انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 282/التاريخ في سير أبطاله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 282/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 11 - 1938



إبراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .

- 27 -

ولقد كانت هذه السنة الثانية للحرب أسوأ الأيام التي مرت بالرئيس طيلة حياته. وأي شيء أشد سوءاً من الهزيمة والخذلان؟ وإن الرئيس ليخشى أن تنحل العزائم وتخور القوى وبخاصة حين أحس الناس أن الحرب لابد أن يطول أمدها ويشتد سعيرها. وهاهو ذا تهامس الأمهات بدأ يصل إلى مسمعيه. وليته كان تهامس الأمهات فحسب، فان كثيراً من الرجال قد أخذوا يبدون تململهم وتذمرهم ويعلنون عن رغبتهم في وضع حد لهذه المحنة القومية. . .

وكان مما يكرب الرئيس ويوجع نفسه أن كثيراً من الناس كانوا يلومونه ويرجعون سبب الهزائم إليه؛ ويغفلون في ذلك عما كان يفعل قواده وعلى الأخص ماكليلان، ذلك الذي كانت محبته والثقة به إحدى خطايا الجماعات

ورجحت كفة الجنوبيين في البر ولكنهم في البحر كانوا أذلة؛ ذلك أنهم لم يكن لهم مثل ما كان لأعدائهم من الجاريات المواخر فيه؛ ولقد استطاع أحد القواد البحريين وهو فَرَّاجُت أن يسير في تلك السنة بسفنه إلى نيوأورليانز فيصليها من ناره ويأخذها عنوة، وكان انتصاره هذا وإذلاله أهل الجنوب على هذا النحو مما خفف على الشماليين بعض ما كانوا يلاقونه في البر من هوان وذلة. . . ولسوف تكون تلك القوة البحرية في النهاية عاملاً من أهم عوامل النصر، الأمر الذي لم يفطن إليه أهل الجنوب إلا بعد فوات الفرصة. . .

وبينما كانت الحرب تتأجج نارها ويتفجر بركانها، وتتواثب في البر والبحر شياطينها، كان الرئيس يفكر في أمر هو أعظم ما فكر فيه من الأمر. . . ولقد كان من أجل مواهبه أنه كان يتبين الأمور على حقيقتها مهما التوت عليه سبلها واختلطت وشائجها، وهو في ذلك يلقي بنظره فيتبين حقيقة موقفه وموقف أعدائه ثم يسدد خطاه على هدى مما رأى دون أن تفوته صغيرة أو كبيرة مما تقع عليه عيناه. . .

وتبين الرئيس موقفه فأخذ يتحفز ويستجمع قواه ليقدم، ثم عزم وصمم فليس من الأقدام بد؛ وليس لما عسى أن يلقي من المعارضة أي وزن عنده. . . ومتى عقد إبراهام النية على أمر ثم تخاذل عنه أو تهاون في العمل على إنفاذه. .؟

صمم الرئيس أن يضرب الضربة التي طالما انتظر أن تواتيه لها الفرصة. . . أجل، أراد الرئيس اليوم أن يضمن تاريخ البلاد، بل وتاريخ الإنسانية، أجل عمل قام به ألا وهو تحرير العبيد! وإنه لن يحجم اليوم أن يعلن رسمياً وفي مجال واسع ما سبقه إليه فريمونت وهنتر، ولن يتردد أن يأخذ بما رفض من قبل مهما يكن من الغرابة في موقفه، ولكن أية غرابة وهو كفيل أن يوضح للناس قضيته وأن يحملهم على قبول حجته؟

الحق أن الرئيس لم يغفل يوماً عن مسألة العبيد، ولم ينس ذلك النظام المنكر البغيض الذي نشأ على مقته وازدرائه والذي طالما تمنى أن تنجو البلاد من آثامه. . . ولكنه كان يحرص ألا تفسد مسألة العبيد عليه قضية الحرب، ولقد كان محور تلك القضية كما مر بنا المحافظة على الوحدة؛ فلما رأى تحرير العبيد قد أصبح عاملاً من عوامل نصرة تلك القضية وعنصراً من عناصر نجاحها، لم يتردد ولم يخف ومضى قدماً إلى غايته. . .

وكان الرئيس قد خطا خطوة في هذه المسألة في أوائل السنة الثانية من سني رياسته (6 مارس سنة 1862) وذلك أنه أرسل إلى المجلس التشريعي مقترحاً أن يصدر المجلس قراراً به تعوض الولايات التي تقضي على نظام العبيد فيها تدريجياً تعويضاً مادياً عادلاً، وأصدر المجلس ذلك القرار ولكن الولايات المحايدة عارضته ورفضته وهي المقصودة قبل غيرها به. . . ودعا الرئيس ممثليها وحاول إقناعهم ولكنهم لم يقتنعوا فمنيت الفكرة بالفشل ولم يفد الرئيس منها إلا أنه تعرض لنقد هذه الولايات ولومها ثم للوم دعاة التحرير من جهة أخرى لأنهم رأوا في الفكرة تردداً وتقاعداً وهم يريدون التحرير العاجل في غير تحفظ أو تراجع وكان الرئيس لا يزال يقلب الأمر على وجوهه، فهو يخشى من التحرير العاجل الشامل أن يغضب الولايات المحايدة فتنضم إلى الاتحاد الجنوبي، وكان يعد ذلك، والحرب قائمة، كارثة؛ ثم هو يخاف أن يتهم أنه ما أثار هذه الحرب الضروس إلا من أجل نظام العبيد مع أن الدستور يقر ذلك النظام.

وهو في الوقت نفسه يرى أن تحرير العبيد سوف يدعوهم إلى التمرد على ساداتهم في الجنوب فتضعف شوكتهم، هذا إلى رفضهم العمل في فلاحة الأرض بعد ذلك فيضطر البيض إلى العمل مكانهم فتتضاءل جيوشهم وتضعف مواردهم، فضلاً عن أن التحرير من شانه أن يكسب الرئيس وحكومته عطف الدول المتمدنة في أوروبا فلا تناوئه وهو فوق ذلك جميعاً يقضي على ذلك النظام البغيض الذي تنفر منه الإنسانية وتستخذي له، والذي ما فتئ الرئيس ينتظر يوم الخلاص منه. . .

ولكن يبقى بعد ذلك حكم الدستور في الأمر، فالدستور يقر امتلاك العبيد، وإذا أقدم الرئيس على التحرير خرج بذلك على الدستور وهو الحريص على مبادئه العامل منذ اشتغاله بالسياسة على المحافظة عليه وتقدسيه. . . على أنه يجد مخرجاً من ذلك فالمسألة تدعو إليها ضرورة حربية وهو مستطيع أن يحمل الممثلين بسهولة على تعديل الدستور في هذه النقطة. . .

بذلك لا يعوز الرئيس إلا الفرصة المناسبة وقد لبث يترقبها. . ولهذا كان يرفض أن يشايع دعاة التحرير قبل أن تحين الساعة فلا عجب أن يرفض في مايو من تلك السنة ما فعله القائد هنتر ولكن ليفعله هو بعد حين. . .

لبث الرئيس يترقب الفرصة، وكانت البلاد يتزايد فيها الشعور بضرورة القضاء على العبودية، ويتجلى ذلك الشعور في تلك العبارة التي كتبها قبل ذلك بنحو ثمانية شهور أحد الكتاب المؤرخين والتي جاء فيها (إن هذه الحرب الأهلية هي الأداة التي سخرها الله لاقتلاع جذور العبودية، وإن أعقابنا سوف لا يرضون بنتيجتها إلا إذا كان مما تحدثه الحرب ازدياد عدد الولايات الحرة هذا هو ما يتوقعه الجميع وهذا هو الأمل الذي ينشده جميع الأحزاب)

وكانت أولى الخطوات العملية التي جاءت مظهراً لهذا الشعور أن أصدر المجلس في أبريل قراراً بالتحرير العاجل في العاصمة وما حولها؛ ولما وقع لنكولن على هذا القرار قال: (عندما تقدمت باقتراح إلى المجلس عام 1849 للقضاء على العبودية في هذه العاصمة ولم أكد أجد من يستمع إلى ذلك الاقتراح، لم أكن أحلم أنه سوف يتحقق بمثل هذه السرعة)

ولقد كان هذا القرار بمثابة مقدمة لما سيتلوه في القريب من تحرير شامل عاجل للعبيد في الولايات جميعاً، ذلك العمل الذي سوف يضاف إلى تراث الإنسانية ويعد من مآثر البشرية في هذا الوجود

وكان على ممثلي الولايات المحايدة، تلك الولايات الوسطى أن تعتبر بما جاء في هذا القرار، لكنهم ظلوا على عنادهم على الرغم من أن الرئيس قد دعاهم إلى مؤتمر آخر في يوليو سرد لهم فيه وجهة نظره وأطلعهم على حججه

أخذ الرئيس يتحين الفرصة ولكن الموقف الحربي في صيف ذلك العام كان على ما بينا من حرج وشدة، فالقائد ماكليلان في زحفه على رتشموند متلكئ متردد، ولقد تراجع في يوليو تراجعاً مهيناً مخجلاً وإنه ليرفع عقيرته بالسخط على رجال الحكومة في العاصمة كما أسلفنا، الأمر الذي تألم له الرئيس أشد الألم ووقع منه في غمة شديدة وحيرة

وأراد الرئيس أن يفرج عن نفسه فيعلن التحرير في تلك الآونة، ولكن سيوارد أشار عليه أن يتريث ويرجئ المسألة إلى حين، فانه إن فعل اليوم وأعلن التحرير عد ذلك منه ضرباً من اليأس وهو مهزوم مستضعف. . . ورأى الرئيس وجاهة رأي صاحبه فآثر التريث والصبر قائلاً: إن التحرير معناه يومئذ (آخر صرخة في الهروب)

وأخذت الأصوات ترتفع من كل جانب بمطالبة الرئيس بإعلان قرار التحرير، ومن ذلك ما جاء في جريدة نيويورك تربيون على لسان محررها جربلي وهو ذلك الصحافي العظيم الذي كانت تربطه بالرئيس صلة منذ بدأ يعظم شأنه في الحزب الجمهوري.

كتب جربلي في عبارة صارمة يأخذ على الرئيس تردده ويطلب إليه في لهجة أقرب إلى الأمر منها إلى الرجاء أن يعلن تحرير العبيد. ولقد عجب الناس حين رأوا الرئيس يرد بنفسه في الصحيفة على محررها ومما جاء في رده قوله (أذا كان هناك من لا يحافظون على الوحدة إلا أن يحافظوا على نظام العبيد فإني لست معهم، وإذا كان هناك من لا يحافظون على الوحدة إلا أن يقضوا على نظام العبيد فأني لست معهم! إن غرضي الأسمى هو أن احفظ الاتحاد وليس هو أن أحفظ أو أقضي على العبودية. فإذا تسنى لي أن أنقذ الاتحاد دون أن أحرر عبداً واحداً فعلت ذلك، وإذا كان في وسعي أن أنقذه بتحرير جميع العبيد فعلت ذلك. . . وإذا استطعت أن أحافظ عليه بتحرير بعض العبيد وترك البعض فعلت ذلك أيضاً. . .)

وكان جيش الجنوبيين يزحف على وشنجطون بقيادة لي وقد عبر نهر بوتوماك ونزل في ولاية ماري لند، وأسقط في يد الشماليين وباتت عاصمتهم في ذعر وهلع. . . وحزن الرئيس وضاق صدره بماكليلان وأقسم لئن ارتد العدو ولحقت به الهزيمة ليعلنن قرار التحرير إثر ذلك

وأخيراً التحم الجيشان في سبتمبر: جيش لي وجيش ماكليلان وارتد الجنوبيون عقب معركة أنتيتام التي أشرنا إليها وكان تراجعهم في اليوم السابع عشر من الشهر

وفي اليوم الثاني والعشرين من هذا الشهر دعا الرئيس مجلس الوزراء إلى الاجتماع عنده، ولم يكن أحد من الوزراء يعلم الغرض من هذا الاجتماع، ولما أكتمل جمعهم فتح الرئيس كتاباً كان يقرأ فيه، وأخذ يقرأ في صوت جهوري قصة فيه أعجبته وهو يضحك والوزراء يضحكون ويعجبون إلا أحدهم وهو ستانتون فكان يضيق بكثير مما يفعل الرئيس وبما يأتيه من ضروب المزاح، وهو لا يدري أن مثل هذا الرجل في تلك الشدائد أحوج ما يكون إلى أن يرفه عن نفسه ويخفف عنها بعض ما بها. . . وإلا فكيف يستطيع أن ينهض بذلك الحمل الذي تنوء به الجبال؟ وكثيراً ما يكون ضحك بني الإنسان مغالبة منهم لما يجيش في نفوسهم مما يصبه الدهر عليهم من آلام وخداعاً منهم لأنفسهم عما بها ولو ساعة أو بعض ساعة

ولما فرغ الرئيس من تلاوة القصة غامت أسارير وجهه وبدت عليه إمارات الجد ودلائل الاهتمام والحزم، فأخرج من جيبه ورقاً طويلاً كتبه بخط يده وتلاه على الأعضاء فإذا هو قرار التحرير

أعلن الرئيس أن العبيد في جميع الولايات بعد اليوم الأول من السنة الجديدة أحرار وأن الحكومة ستعترف بحريتهم وتساعدهم على بلوغها وأنها ستقوم بتعويض الولايات الموالية عما تطلقهم من العبيد. . . وبهذا الإعلان ضرب نظام العبودية ضربة سوف تكون القاضية عليه، وبه تحقق حلم طالما منى الرئيس به نفسه، ورأى ذلك النجار - الذي وقف في صدر شبابه مرة في مدينة أورليانز يشهد سوق العبيد - نفسه يقضي على ذلك النظام فيعلن باسم حكومة هو رئيسها أن عبودية بعد اليوم المحدد وأن الشعب الأمريكي جميعه شعب حر، وأن أمريكا دولة حرة وأمة حرة

أعلن الرئيس كلمته وأدى رسالته، وشهد ابن الغابة اليوم الذي يقف فيه موقف الآمر الذي ينطق باسم شعب في أمر طالما شغل باله وبال الأحرار في ذلك الشعب، ورأى العالم نوعاً جديداً من الحركات الكبرى تؤثر في تاريخه وتضاف إلى سجله، حركة من تلك الحركات التي تنقل تاريخ الشعوب من فصل إلى فصل

وهزت البلاد من أعماقها فرحة عظيمة، وراح الناس يعلنون عن ابتهاجهم بالزينات ينصبونها والليالي يقيمونها ويملئونها بأفراحهم واحتفالاتهم ومظاهر حبورهم

وانهالت على الرئيس رسائل التهنئة والإعجاب يحملها البرق والبريد من أمريكا ومن خارج أمريكا. . . فلقد تلفتت أوربا تنظر ما تفعله الدنيا الجديدة للمرة الثانية من أجل الحرية، فهذه الدنيا التي ولدت الديمقراطية في القرن الماضي تئد العبودية في هذا القرن وتضع أسم رجلها وهدية إحراجها لنكولن إلى جانب أسم بطلها ومحررها وشنجطون الذي انتزع لها استقلالها بحد السيف من الغاصبين من أعدائها

والرئيس صامت لا يعرف البطر كما لا يعرف الخور؛ يتلقى تهاني المهنئين وكلمات المعجبين بحزمه في سكون وتواضع، وإنه ليحس ألا يزال بينه وبين يوم الراحة جهاد وجلاد يرى مظهرهما تلك الحرب التي ما فتئ يتزايد سعيرها. . .

يتبع

الخفيف