انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 28/العالم المسرحي والسينمائي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 28/العالم المسرحي والسينمائي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1934



الدرامة والحياة

لناقد (الرسالة) الفني

من الجلي الواضح أننا قبل أن نطرق بحثاً كهذا، علينا أن نتريث برهة نسائل فيها أنفسنا ماذا نعنيه تماماً بكلمة (درامة) - أو بمعنى آخر - ما هو التعريف الذي نستطيع أن نضعه لفن الدرامة إذا ما قورن بالفنون الأخرى كالشعر والتصوير والقصص؟ من الواضح أن الدرامة فن، ولكن أي القيود نستطيع بها أن نحدد صفاته الخاصة التي تميزه عن الفنون الأخرى؟ ولقد يبدو هذا عند النظرة الأولى سهلاً ميسوراً ومطلباً هيناً لا عسر فيه ولا عناء، ولكن قليلاً من التفكير يكشف لنا عن الصعاب التي تواجهنا، وتقد يكون من الخير لنقدر دقة هذا المطلب العسير أن نرجع خطوة أو خطوات إلى الوراء فنمر سراعاً عاجلين بتلك المحاولات التي بذلها أقطاب هذا الفن في تاريخه الطويل ليجيبوا على هذا السؤال وليضعوا لفن الدرامة تعريفاً واضحاً وصريحاً.

من أولى النظريات التي وضعت في هذا الصدد ومن أكثرها ذيوعاً وانتشاراً، تلك النظرية التي نستطيع أن نسميها (نظرية التقليد) والمحاكاة. ولعل من الخير أن نذكرها في أبسط صورها كما جاءت في أقوال (شيشرون) الخطيب الروماني المعروف، فالدرامة عنده (نسخة للحياة، مرآة للعادات، انعكاس للحقيقة) وهذا التعريف، إذا صح أن نسميه كذلك، قال به كثير من النقاد المتعاقبين مئات من السنين، واتخذ أساساً لأبحاث فنية لا عد لها، خصوصاً في عصر النهضة (رنيسانس). بل لقد وجد حتى في العصور الأخيرة أنصاراً وأشياعاً لأنه يتمشى مع أغراض الكتاب الواقعيين (ريالست) في القرن التاسع عشر.

ومن أنصار هذه النظرية في تعريف الدرامة زولا الكاتب الفرنسي المعروف وبومارشيه رجل المسرح الشهير. ومن المقدمة التي وضعها الأول لروايته (تيريس راكوين) ومن كتاب الثاني عن الفن المسرحي نستطيع أن نستخلص الكثير من العبارات التي ندلل بها على أن المثل الأعلى للمسرح عند الاثنين أن يكون (مرآة الحقيقة وصورة مطابقة لما في الحياة)

فإذا أخذنا بهذا الرأي وبحرفيته قلنا أن الدرامة اقتباس من الحياة. وهذا معناه أن المؤلف المسرحي الحق يجب أن يضع نصب عينيه أن يكتب لنا مشاهد للمسرح تطابق قدر المستطاع ما يحدث في الحياة أو يمكن حدوثه فيها حتى لتجيء هذه المشاهد كالصور وخيالها في المرآة أو كالنسخ المتعددة المتطابقة للشيء الواحد. وتكون محاورات أبطال الرواية الأروع والأجمل إذا كانت تنقل لنا نفس الحديث، بل الكلمات والألفاظ للحوار الذي يقع بين الأحياء كما ينقله الحاكي دون نقص أو زيادة، ويكون اجمل ما في الرواية صدقها وأمانتها للحقيقة.

وإذا نظرنا إلى هذه الآراء في مجملها قد نغرى بأن نصدق أن ثمة ما يمكن أن يقال للدفاع عنها أو تأييدها، ولكن لو فكرنا قليلاً لتبين لنا زيفها وخطؤها. وبغض النظر عما إذا كان في مقدور المرء أن يعتبر أن المؤلف المسرحي ليس أكثر من حاكي يسجل ما يسمع وينقله حرفياً إلى المسرح، فإنه من السهل أن نتبين أن هذا المثل الأعلى للدرامة مستحيل لأن الرواية المسرحية لا يمكن أن تكون صورة مطابقة تمام المطابقة للحياة. وحتى إذا فرضنا أن المؤلف في أحد مشاهد روايته نقل نفس الألفاظ التي تحدث بها فعلاً الأشخاص الذين اتخذهم كنماذج لأبطاله، فإن الحقيقة الواقعة من أن هذا المشهد فصل عما سبقه أو تلاه من المشاهد الأخرى تجعله شيئاً صناعياً محضاً، أو بمعنى آخر تكسبه الصبغة الفنية. وإذا لم يستعين لمؤلف بالآلات الميكانيكية المسجلة للأصوات، فإنه لا يستطيع أن يطمع في نقل الحوار الذي دار في الحياة الحقة بألفاظه وحروفه وتفصيلاته نقلاً دقيقاً غاية الدقة لا تحريف فيه. فإذا كان المؤلف هو الذي خلق المشهد وخلق أبطاله، كما يحدث على الأغلب، لكان من السخف أن نتخيل أن هذا المشهد لو أنه حدث حقاً في الحياة، لتحدث هؤلاء الأبطال، لو أنهم أحياء من لحم ودم، بنفس هذه الكلمات ولدار بينهم هذا الحوار دون زيادة أو نقنص. فمطابقة الحياة في الدرامة شيء مستحيل ومطلب عسير فالريالزم الحق لا وجود له، ثم هو بعد ذلك ليس من عمل الفنان، لأنه ليس من الفن. ولم يكن في يوم من الأيام مطمح كبار الكتاب الخالدين بآثارهم المعروفة، ولا المثل الأعلى الذي حاولوا تحقيقه بأعماله وكتاباتهم ونحن إذا أخذنا بهذه النظرية في معناها الحرفي وحدودها الضيقة طرحنا من مكتبة الفن أحسن ما فيها من أعمال رجال الأدب والمسرح وألقينا بمخلفات أشيل وارستفان وشاكسبير وموليير وأندادهم طعمة للنار.

فإذا أردنا أن نتحرر من هذا الحرج وأن نأخذ هذه النظرية، نظرية التقليد أو المحاكاة، بمعنى أوسع وأرحب، كان لنا أن نعود إلى أرسططاليس الذي جعل أساس آرائه أن الفن في مجمله ينطوي على عنصر التقليد، وأظن أننا في غنى أن ندخل في بحث مستفيض في هذا الصدد وحسبنا أن نقول أن أرسططاليس قد ذكر أن التقليد هو أصدق تمثيل للحقيقة إلا في النادر القليل.

ومن المعروف أن النصوص التي وجدت ونسبت إلى الفيلسوف اليوناني القديم والتي يتحدث فيها عن فن التراجيديا والشعر القصصي اتخذت مرجعاً لرجال الفن ونقاده في شتى العصور وكانت لها مكانة القداسة في عصر النهضة وأطال مناقشتها وبحثها كثير من النقاد في العصر الحديث. ومن الخير أن نلم بهذا كله قدر المستطاع وهو ما سنحاوله في القريب العاجل إن شاء الله.

ونعود إلى بحثنا لنكرر ما قلناه في أسطر سلفت من أن نظرية التقليد وجدت في العصور الحديثة مشايعين وأنصاراً ولكن في معناها الشامل الرحب، وهناك فيكتور هوجو الذي قال في المقدمة التي وضعها لرواية كرمويل (لقد قيل إن الدرامة مرآة تنعكس فيها الطبيعة. ولكن إذا كانت هذه المرآة عادية، مسطحة لامعة، فإنها لا تقدم لنا إلا صورة ضئيلة للأشياء التي تعكسها دون أن تبرزها، صورة صادقة ولكن لا روح فيها، ومن المعروف أن اللون والضوء ينعدمان في الانعكاس البسيط. فالدرامة على ذلك يجب أن تكون مرآة تتركز فيها المرئيات، وبدلاً من أن تضعفها تجمع الأشعة وتكثفها وتطغى عليها قوة التركيز فتجعل من القبس شعاعاً، ومن الشعاع لهيباً وهاجاً، وبهذا وحده تستحق الدرامة أن تكون فناً له خطره وقيمته).

وهذه العبارة في وضوحها وقوتها لها أهميتها الكبرى فيما نحن بصدده، وتتمشى معها كلمة سارسيه من أكبر نقاد المسرح الفرنسي إذ (يقول إن الطبيعة المجردة على المسرح لا تثير اهتمام الجمهور بل تبدو له فضلاً عن ذلك مزيفة كاذبة). ويضيف (في رأيي أن الحقيقة إذا أظهرت على المسرح بصدق وأمانة بدت مزيفة للجمع الحاشد من المتفرجين. إننا نعد فن الدرامة الخلاصة التي تمثل الحياة على المسرح ونعطي الجمهور عن طريقها خيال الحق).

وقد لمس بعض النقاد في عصور متقدمة هذه الحقيقة ولكن في صورة غامضة مبهمة وذكرها هيدلين الناقد الكبير في قوله (إن المسرح لا يمثل الأشياء كما هي، بل كما يجب أن تكون) وشبيه بهذا ما يقوله جوته (إن من يعمل للمسرح عليه أن يدرسه، ويتفهمه حق الفهم، وأن يلم بتأثير المناظر المسرحية والإضاءة والألوان من نواحيها المختلفة، وليترك الطبيعة في مكانها اللائق بها)

وما نستطيع أن نلخص هذه النظرية بأصدق وأوجز مما لخصها به أحد كبار النقاد الذين يعتد بهم حيث قال: إن الدرامة ليست نسخة من الطبية ولكنها تقليد ومحاكاة لها) وإذا رجعنا إلى الآراء التي مررنا بها في هذا المقال لماماً وجدنا أن أجداها وأثمرها ذلك الذي يتحدث عن الدرامة كمرآة مركزة تجعل من القبس شعاعاً ومن الشعاع نوراً وهاجاً. وإنا لنلمس صدق هذا التحليل إذا ما درسنا الأعمال الفنية الخالدة، لأن الكاتب الموهوب، عندما يقتبس لمحة من الطبيعة، لا يقنع بعرضها مجردة من الروح والحياة، بل يسبغ عليها من وحي فنه وعبقريته ما يسمو بها إلى قمة الخلود ويجعل منها مشاهد قوية مثيرة تلهب الحواس والشعور وتصبغ العمل ذاته بالصبغة الفنية الحقة. وهذه إحدى خصائص الفنان الحق.