انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 281/إلى شباب القصصين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 281/إلى شباب القصصين

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 11 - 1938



كيف احترقت القصة

قصة المستر فرانك سونيرتن

للأستاذ أحمد فتحي

إن ثلاثين عاماً قد تصرمت بعد إخراج قصتي الأولى سنة 1909. ولذلك فإني أعتذر من عدم تذكري سوى القليل من محتوياتها

كنت في ذلك الحين أعمل في بعض مكاتب النشر، أراجع (البروفات)، وأحرر بعض الرسائل إلى المؤلفين ورجال الطباعة لقاء خمسة وثلاثين شلناً في الأسبوع

وكان من عادتي أن أتناول وجبات طعامي في بعض مشارب الشاي، أو في مطعم رخيص في (سانت مارتن لين) يقال له مطعم (سانت جورج). وبعد أن أفرغ من عشائي تتشعب بي المسالك، فأما أن أذهب إلى ملهى للتمثيل! أو أمضي إلى حيث أسمع محاضرة واحد من الأعلام، وأتوجه إلى بيتي لأكتب بعض الخواطر على منضدة تخيط عليها أمي الثياب، ويرسم عليها أخي بعض الصور لبعض المجلات التي تصدر من أجل الناشئة!

ولم تكن آمالي معلقة باحتراف القلم بل كان من ودي لو أغدو صحافياً لا قصصياً. غير أني كتبت قصة طويلة كاملة وأنا في الثامنة عشرة، ثم أحرقتها! وأتبتعها بأخرى وأنا أبن عشرين ولكنها كانت قصيرة جداً، وكان أسمها (الطريق الحق) عرضتها على ستة من رجال النشر قبل إحراقها. غير أن واحداً من هؤلاء الناشرين جميعاً لم يرفضها بطريقة تبعث على اليأس، بل أعادوها إليّ مصحوبة بكلمات التشجيع، وبعد تجربة أخرى، كتبت قصتي الأولى الناجحة (القلب السعيد)!

وكانت قصة (القلب السعيد) على ما أذكر تنتظم طائفة من الشخصيات، منها البطل، وهو شاب مرح موفق في مثل سني وشقيقته، وصديق له، وحبيبته، وأمه، وأبوه الذي كان يغشى حقيقة حاله غموض كثير. . . كما كان من الشخصيات الملحوظة كذلك فتاة خادم في مشرب، ورجل آخر غير موفق إلى خير

لم تكن لي شقيقة، ولا أب، ولم أكن أعرف - في ذلك الحين - مثل تلك الفتاة الخادم ف مشرب الشاي، ولا مثل ذلك الرجل الذي يخطئه التوفيق على الدوام، وأما الأم فقد كانت تختلف تماماً عن أمي، التي كانت أقل النساء إيثاراً لنفسها، وأملهن خطوة بالسعادة! وهكذا لم يكن في القصة من شيء قد استوحيته الحقيقة الماثلة سوى البطل الشاب المرح الموفق. وكذلك لا تعدم الحياة وجود أمثاله على الدوام!

كان هذا الشاب أجنبياً عن البلاد، يشتغل في وكالة لبعض الأعمال الخارجية، وقد عرفته عن طريق أخي الذي كان صديقاً له، وكان يعول أخته، ويجهد أن يعين حبيبته على أمور حياتها. وقد حدث أن خرج وإياها في نزهة، وانتهى بهما المطاف إلى مشرب الشاي، حيث اتفق أن رأته يقبل الفتاة خادم المشرب. ولقد جرت على هذه الأزمة الأخيرة - في القصة - تعنيف صديقه كانت على وشك الزواج، إذ ساءها أن بطل قصتي لم يكن على شيء من متانة الخلق ولا الثبات على حب واحد!

ولست أدري ماذا حدث لقصتي بعد ذلك من حيث تسجيل الحوادث، ولا أظنها كانت متأثرة بواحد من كتاب السلف، عدا (لويزا آلكوت) التي كنت قد قرأت له أقاصيص متتابعة منذ عام 1894

وحين التفت إلى الوراء ثلاثين عاماً، يبدو لي أن مؤلف (القلب السعيد) رجل آخر لا يحمل اسمي ولا يمت إليّ بسبب. وإن صورته الشمسية لتنطق بأنه كان ذا رأس مستطيل، غزير الشعر، وأنه كان بارز عظمتي الوجنة، قصير النظر برغم بريق عينيه، كما أنه لم يكن من النوع الذي تسهل قراءة عواطفه وخلقه من صورته ومظهره الخارجي، سوى ما كان يبدو عليه من إمارات الجد والوقار؛ التي يتميز بها علماء الشباب، ولكنه - إذا صدقت ذاكرتي - لم يكن على شيء من الجد ولا الوقار! كما أنه لم يكن من العلماء بحال!

كتبت (القلب السعيد) في الأمسية وأيام العطلات الأسبوعية، خلال أربعة شهور أو خمسة، وكما صنع (شكسبير) في قصته (بن جونسون) لم أكن أعمد إلى تجفيف سطر واحد!

وكما أن فرصة النشر لم تكن حينذاك أكثر من وهم يتأرجح ويضطرب في ذهني؛ كذلك كانت هذه الفترة من الزمن أهنأ أيام حياتي. . . فقد كان من الفكاهة المستملحة أن أخترع أناساً لا أعرفهم، وأروي عنهم قصة فضفاضة الفصول، ثم أعمد إلى تسجيل الاختراع والحديث في سطور! ولقد سمعت بعد ذلك أنني طالما ضحكت في كتاباتي ضحكاً طليقاً؛ ولكني كنت أضحك من غير أن أعني. . . ومن المحقق على أي حال أن كتابتي على تلك الحال لم تكن منجاة لي من الجمود أو الاستخذاء! لأن الكاتب كلما كان مرحاً، وكلما كان له أصدقاؤه وملاهي حياته، وكلما كان مستمتعاً بمحاسن أيامه إلى غير حد - كان غير ذي حاجة إلى إجهاد خياله لافتعال المفاجآت والحوادث. على أن تفكيري كان حاداً بالتأكيد، ولكنه لم يكن علمياً منظماً. وكان تكوين جسدي متيناً. غير أن سلسلة من الأمراض الموهنة قد تركتني سقيم الجسد هزيلاً، غير قادر على مباشرة الألعاب الرياضية، وكل حظي منها لم يكن - فيما سلف - أكثر من العبث بكرة صغيرة في شوارع (لندن) الخلفية! غير أني كنت كثيراً ما أتروض بالسير على القدمين، كما كنت أطلع في سعة، وأفكر في إتقان، وأغشى مدينة (لندن) وريفها بين رفقة يفوقونني خبرة بالحياة، كما كنت قليل الحفل بالمستقبل!

أستطيع أن أقرر أني لم أتوخ في كتابة (القلب السعيد) نهجاً خاصاً أدين به في الحياة الواقعة نفسها. كانت تروق لي نظرية (الاشتراكية) بيد أنني لم أكن أتحمس لها تحمساً فعلياً ولقد كنت في تلك الأيام، حين كان رزقي خمسة وثلاثين شلناً في الأسبوع، كما أنا اليوم. . . بعد أن أتسع رزقي كثيراً. . . شديد الإيمان بأن كل إنسان إنما هو الذي يصنع دنياه الخاصة! بغض النظر عن موارد رزقه. كما كنت ولم أزل شديد الإيمان بأن السعادة إنما هي ذخيرة شخصية، تصونها الطبيعة المرحة السامية أكثر مما تصونها الاعتبارات الاقتصادية! وهذه الطبيعة المرحة هي التي جلوتها في شخص بطل (القلب السعيد) فلقد شرق في الأرض وغرب في غير كبير اهتمام وفي غير ما صرع أو جهاد! ولكنه كان يتعقب الحب الذي يجده القارئ في آخر القصة، ومثله الأعلى لم يكن يعدو الزواج السعيد، وبيت الأسرة، والأطفال، في قناعة بالقليل ورضي بالواقع!

وحدث في عام 1908 أن المستر (فيشر آنون) الناشر المعروف، أعلن مسابقة قصصية عامة، أرصد للفائز الأول فيها جائزة قدرها مائة كاملة من الجنيهات. وكان هذا القدر من المال خليقاً أن يسيل له لعاب مثلى. . . ولذلك أنجزت كتابة قصتي (القلب السعيد) وتقدمت بها بين المتسابقين. وأعقبت ذلك نتيجة محتومة مرتقبة، ولقد كان يرضيني أن أكون عاشر الفائزين إلا أنني لم أربح. . وكان صدمة لي، ولكنها لم تكن شديدة القسوة، وبعد ذلك أتيح لي حظ نادر. . .

كنت - كما قدمت - أعمل في ذلك الحين ببعض مكاتب النشر: أقرأ (البروفات) وأحرر بعض الرسائل، وكان رئيسي في ذلك العمل رجل أسمه (فيليب لي وارنر) كان يعمل معي قبل ذلك في مكان آخر، وكان قد قرأ لي من قبل قصتي القصيرة (الطريق الحق). وقد اتفق أن سألني بعد فشلي في المسابقة ماذا أكتب، فلما رويت له خبر المسابقة ودخولي بالقصة الأخيرة وفشلي، طلب أن أطلعه على تلك القصة، فأجبت رغبته. وبعد أن قرأها دفع بها إلى ثلاثة من أصدقائه الذين يعتد برأيهم. وإني أقرر هذا حتى لا يتوهم بعض البعيدين عن محيط النشر أن فيه سبيلاً إلى التحايل. . . وبعد أن تلقى الرجل آراء أصدقائه هؤلاء طلب إلى إحداث بعض التحوير في القصة، وأعداً بنشرها بعد ذلك. ومن عجائب المصادفات أنه كاشفني بذلك في نفس اليوم الذي كنت أحي فيه عيد ميلادي الرابع والعشرين!

تحدث كل الأصدقاء بحسن حظي، وكانوا جميعاً يشكون في نجاح قصة أنا كاتبها. وقد جاء نجاحها منافحاً عن كفايتي! والحق أنه كان لي على الدوام أصدقاء يقفون في صفي لموجهة ما يكتنفني من أخطار الغرور في النفس! ولم أكن أغضب لهذا أبداً. بل على العكس من ذلك، كنت دائماً أعترف بما كانوا يغمرونني به من صفوة المودة.

ولم يكن الكتاب (القصة) عملاً جيداً تماماً. فلقد كان مكتوباً في سرعة فائقة وفي قلة اكتراث. وكان بذلك أبعد ما يكون من صفات العمل الأدبي الجدي، وأبعد ما يكون من الجدارة بالكتابة عنه، أو مديحه، ولكنه على أي حال كانت تميزه ظاهرتان ينبغي أن يعني بهما كل شاب يريد أن يكتب قصة؛ فقد كانت فيه جدة أصيلة ملحوظة، فضلاً عن اندماج المؤلف في الشخصيات التي خلق منها أبطال قصته!

وبعد ظهور الكتاب، بهرني ما استقبلته به الصحف التي تحفل بفن القصة، والحق أنها كانت رفيقة به كريمة عليه. فقد امتدحه كأنما يتفرد كاتبه بعبقرية من طراز خاص! وقارنته بأعمال (ديكنز) الخالد! وأسرفت في التنويه بما فيه من أصالة وطرافة. بل لقد بلغ من كرم محرر (المانشستر جارديان) أنه قال: (. . . لقد بدأ المستر فرانك سونيرتن - أنا - أعماله الأدبية بإحدى الروائع. فقد جعل أبطال قصته في ارتباط وثيق، كما أقاض عليهم حيوية ملحوظة؛ وكل ما في كتابه يعتبر هدية ممتازة إلى الفن القصصي من الشخصيات، والطبيعة، والحوار. وليس بعد ذلك من شيء يجعل القصة جديرة بالنشر، خليقة بالإقبال!

ونفذت سبعمائة نسخة من الكتاب في موسمه الأول ولم يكن هذا أمراً مرضياً تماماً. ولكنه لم يكن في تلك الأيام نتيجة سيئة. فقد بلغ نصيب الناشر من ثمن هذه النسخ ثلاثين جنيهاً. بينما أخرج (أرنولد بينت) كتابه الأول فلم يكسب أكثر من جنيه واحد بعد أجر من وقع فصوله على (الآلة الكاتبة)!

واستأنفت الكتابة بعد ذلك، لأن الناشر تلقى تشجيعاً كافياً لأن يتفق معي على نشر قصة أخرى. وهذه أيضاً حقيقة لها حظ من الأهمية. فان القصة الأولى للكاتب إن لم تكن أكثر من محاولة غير ناجحة، فان قصته الثانية خليقة أن تكون بداية طيبة لاحترافه هذا الفن!

وأنا الآن لا أكتب قصصي بالسهولة التي كنت أكتب بها منذ ثلاثين سنة. والواقع أن الإنسان كلما تقدمت به السن تزايد شعوره بصعوبة التمشي مع كل الأساليب! وشعوره بتضاؤل استقلاله وحقوقه كمؤلف. ولكن، حينما كنت أكتب قصتي (موسم الفكاهة)، وأنا ابن ثلاث وخمسين سنة كنت أحس بذلك النشاط الذي كان لي حين كنت أكتب (القلب السعيد) قبل ذلك بثلاثين عاماً كاملة.

وحين شرعت في كتابة هذا المقال لم أكن قد تصفحت كتابي الأول منذ ظهوره، ولكني وجدتني مضطراً إلى ذلك حين هممت بتدوين هذا الفصل، لأكتشف ذلك الموضوع الذي دارت عليه فصول كتابي الأول الذي أشعر بأني مدين له، إذ مهد لي السبيل إلى فن من الحياة لقيت فيه ألواناً من السعادة.

فرانك سونيرتن