انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 282/غريب اللغة في الميزان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 282/غريب اللغة في الميزان

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 11 - 1938



للأستاذ عبد القادر المغربي

من مشاكل الحياة ما لا يمكن حله، أو لا يرضي الناس أن يتلقوا حلّه من شخص واحد مهما علت منزلته في العلم والفضل لما يصادم ذلك من التحزب للرأي، والمنافسات بين المتنازعين، حتى ينزلوا أخيراً على حكم الجماعات التي لا تجد النفوس (غالباً) حرجاً من التسليم لها والرضى بحكمها

ومن هذا القبيل مشكلة إيجاد كلمات جديدة نحتاج إليها في نهضتنا الحديثة، سواء أكانت تلك الكلمات أعجمية الأصل، أو عربية لكنها غير مأنوسة الاستعمال، فان ضجيج النزاع يشتد حول تلك الكلمات ويَرى كل من المتنازعين أن يُحَكّم ذوقه غالباً، وعلمه أحياناً، في قبول هذه الكلمة، وعدم قبول تلك. والتشاؤم بكلمات اللغة يرجع في الأعم الأغلب إلى أمور أربعة:

1 - كون الكلمة من أصل أعجمي أو عامي

2 - كون الكلمة غريبة غير مأنوسة الاستعمال

3 - كون الكلمة مأنوسة المعنى مكروهة اللفظ ككلمة (ضيزي)

4 - كون الكلمة على العكس مأنوسة اللفظ لكنها مكروهة المعنى كالكلمات الدالة على ما يستحي من ذكره

ويهمنا من هذه الأقسام القسم الثاني: وهو كون الكلمة غريبة لا يُعنى بها إلا المتخصصون في اللغة لكن استجدَّ في لغة حياتنا اليومية فراغ لا يسده إلا بعض تلك الكلمات الغريبة، فكيف نصنع؟ هل نستعملها غير مبالين أذواق القراء؟ أو نهجرها غير مبالين إهمال مصدر من مصادر تنمية اللغة، ولا تعطيل معدن تستخرج من شذراته مادة لتلك اللغة التي يخشى أن تقضي عليها الألفاظ الأعجمية

وعندي أن ليس كل غريب اللغة مما يحسن هجرانه وترك الانتفاع به، بل إن من كلماته ما استجمع شروط الفصاحة وإنما يعوزه الاستعمال فيُصقل ويصبح مأنوساً مألوفاً

ومرادي بالغريب هنا ما يجهله عامة متأدبي هذه الأيام. فهذا ما نريد أن نردد القول فيه، ونميز بين ما نحن في حاجة إليه وما نحن في غنية عنه هذه كلمة (سياسة) لا نستعمل معها مرادفها وهي كلمة (إيلة) فان إيالة الرعية وسياسة الرعية شيء واحد؛ بل ربما كانت (الإيلة) أشهر من (السياسة) في استعمال أهل اللسان الأولين: آل البلاد والرعية أولاً وإيالةً، وتأول البلاد (من التفعل)؛ ويقلبونها أحياناً فيقولون (تألَّي) ومنه قول الشنفري في بيتيه المشهورين (وأمّ عيالٍ قد شهدت تقوتهم الخ)

وقد عني بأم العيال رفيقه في اللصوصية (تأبط شرا) إلى أن قال (أيَّ أول تألت) أي أية سياسة مشؤومة ساستنا بها تلك الأم في توزيع الزاد علينا

وقد يقال أيضاً إن فعل آل إيالةً أعرق نسباً وأشد أصالة في المعنى المراد من فعل ساس سياسة

ذلك أن السياسة تستعمل حقيقة في سياسة الدواب، ومن سياسة الدواب نقلت إلى معنى سياسة الرعية، بينا كلمة (إيالة) خاصة بسياسة الرعية وإدارة مصالح البشر، ولكن هل يشفع كل هذا بها، فترزق الحظ وتحيا بالاستعمال، أو يتشاءمون بها ويهملونها إلى حين؟

(بِزِّيزَي) بكسر الباء وبزايين معجمتين أولاهما مشددة بينهما ياء ثم ألف مقصورة، تقول العرب: (رجعت الإمارة أو الرياسة بزيزي) أي ما عادت تؤخذ بالاستحقاق والكفاية بل بالقوة فمن عز وقوى عليها بزها وسلبها مستحقها. فكلمة (بزيزي) من فعل (بز) المأنوس والمشهور لاستعماله في المثل السائر (من عز بز) أي من قوي سلب. فما أحوجنا إلى أحياء هذه الكلمة ما أكثر المقامات التي تعرض للكاتب أو الصحفي ويتفقد كلمة (بزيزي) فلا تخطر له

ولا أرى كلمة (فوضى) تسد مسد (بزيزي) إذ أن بينهما فرقاً لا يخفى على البصير

فهل يرضى كتابنا عنها ويفسحون لها المجال على أسلات أقلامهم؟ أم يتأففون بها كما تأففوا بالإيالة:

وكلمة (أبهل) ما الرأي في إحيائها من رمسها؟ يقال: أبهل الوالي رعيته إذا تركهم يفعلون ما شاءوا. وكثيراً ما أصبح الأمر فوضى في أطراف المملكة أو في بعض بواديها بسبب عجز الحاكم أو بسبب سوء إيالته (أي إدارته) فهذه الحال هي الأبهال تبهل الحكومة بلداً وتعجز عن ضبطه فتعم الفوضى فيه، ففعل (أبهل) من أجدر كلمات اللغة بالحياة وأولدها بالاستعمال يقول قائل إننا نشعر بالاستغناء عن كلمة الأبهال وتصاريفها ما دام لدينا تعابير أو جمل مركبة نستعملها مكانها

نعم ولكن إذا تداولت واستعملت استجد في نفوسنا شعور وألفة لها: مثل كلمة (هيأة) في قولنا (هيأة المحكمة) و (هيأة كبار العلماء)، فان كلمة رجال القضاء والقانون كادت تجمع على أنه لا تقوم مقامها كلمة سواها مع أن الحاكم والحكام كانوا في غنية عنها أكثر من ألف ومائتي سنة. وهذا كالسيارات والتليفونات في بلاد كمصر مثلاً كانوا يعيشون من دونها، أما اليوم فلم تعد تستتب للناس حياة ولا يطيب لهم عيش إذا حصل إضراب وعطلت السيارات والتليفونات عن العمل

زارني بالأمس زائر كريم من كتاب الصحف وجرى بيننا ذكر الحاجة إلى أوضاع جديدة تقوم مقام تلك الأعجمية. فأجبته ما الفائدة من إجهاد أنفسنا في وضع كلمات عربية جديدة إذا كنتم تأنفون منها بسبب شيء من الغرابة أو الثقل تجدونه فيها فما أسهل إيجاد الأوضاع علينا. ولكن ما أصعب قبولها عليكم

قال: وما مثال ذلك؟ قلت: قد يكون للدولة جيش مختلط من وطنيين وغير وطنيين فهل تقبلون أن نطلق عليه اسماً كانت تعرفه العرب وهو (البريم)؟ وأصل معنى البريم خيط ثخين يفتل من عدة خيوط مختلفة اللون. فالعرب منذ القدم سموا الجيش المتعدد الأجناس (بريماً) تشبيهاً له بالبريم أعني الخيط المذكور.

فقال: ينبغي قبول كلمة البريم لخفتها وإحكام وضعها. أما (البزيزي) و (الأبهال) فلا. ثم اخذ يجادل ويحتج بنفسه بقول الأستاذ (أحمد أمين) وهو:

(إن علينا اليوم أن نختار الألفاظ التي تناسب العصر ويرضاها ذوق الجيل الحاضر)

قلت: وقال الأستاذ (عزام) ما ملخصه:

(إن علينا اليوم ألا نجعل الذوق حكماً في اللغة لأنه يقتصر على المألوف من الكلمات ويعد ما دعاه ثقيلاً نابياً. وعلى الكاتب ألا يجعل نفسه أسيراً تتصرف به الأذواق الخاصة، بل يستملي فطرته فتملي عليه من الكلمات ما يلائم الذوق العام. الألفاظ أجل من أن يتحكم فيها الذوق وحده. الحاجة الملحة خلاَّقة الألفاظ. وهذه الحاجة لا تبالي بالأذواق؛ فكم من كلمة أجنبية ثقيلة استعملها كتاب العرب وألفتها أذواقهم: كالبروبوغندا والأرستقراطية والميتافيزيقية الخ. وما دام هناك معان شديدة وجب أن يكون إزاءها ألفاظ شديدة، ولا مندوحة لنا عن استعمال تلك الألفاظ لمعانيها كما نستعمل الألفاظ اللينة لمعانيها أيضاً. ونكون في عملنا هذا أحراراً دون أن تأخذنا رحمة بالأذواق، وكما يعالج لين الحضارة بالرياضيات الخشنة القاسية ينبغي أن يعالج لين اللغات بالألفاظ الخشنة القاسية أحياناً. وإن حاجتنا اليوم إلى الإبداع تسوغ لنا أن نتخير من الألفاظ ما نشاء ثم نطبع ذوق الأمة على مشيئتنا هذه. وما أشد حاجتنا إلى كثير من الألفاظ الجديدة التي إذا استعملناها أعانتنا في الإفصاح والإبداع. نعم إذا كان للمعنى الواحد عدة ألفاظ حق للذوق أن يختار منها أحلاها، وأرشقها لا أن يعمد إلى أسمجها وأثقلها فيؤثره على المألوف إغراباً وتنطعاً) اهـ

وقول الأستاذ عزام هذه يشبه ما قلته مراراُ: من أن كلمات اللغة في المعاجم تحكي الأدوات المنزلية في المنازل: منها اللطيف المرهف الذي يًصفف في محاريب الدار (صالونها)، ومنها الضخم الجافي الذي يخبأ في أقبيتها وسراديبها، ولكل أداة وظيفة لا تستعمل فيها الأداة الأخرى؛ فللصديق الزائر متكأ الحرير ومروحة الريش وأكواب السكر؛ وللص الدار الهراوة ويد المهراس ومشحوذ الخنجر

وشتان بين خشونة هذه ونعومة تلك، كما أنه شتان بين كلمات (الجَعْظَرِيّ) و (الجَوْاظَ) اللذين استعملها النبي () في قوله (أهل النار كل جَعْظَرِيّ جَوّاظ) وبين كلمات (كَيِّس فَطِن حّذِر) التي استعملها () في حديث (المؤمن كيس فطن حذر)

وكلمة (ضوطار) من كلمات أو أدوات المعاجم القديمة، فهل نستثقلها ونهجرها لثقالتها؟ أم ندَّخرها كما تدَّخر الهراوة للصّ فنخبأ (الضوطار) للرجل الذي ينزل ميدان السياسة ولا سلاح له يضمن له الفوز إلا الجهل والمخرقة فنلقّبه بضوطار السياسة كما لقبه بذلك الشيخ جمال الدين أو الشيخ محمد عبده في جريدتهما (العروة الوثقى)

جاء في صحف الأخبار أن الطيار (فلان) حاول أن يبلغ بطيارته أعلى قمم جبل هملايا وهي قمة (أفرست) وبعد قيامه بما أخذه على نفسه ذكر أنه علا بطيارته في الهواء الملاقي والمحاذي لسفح الجبل عدة مئات من الأميال صعداً قبل أن يبلغ القمة المذكورة وقبل أن يبلغ الفضاء الذي فوقها. فالهواء المحاذي للجبل ماذا يسمى؟ يسمى (نفنفاً). فهذه الكلمة نحتاج إليها للتعبير عن الهواء الذي لا يكون مطلقاً فوق الجبال وإنما يكون محصوراً بينها ومحاذياً لسفوحها، فلا مندوحة للطيارين عن استعمال كلمة (النفنف) في لغة الطيران ومن استثقلها كان أثقل منها لعمري.

يقول الطيار: ثم جاوزت النفنف وأصبحت في الهواء الطلق فوق قمة (أفرست) فبماذا نسمي هذا الهواء أو هذا الفضاء الذي طرت فيه؟ نسميه (اللوح) ونقول له إن طيارتكم بلغت اللوح أو أخذت تسبح في اللوح. و (اللوح) بضم اللام الهواء بين السماء والأرض.

يقول المتشائم بغريب اللغة: إن اللوح فيها غرابة فهل من كلمة غيرها تؤدي معناها؟

نعم كلمة (سُمَّهى) بضم السين وتشديد الميم وألف مقصورة في الآخر.

فيقول: هذه أشد غرابة من تلك وفيها ثقل ليس مثله في كلمة (اللوح) فلنوطن أنفسنا إذن على قبول (اللوح) وصقلها بالاستعمال.

يقول الطيار إنه عاد فارتفع بطيارته إلى أقصى مناطق الهواء بحيث أصبح التنفس عسيراً عليه. فماذا نسمي الهواء ثمة؟

نسميه (الُسكاك) بضم أوله، وفسره علماء اللغة بالهواء الذي يلاقي عَنان السماء، وفسروا (العنان) بالذي يبدو لك من السماء إذا نظرتها، والذي نراه منها هو زرقتها، والزرقة أقصى طبقات الهواء أو مناطق الهواء، في بادئ النظر، فالسكاك إذن هو الذي يكون في أعلى أو أقصى طبقة في اللوح

فيحسن أن ندخل في لغة الطيران هذه الكلمات الثلاثة

(النفْنَف) هو ما بين الجبال

(الوح) هواء الفضاء بين السماء والأرض

(السكاك) هواء أعلى طبقات اللوح

ونكون أهملنا كلمة (السُمّهى) مستغنين عنها باللوح لثقالتها التي ينفر منها المتشائمون. ويطرب لها اللغويون المخصصون.

وحاصل القول أن كلمات المعاجم أدوات كأدوات المنازل:

منها الضخم الثقيل، ومنها المرهف الخفيف. فعلى الكاتب اللبق أن يستعمل كلاً في محله اللائق به. وسلام (دمشق - الشام)

المغربي