مجلة الرسالة/العدد 280/الوداع
مجلة الرسالة/العدد 280/الوداع
للأستاذ أمجد الطرابلسي
إلى دمشق وأحبابي فيها أهدي آخر ما نظمته تحت سمائها. ..
ماذا أقول لإخواني وأصحاب؟ ... لعلَّ صمتي قبلَ البَيْنِ أحرى بي!
يا لوعةَ الوجد في داري ومرتبعي! ... ماذا. . . إذا احتجبتْ داري وأحبابي؟
يا قلبُ ويحك! هذا البين قد تعبت ... غربانُه. . . قُتلت من شرِّ نَعّاب!
ألم يكن عهدُنا - والدهر ذو ترةٍ - ... هزءاً بهزءٍ، وألعاباً بألعاب؟
أيْامَ دأبُ الزمانِ الغرّ مظلمتي ... لهواً، وسُخريتي من ظلمه دابي!
أيّامَ يُدْهق لي الأكوابَ مترعة ... سُمَّا، فأّجرع كالصّهباء أكوابي
فما لحصنك قد خارتْ جوانِبُهُ؟ ... كالبيت في القفر لم يُشْدَدْ بأطناب
يَظَلُّ في عَصَفَات الرَيح مُصطفقاً ... يئن أَنَّ الثكالى إثرَ تنحاب
بميل والعاصفَ المجنونَ مُرتنحاً ... كالراقصات تِهادى بينَ شُرّابِ!
قلبي، رشادَكَ! لا يفزعْكَ أن صهلت ... خيلُ النّوى تستحثُّ الركبَ في بابي
أَهلي حَوالَيَّ. . . . ماذا أنت قائله ... لهمْ قبَيلَ نوىً كالليل في الغاب؟
قلبي! أعِندكَ أن تشكو لهم حُرقاً ... تشويك من لاعج في الصدر مِلهابِ
فما فغرت - على ما طال من وجعي - ... فماَ بشكوى لصحب أو لأغرابِ!
ولا سجدتُ لغيرِ الله في زَمَنِي ... ولا وَقَعتُ على أيدٍ وأعتابِ
ولا بسطت يدي للذلّ أقبله ... ولو علمت لديه كل آرابي
هُوَ الشَباب! فلا كان الشبابُ إذا ... لم يستسغ رشفاتِ العزّ في الصَاب!
لا عاشَ إمَّا حنا للبغي هامَتَهُ ... أو ضمَّ برديهِ في الدنيا على عاب!
دمشقُ يا فرحة الدنيا وبسمتها ... ويا مراتعَ تهيامي وتلعابي!
يا ممرح الغيدِ كالأحلامِ حائمة ... ومسرحَ الصيد من صحبي وأترابي
ما لي عدوتُ إذا ما سرت منفرداً ... لم ألقَ غيرَ جميل فيكِ جذاب؟ كأن عينيَّ قبل اليوم ما وقعت ... على جمالك هذا الرائع السابي!
كلُّ طريف تروع القلبَ جدتُهُ ... يا طولَ شغل فؤادِ الهائم الصابي
يا منبعَ الحسن والإحسانِ! كم سكرت ... من راحِ دَلِّك أحنائي وأهدابي
مازلتُ أعشق فيك الحسن في دَعَةٍ ... حتى عشقتُ جراحاتي وأوصابي!
أمَّ الميامين! قد غَنَّت ملاحمَها ... فيك البطولات في شجو وإطراب
وجَرّرت من ذيولِ المجد سابغة ... على بطاحِك في تيهٍ وإعجاب!
دمشق أنتِ التي فَجَّرتِ من كبدي ... يُنبوعَ شِعْريَ يجري. . . أَيَّ سَكاّب
كما جرى (بَرَدَاك) العذبُ منفجراً ... ما عاقه طولُ أزمانٍ وأحقاب
مازال فوقَ مشيبِ الدهر منسرباً ... يجري كطفل على الآلام وثّاب
أدرت لي من كؤوس الحسن ألعبَها ... بأنفس وخيالاتٍ وألباب
أرضٌ سماءٌ رياضٌ أنهُرٌ أُفقٌ ... حُسْنٌ أفانينُ. ما عَدّي وتحسابي!
شدَوتُ فيك لحوناً كلُّهَا عَجبٌ ... رَتَّلْتها بين أفراحي وأتعابي
ما كانَ أضيعَ ألحاني يُرَدِّدها ... بعدي صَداها كأن الريح تهزا بي
غداً. . . سأمضي ولكن أينَ مُنْصَرفي ... لا الدار داري ولا الأحباب أحبابي!
لا (نَيْرَبٌ) تَتَصَبّاني خمائِلهُ ... أو (غُوطة) تتلقاني بترحاب!
غداً سَأَلْفِتُ جيدي لا أرى أحداً ... حولي يشاطرني هَمْي وتطرابي
إلاّ خواطِرَ من وَجدٍ يعذبني ... صَبْراً، ويلهب صدري أي إلهاب
وذكرياتٍ عن الأحباب ماثلة ... من واضح خَضِلِ الألوان أو كابي
غداً. سأركبُ بنت اليم راقصة ... على مُتون دَفوع الموج عَبَاب
تَشقُّ بي مسبح الحيتان مائسة ... كأفعوان على البطحاء مُنساب
في ليلةٍ كطيوفِ الجنّ راعبة ... مجنونةِ الموج والإعصار مغضاب
خلفَ الغيومِ ظلامٌ خلفه أَمَدٌ ... من خِلِفهِ الغيبُ في صمت وإضباب
من خلِفِهِ القَدرُ الفجّاع ملتئما ... عن العيون، كميناً خلف حُجّاب
غداً. . . إذا هبَّ طامي اليم يقذفنا ... غَيظاً بموج له كالهُضْب غَلاّب!
وحارَ في أمرِهِ الملاّح وانبعثت ... حَوليَّ أصوات نُوَّاح ونُدّاب وحَوَّمَ الموتُ، في كفّيْهِ منجلُهُ ... وَرفَّ فوق ضحاياه على قاب
أقول للوكب: ما شغلي بهولِكمُ ... وفي فؤادي أعاصيري وتصخابي؟
أينَ السبيلُ؟ وهذا الليلُ معتكرٌ ... لا كوكبٌ فيه لمَاعٌ ولا خابي!
أمضي غداً نحو آفاقٍ تمجّ دمّا ... وجاحِمٍ بيني الإنسانِ لهّابِ!
حيثُ الرّعاة على القطعانِ جائرةٌ ... تسوقها خلفَ أطماع وأسلاب
تُلقي بها للرّدى المنهومِ هَيِّنةً ... سِرباً يموتُ على أشلاءِ أسراب!
تذيقها الجوعَ ألواناً مُلُوَّنةً ... كيما تُسَلّمها بالظفر والنابِ
كيما تقيمَ على أشلائها نُصُبا ... من مفخرٍ كدَويّ الطبل كذّاب!
زعامةٌ أبدعوها فتنةً عَجَباً ... على ظهورِ صعاليك وأوشاب
تستعبدُ الناس، إذ تعمي بصائرَهم ... في عصر نورٍ وعرفانٍ وآدابِ!
دعوا الشعوبَ تَآخَي قبلَ مَصرِعها ... لا تلعبوا بقلوبٍ أو بأعصاب!
لا تستفزّوا بها الأحقادَ نائمةً ... أو ترفد والّلهَبَ الخابي بأحطابِ
لا تهدموا الكون كي تبنوا تعاظَمكم ... وتستطيلوا بشاراتٍ وألقابِ
لولاكم كان هذا الخلقُ في دّعةٍ ... يستمرئُّ السلم في أمنِ وإخصاب
إيهٍ دمشقُ! أرى الأيْامَ مُثقَلَةً ... تحبوا إليكِ بإطماعٍ وإرهاب
برغميَ اليومَ أمضي عنك مُغترباً ... والليلُ حولك داجِ غيرُ مُنجاب
ماذا تجيءُّ به الأيامُ؟ لا بصري ... يجلو الغُيوبَ، ولا وهمي بنَقَاب
أراكِ في ظلمة الأحداث واقفةً ... على رَوابيك منها شرُّ جلباب
تَسْتَنْبِئِيِنَ الليالي وهي صامتةٌ ... صمتَ الرّدى فوق أرماسِ وأنصابِ!
ليلٌ ثقيلٌ تَهادَى شهبُهُ فزعاً ... من حادثٍ مُسْتَكِنٍ فيه رَيّاب
لؤمُ السياسة قد جَرَّبِتهِ زَمَناً ... كم بارقٍ فيه للأبصارِ خلاّب
إن السياسَةَ في تدجيلها سُبَحٌ ... للذكر في كفِّ فتّاكٍ وسلاّب!
وأختك القدس م زالت جراحَتها ... تنصب منها دماها أيّ تَصباب!
لم يرحم البغي في أكواخها ولداً ... في حجرِ أمٍ. ولا شيخاً بمحراب!
ويلَ اللئيم! أما راضت شكيمتَه ... بالأمس صفعةُ صَدقِ العزم غَضّابِ ذئبٌ على الحَمْل السَّاجي فإن زأرت ... أَسدُ العراك تولّى أيَّ هَرّاب!
أمسى يوارى عن الأبصار خزيته ... ببرقع السلم خوفَ الهزءِ والعاب
هذا السلام ذبيحاً فوق مَدرجه ... فكيف أنقذته يا شرَّ كذّاب!
عفواً بلادي! سأمضي عنك، لا كبدي ... حَرَّى، ولا مضجعي بالمُقْلَقِ النابي
ماذا أخافُ وأنتِ الخلدُ أجمعُهُ؟ ... هل في خلودِكِ من حظِ لمرتاب؟
أَلسْتِ مِن حَطَّمَ الأجيالَ صَعْدَتَهُ ... وصارعَ الدهرَ فرداً غير هيَّاب
يأتي الخطوبُ وتمضي عنك مُتْعَبَةً ... وأنتِ في عزمة الرئبالِ في الغابِ!
كم فيكِ للفاتح المأفونِ من حُفَرٍ ... غطّيتها برياحينٍ وأعشاب
ثوى بها فتناسى الدهر سيرَتَه ... وأنتِ باسمة من غير إجلاب
يا أهلُ، عُذْركم! ماذا أقول لكم ... في موقف بفؤاد الصخرِ لعَاب!
أرى القوافي تُعاصيني وأعهدها ... كأخضر زاخر الأمواج صَخّاب!
تنهلّ من خافقِي كالوبلِ مندفقاً ... من مُزنة في أكفّ الريح مسكاب
خلف الجفون دموعٌ جد حائرةٍ ... لولا الحياءُ لقد أوحتْ لكم ما بي
مثل السجين على القضبان منعكفاً ... يفري الحديد بأظفارٍ وأنياب
تجري دماه عليها وهو يقضمها ... هيهات يظفر! ما للسجن من باب!
(باريس)
أمجد الطرابلسي