مجلة الرسالة/العدد 278/التعليم والمتعطلون في مصر
مجلة الرسالة/العدد 278/التعليم والمتعطلون في مصر
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
الثقة بين رجال التعليم
قبل أن يتناول بحثنا المدرسة المصرية الحالية، وما وقع في تكوينها من أخطاء، وما يجري بين جدرانها من نقائض وعيوب وما نقترحه في سبيل إصلاحها لتفي بالغرض من وجودها من مقترحات - لا بد لنا من التحدث إلى القارئ عن بعض الأمور الأساسية المتصلة بها اتصالا مباشراً لما لها من أثر فعال في تكوينها وتأثير قوي في كيانها. وهي أمور من الأهمية بحيث نرى أن من واجب طالب الإصلاح وضعها دائماً نصب عينيه، فرجال التعليم على اختلاف طبقاتهم يألمون أشد الألم مما يصيبهم من أذى وحرج بسبب ضعف الثقة بهم الذي تظهر آثاره من آن لآن، ويتردد صداه من وقت لآخر في كل مكان، ولكن لعل ذلك كله بدأ منا وانتهى إلينا، فكنا نحن مع الأسف الشديد السبب المباشر في وجوده والعاملين دائماً على استمراره
أن ضعف الثقة بين الرئيس والمرؤوس مسألة قديمة، وهي لم تقتصر على وزارة التعليم فحسب، بل انتشرت في جميع دواوين الحكومة المصرية، فأزعجت الموظفين وجعلتهم جميعاً يفرون من المسئوليات، ويلقون على غيرهم التبعات، وأفقدتهم التعاون والتضامن فتعطلت الأعمال وساءت الأحوال حتى نهض المثل السائر: يوم الحكومة بسنة، وأصبح معروفاً عند الخاص والعام. وكانت وزارة المعارف من أقدم الوزارات التي تمسكت بذلك وحرصت عليه حتى هان أمر كل مرءوس على رئيسه، وأصبح كل منهما يرى في الآخر عدواً يحاول اقتناصه والإيقاع به، وبرزت إلى الوجود بين المتحذلقين منهم مسألة الأوامر الكتابية، فكل كلمة تصدر عن رئيس لا تكون ذات قيمة إلا إذا كانت مكتوبة ممهورة بتوقيعه، وكثيراً ما رأينا أحد المدرسين يتحدى ناظر مدرسته بقوله: (أكتب إليَّ رسميا) فينزعج الناظر من ذلك ويخشى تلك الكتابة التي قد تجر عليه النكبات، إذ كثيراً ما أدت إلى الانقسامات بين صفوف المدرسين، والى الاضطرابات والارتباكات؛ وكثيراً ما قامت الوزارة وقعدت وأرسلت بمفتشيها لإجراء التحقيقات وتحديد المسئوليات كما يقولون، لذا نرى معظم نظار المدارس يعاملون المدرسين عندهم بكل حذر. بينما نرى بعض المدرس والمرءوسين يحصون على ناظرهم كل صغيرة وكبيرة، حتى إذا جد الجد وجاء دور التحقيق بينهم أبرزوا ما حوته مذكراتهم من حركات الناظر ومخالفاته شهوراً طويلة. فهل في جو مثل هذا الجو يمكن أن يطمئن والد على تربية ابنه وتثقيفه وتنشئته تنشئة خلقية فاضلة!
ظهر ضعف الثقة بين الرؤساء والمرؤوسين في قانون نظام المدارس العتيق المعمول به من قديم الزمن في مواضع عدة نذكر منها على سبيل المثال تحريمه على ناظر المدرسة أن يكاتب أية مصلحة أخرى إلا عن طريق الوزارة، فكان ناظر المدرسة بالفيوم مثلا الذي يرغب في مكاتبة مجلسها البلدي لزيارة التلاميذ وابور المياه أو وابور الثلج لا يمكن أن يفعل ذلك رسمياً إلا إذا كتب للوزارة بذلك، وهي في دورها تخاطب بلدية الفيوم. وناظر مدرسة قنا الذي يرغب في زيارة تلاميذه آثار الأقصر لا يستطيع ذلك إلا عن طريق الوزارة وهكذا. كذلك كان يحرم القانون على ناظر المدرسة تناول المدرسة طعام الغداء بين تلاميذه بالمدرسة من نفس الأصناف وبنفس الكميات التي يأكلونها حتى ولو كان ذلك على نفقته الخاصة حسب التعريفة المقررة، وذلك مخافة أن يحابيه طباخ المدرسة فيما يأكله من الطعام. في حين أن القانون إلى جانب ذلك يحرم على الناظر في موضع آخر مغادرة المدرسة أو تركها في أية لحظة من لحظات اليوم المدرسي لأي سبب من الأسباب حتى ولو كان لتناول طعام الغداء
وفي قانون نظام المدارس مادة أخرى تحرم على المدرس أن يعطي درساً خاصاً لتلميذ عنده في الفصل حتى ولو كان هذا التلميذ داخلاً في امتحان عام كامتحان البكالوريا أو الابتدائية بعيداً عن مدرسته وأساتذته. فإذا علمت أن هذا المدرس هو أعرف الناس بمواضع ضعف هذا التلميذ وهو أعلم طبيب بالطرق الناجعة لعلاجه لاتصاله المباشر به وإشرافه اليومي عليه وعلمه بعقليته وتعرفه لأسباب ضعفه تبينت مقدار تعنت المشرع في ذلك ومقدار عدم ثقته بالمدرس. لأن الذين نشأوا على هذا التشريع وقتلوه بحثا ًيعللون ذلك بأن المدرس ربما يتأثر بالعلاقة الجديدة التي تنشأ بينه وبين هذا التلميذ إذا سمح بإعطائه درساً خاصاً فيحابيه في أثناء الدرس العام أو يعمل على نجاحه آخر العام الدراسي إن كان ممن يمتحنون بالمدرسة، هذا بالرغم من أن أوراق امتحان النقل جميعها توضع عليها أرقام سرية لا تمكن أي مدرس من أن يعرف أوراق أي تلميذ، فعلام هذا التحوط وعلام كل هذا الخوف؟
أما الأرقام السرية في الامتحانات فحدث عنها وعن أهميتها ولا حرج، فقد كانت في بادئ الأمر توضع على جميع الأوراق التي يدون عليها التلاميذ إجابتهم في الامتحانات العامة كامتحان الشهادة الابتدائية وشهادة الدراسة الثانوية، ثم انتقلت عدواها إلى أوراق امتحان النقل في جميع مدارس التعليم العام في أنحاء المملكة المصرية بناء على قرار وزاري خاص فأصبحت هي السر الهائل من أسرار لجان الامتحان الذي إذا حاول أي إنسان كشفه لأي غرض كان نفسه لأشد العقوبات ولأعظم النكبات، ولا يتولاها من عرف بحفظه للأسرار وكتمانه لها كتماناً تاماً. ولكم وجدت لها ضحايا من رجال التعليم بين آن وآخر من الذين لا يعملون بإحكام على كتم مكنوناتها وصون أسرارها العتيدة. وبالرغم من نظر الرسميات لها هذه النظرة فهي في نظرنا اللطمة التي تصيب سنوياً صميم الثقة العامة برجال التعليم، وهي الصفة القوية المؤلمة التي يصفون بها جميعاً في كل عام مرتين من غير أن يعيروها أدنى اهتمام بعد أن اعتادوها ودرجوا عليها. ولكنهم لو تأملوها لأدركوا أن هذا التحيز الذي يتهمون به، وتلك المحاباة التي يرمون بها، ويخشى من أجلها على تلك الوريقات أو الشهادات التي يتسلمها الطلبة، والتي أصبحت اليوم تافهة القيمة لا تقدم الشخص في حياته ولا تؤخره، وأن تلك الروح المعقوته التي يوصفون بها - ما هي إلا لطخة في جبينهم لا يقرها إنصاف ولا عدل. بل هي نكبة من النكبات التي أصيبت بها الثقة العامة برجال التعليم يندى لها جبينهم وتحترق لها أفئدة المخلصين منهم على مدى الأيام، وسيظل الضمير العام لرجال التعليم متألماً، وسيظلون أبداً وراء صفوف الهيئات والطوائف الأخرى ومحل عدم اكتراثها، وستظل مصر مجافية لروح التجديد والإصلاح في تكوين ناشئتها ما دام هذا النوع من العمل قائماً؛ فهي الامتهان للكرامة بعينها والقضاء على الثقة بكامل معانيها، ولن تقوم لرجال التعليم قائمة إلى أن يتخلصوا من هذه الوصمة التي أصابت ضميرهم وصميم الثقة بهم. وإنها لبدعة دنلوب تحمل بين جنبيها التناقض الصريح في جعل المدرسين أنفسهم يمتحنون الطلبة الامتحان الشفوي في اللغات حيث يكون من السهل معرفة التلميذ للممتحن ومعرفة الممتحن للتلميذ. ومع كل ذلك فقد تمسكنا بها تمسكاً كبيراً وحافظنا عليها ونقلناها من الامتحانات العامة إلى أنواع الامتحانات جميعها؛ وقد غلونا فيها وعمدنا إلى تنظيمها وتعميمها حتى شملت جميع المدارس وبعض كليات الجامعة مع الأسف بعد أن كان الواحد منا قديماً يأخذ معه في منزله أوراق الطلبة فيصححها باطمئنان على مهل ثم يعيدها، كما يفعل القاضي بالقضايا، وكما يفعل المهندس بالمقايسات والرسوم المختلفة، وكما يفعل سائر الموظفين في باقي الأعمال الهامة التي لها مساس كبير بمصالح الجماهير، والتي بالرغم مما نسمعه كل يوم من ضبط المختلسين والمرتشين لم يفكر أحد قط في جعل البحث فيها سرياً كما يجري عندنا، حتى لقد أصبح المدرس الذي يقوم طول العام على تعرف عقلية تلميذه ومقدرته ليس فقط ممنوعا من إبداء رأيه في نقله من فرقة إلى أخرى، بل هو فوق ذلك متهم في أمانته، متهم في ذمته، متهم في أخلاقه، مصاب في كرامته، فهل يصح بعد انتزاع هذه الثقة الغالية منه أن يؤتمن على تكوين الفضيلة وبث الأخلاق الحسنة في تلاميذه وأبنائه!!. . .
اللهم أنها نقمة حلت بالتعليم وأهله نسألك أن تزيحها عنهم حتى تعود الثقة بالمعلمين الذين يصفهم الناس إلى اليوم بهتاناً وزوراً بأنهم ورثة الأنبياء، مع أنهم جردوهم من أثمن الفضائل وأغلاها ولقد كان لانتزاع الثقة العامة من رجال التعليم الأثر البالغ في رجال السلطة التعليمية العامة الذين ينتخبون من بينهم فضعفت الثقة بين المراقبين والمساعدين، وبين المساعدين والمفتشين، وبين المفتشين والنظار والمدرسين الخ. . . وأصبح الواحد منهم يخشى الآخر ويحذره ويعمل ما استطاع على الهرب من المسئولية وإلقائها كلما جد الجد على غيره، فأصيب الكثيرون منهم بالضعف والخور وفقدان الشخصية. وصار كل منهم يتلمس حرفية القانون فينفذها فقط مخافة أن يقال له يوماً إنه خالف القانون وصار كل تفكيره منصبا على ما هو مكلف به من غير أن يفكر في إصلاح أو تجديد، لأنه يرى بعيني رأسه أن المتحمسين للتجديد المندفعين في تياره بما جبلوا عليه من حب للعمل والغيرة عليه كثيراً ما ينالهم الأذى من وراء ذلك إذا وقعوا في أتفه مخالفة للقانون حتى ولو كانت تلك المخالفة في صالح العمل وتقتضيها مصلحته. ونتج عن ذلك نتيجتان وخيمتان:
أولاهما: الجمود الفكري الذي استحوذ على المدرس في فصله والناظر في مدرسته. حتى صار الواحد منهم لا يعبأ بمعرفة شيء عن أصول التربية الحديثة ومستلزماتها ولا يهتم بالتمشي مع أصولها خوف ما يقع عليه من المسئولية والأذى إذا حاول الشذوذ عما يرسم له بتطبيق نظرية حديثة أو فكرة جديدة، وأصبح لسان حال كل منهم يقول (لماذا أتعب نفسي وأهتم بأي شيء قد يجر على مالا تحمد عقباه؟ فما علي إلا أن أردد كل عام الدروس التي رددتها من قبل أو أن أعمل العمل الذي كنت أعمله في الأعوام السابقة في سبيل الحياة وأكل العيش)
وثانيتهما: إعدام التعاون بين أعضاء المجموعة الواحدة، كل يفكر في نفسه غير مبال بغيره حتى لقد يمر العام كله على مدرسين في مدرسة واحدة لا يعرف أحدهم اسم الآخر كما قد يمر العام على مدرسين في فصل واحد لا يتذاكرون شيئاً عن أحوال تلاميذهم أو أخلاقهم أو عقلياتهم. وليس هناك أمر من الأمور يعرض عمل أية مجموعة أو طائفة من الناس للخيبة كفقد رابطة التعاون والتضامن بينهم، وخصوصاً إذا كان ذلك بين جدران المدارس التي يجب أن يكون التعاون غرضاً من أغراضها الأساسية. فالمسألة أصبحت قاصرة على أن كل واحد منهم يعمل عمله المتكرر الممل المعاد سنة بعد سنة بدون تأمل في إصلاح ولا تفكير في تجديد وأنى لهؤلاء أن يبعثوا بملكة التأمل والتفكير في تلاميذهم إذا كانوا قد أصبحوا هم أبعد الناس عنها!!
عبد الحميد فهمي مطر