتين يماني

إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حال أم بأي مكان

على أن هذا لم يكن قصارى جهدهم فان أولئك الناس الذين كانوا ينهضون للعمل مبكرين ويهجعون متأخرين ليكتسبوا من الطبيعة أدق أسرارها وغوامضها ويستغلون أعظم قوى اقتدارها من أصغر الذريرات الكائنة، قد رصدوا ساعاتهم للكد دون أن يعرفوا طعماً للراحة؛ وكانوا إذا تمت المعجزة على أيديهم وتمكنوا من استخدام الجوهر الفرد في هد الرواسي وزلزلة الجبال وفي إفادة العالم - الذي يكونون جزءاً غير منظور منه - يقدمون هذه المعجزة دون قيد ولا شرط، ويطلعونها عليه طلوع الشمس التي تحفظ الحياة على الأرض. ونحن جميعاً نجني ثمراته ونتقاسمها دون أن نبذل في سبيل الحصول عليها فلساً واحداً. وهكذا تتتابع فصول تلك القصة العجيبة التي بدأت مذ شرقت أول شعاعة من شعاعات العلم والمحبة تبدد الظلمات الداجية والأطماع الأشعبية من العقل الهمجي والفكر المتوحش القاسي. وإننا لن نجد ما يتلو علينا فصول تلك القصة مراراً وتكراراً، بل إن أفصح من ذلك الذي تحدثنا به تواريخ الطب والجراحة الفائقة عطفاً وحباً ورحمة. فما من مصل مما يستعمل لشفاء الأمراض إلا وينتمي إلى ذلك المصل الواقي الذي منحه للعالم بسخاء دكتور جنر لحمايتنا من تبريح الجدري. ولا تجرى عملية عظيمة على يد أحد الجراحين اليوم إلا ونجد الجراح والمريض يلهجان بحمد العزة الإلهية من أجل جيمس سميسون الذي جعل القيام بالعمليات الجراحية الخطيرة ممكناً ميسوراً بفضل اكتشافه جواهر المخدرات التي تفقد الإحساس بالألم. أما لويس باستور الذي علم الناس التحرز من المرض بالتطعيم وحفظ الأغذية والسوائل العضوية بالتعقيم فلم يتقاضى على جهوده غير الثناء والشكران. وجاء جوزيف لستر واتبع أفكار باستور واستخدمها في محو الألم ودرء السموم عن الأجسام فكان عدد الذين أنقذهم من الموت أكثر من الذين أبادهم نابليون، وضفر للسلم من أكاليل المجد فوق ما ضفرته الحرب لا عظم أبطالها الظافرين. وقضي حياته وهو يكدّ ويحلم ويحقق حلمه، وبفضله أصبح ميسوراً للجراحة اليوم القيام بكافة صنوف العمليات واصبح الطبيب القادر على أداء تلك العمليات يفاخر بما أسدته إليه طريقة لستر من تفادي التسمم بل أصبح ينشرها للملأ فيكبر لها مشاهير الجراحين وينهل من فيضها جماعة الطلاب المتعطشين ويجعلونها قبلة أنظارهم

وأحسن وجه في الورى وجه محسن ... وأيمن كف فيهم كف منعم

ولقد كان لستر يتقاضى مبلغ خمسمائة جنيه من موسر يجري له إحدى عملياته، أما الأجر الذي كان يتقاضاه من فقير لاجئ إلى أحد المستشفيات الخيرية فلم يكن يتعدى عبارة (أشكرك يا سيدي) تتدحرج على شفتي ذلك البائس بصوت مختنق متهدج؛ وكان الرجل العظيم يعود إلى بيته بقلب يطفح شكراً لله تعالى الذي آتاه القدرة على تخفيف بلاء المفلوكين وإذا الرجال تصرفت أهواؤها ... فهواه لحظة سائل أو آمل

ويكاد من فرط السخاء بنانه ... حب العطاء يقول هل من سائل

بيد أن ظواهر هذا البذل الإنساني العظيم لا تقف عند هذا الحد لأن أولئك الرجال الذين يمسحون عنا أمراضنا لا يترددون في الخطار بحياتهم دون ريث ولا إمهال

مسترسلين إلى الحتوف كأنما ... بين الحتوف وبينهم أرحام

آساد موت مخدرات مالها ... بين الصوارم والقنا آجام

ولا يوجد علاج أو وقاية من أمراض المنطقة الحارة إلا وقد ابتاعوه لنا بأعمارهم الغالية وأنفاسهم الثمينة، فكان الواحد منهم يجرب علاجه في جسمه قبل أن يجربه في مريض. وتاريخ الطب حافل بآيات الشجاعة والولاء والبطولة التي لا تقل عما تفيض به أخبار أعظم الفاتحين

بل إننا حين نذهب بحديثنا إلى عصرنا الحالي العظيم - عصر الهندسة العملية وإقامة الجسور والقناطر العجيبة، وحفر الترع والقنوات المدهشة نجد الحالم من ورائها جميعاً، ونجد السفن تجري من محيط إلى محيط وادعة مطمئنة في قناة باناما حين كانت الحياة الإنسانية لا تساوي قيمة ريع عشرة أيام لعامل عادي، ولولا أن رجلاً اسمه رولاند روس جلس يحلم ليلة بعد ليلة من خلال منظاره المكبرّ ثم عثر على البعوضة التي تحمل جراثيم الموت وأخبر العالم أننا نستطيع أن نهزأ بالحمى الصفراء وبالحمى النافضة (الملاريا) لو فعلنا بهذه البعوضة ما فعله باستور بالطعام وليستر بالجراح لما حفرت ترعة بناما. وقد جنى مهندسوها وبناتها أرباحاً طائلة من ورائها، ولكن الرجال الذين ابتدعوها في أحلامهم ورسموا فكرتها وسعوا لتحقيقها لم يأخذوا لأنفسهم شيئاً لأنهم كانوا من ذوي الأحلام وكأن الشريف الرضي كان يعنيهم حين قال

وركب سروا والليل ملق رواقه ... على كل مغبر المطالع قاتم

حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها ... فصار سراهم في ظهور العزائم

ترينهم نجوم الليل ما يبتغونه ... على عاتق الشعري وهام النعائم

وغطى على الأرض الدجى فكأننا ... نفتش عن أعلامها بالمناسم

وهكذا كان الناس يحملون ويحققون أحلامهم فصيروا عالمنا أجمل وأعظم من عالمهم، ومنحوا العالم قوة ليس وراءها مطلع لحالم؛ ولا فوقها منزع لأمنية ولا مرتقى لهمة، وأصبح من الميسور للإنسان الآن أن يجعل من هذه الحياة الدنيا فردوساً ينقش فيه صورة جنة الخلد ويفرش عليه محاسن النعيم الأبدي

(الزهرة)