انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 276/بين الشرق والغرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 276/بين الشرق والغرب

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 10 - 1938



لباحث فاضل

قرأنا كما قرأ كثيرون غيرنا ما كتب في الرسالة في موضوع الغرب والشرق؛ تتبعنا مناظرات كثيرة لفئة من الكتاب منهم العرب وغير العرب. وهذا الموضوع ليس حديث العهد بالجدل والمناظرة، فلطالما قام التفاضلُ بين الشرق والغرب على أن التفاضل فيما مضى قد قام على أساس جغرافي في تقسيم العالم لأن لكلٍ مِن العالمين عادات وطبائع تباين الآخر ولقد اتسع مدى هذا التباين حتى ألبس العقلية في كل منهما مظهراً خاصاً تميزت به عن الآخر، فليس غريباً بعد هذا أن نجدَ مثل هذا الاختلاف ممثلاً في كثير من أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية. وما مظاهر الحياة وطقوسها في جميع بلدان العالم إلا صورة لشخصيات الشعوب التي نشأت فيها والتي اشتركت البيئة والتراث في تكوينها

على أن هذا الاختلاف وإن شمل مناحي الحياة المتعددة وألبس العقلية مظهراً خاصَّا بها فلا نعتقد بأنه اختلاف أساسي في العقلية؟ إذ من الواضح أن طبيعة العقلية قد استوت في قدرتها وقابليتها في أصل جميع الشعوب. وذلك الاختلاف الذي نرى أثرَه في منازع التفكير المتعددة يجب أن يرجع إلى بيئات تلك الشعوب والى المؤثرات التي قدِّر لكل شعب أن يتأثر بها. فمن سكن اليمن من العرب غير من سكن الأندلسَ منهم؛ فأوجه الحياة قد اختلفت فيما بينهما من أصلٍ واحد. فمن رجع إلى تراث الأندلسيين ثم نظر إلى تراث اليمنيين تبين له الفرق الشاسع في كلِّ شيء، أفيكون هذا الاختلاف داعيا إلى شطر العقلية إلى شطرين منها للأندلسي والناقصُ لليمني؟ ثم هل يعجز ساكنُ البادية عن مجاراة أعظم الأمم حضارة في كل شيء؟ إن هذا ليحملنا على تقرير الحقيقة وهي أنه ليس فرق أساسي بين طبيعة العقليات جميعاً. وعلى هذا فإن الصور الذهنية لكل شعب يغلب أن تكون مرآة للشكل المتكون من تفاعل خصائص ذلك الشعب التاريخية مع البيئة

أما القابلية العقلية والقدرة الفكرية فلا يحكم على مدى كل منها بمجرد النظر إلى طبيعتها في زمن واحدٍ وعصر منفرد. ذلك لأن العقلية تخضع كغيرها إلى مؤثرات تختلف قوة وضعفاً. ونصيب العقلية من كل ذلك أن تنزع في كثير من الظروف منازع شتى ت الأصل والطبيعة، فتراها تتلون بلون المؤثر إن ضعفت بالنسبة له، أو تراها تلون المؤثرَ إن قويت عليه، أو تراها تمتزج معه إن تعادلا منزعاً وقصداً وغاية. وهذه هي الحقيقة الواضحة التي نلمحها في ثقافات الشعوب المتعدَّدة

أتيتُ بهذه المقدمة لا لأبحث في نشوء العقليات وتطوِّرها فهذا أمرٌ لا قدرة عليه إلا لمن أوتي القدرة على تفهم ثقافات الأمم جميعاً وإرجاعها كلها إلى الصور العقلية والذهنية التي صدرت عنها وهذا بعيد على مَن يحاوله. ولكننا رغبنا أن نظهر ببساطة أن منازع التفكير لا تدعو إلى تفاصيل في العقلية، ثم هي بعد هذا لا تبيح للكاتب أن يفاضل بين الشرق والغرب فيقرّر حدوداً قاطعة بينهما لأن العقل لا يعرف الحدود القاطعة الحاسمة

وقد درَج الكتاب على تقرير عقلية للشرق وأخرى للغرب؛ وذهب بعضهم إلى أبعد من هذا فقرروا طبيعة كل من هاتين العقليتين وأن الواحدة منهما لا تقبل إلا المظهر الفلاني ولا تتلون إلا بلون خاص. وهم بقياس المظاهر الفكرية لهذه العقليات قد طبقوا هذا القياس نفسه على الشعوب فتفاضلت بسبب ذلك

هذه ملاحظة أساسية استخلصتها من بحث للدكتور إسماعيل أدهم في موضوع الشرق والغرب المنشور في الرسالة (259، 260) ولست أقصد في هذه الكلمة أن أناظِرَ الكاتب في هذا المبحث فإن الوصول إلى حد حاسم في هذا الشأن بعيد الوقوع. ولكن بعض الحقائق التي تضمنها بحثه المذكور تفتقر إلى تدقيق؛ ثم هو بعد هذا لم يشأ أن يستند في النتيجة التي توصل إليها إلى الحقائق التاريخية فأورد بعضها ونسى أو تناسى الآخر. ولقد أحسن الدكتور صنعاً في أن دعا إلى مناقشة ما أتى به. ولا زلنا نرغب معه في أن تجلو الأقلام كثيراً من الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع فننصف الشرقي والغربي وننصف معهما الفكر العربي من كثير مما أصابه وهذا مما لا يرتكز على حقيقة

(أولاً) تحديد لفظي الشرق والغرب، فقد حرنا حقيقة في جلاء ما قصده الكاتب في هذين اللفظين. فهو تارة لا يرجعه إلى أساس جغرافي في تقسيم العالم إلى بلدان في قوله (إن ما نعنيه بإصلاح الشرق والغرب لا يقوم على تقسيم العالم من شرق وغرب في تقويم البلدان) ثم نراه مرة أخرى يقف عند هذا الحد فلا يظهر لنا ما عناه بهذا المصطلح فيقول (إنما ترجع التفرقة عندنا إلى ما نلمسه من طابع ذهني للغرب ومنزع ثقافي للشرق) وبعد هذا تبقى كلمتا الشرق والغرب مجهولتي المعنى والتحديد. على أننا مع هذا نستطيع أن نبين ما رمى إليه الكاتب من وراء هذا المصطلح وإن جاء ذلك متداخلاً مضطرباً.

فعلى فرض أن (الغرب) مصطلح علمي يدل على شيء أو أشياء معينة فقد أراد أن يثبت بأن ما يدل عليه هذا اللفظ إن هو إلا العقل الحر الذي لا يتقيد بالروحانيات وما إليها، في قوله: (إن في الشرق استسلاماً محضاً للغيب وفي الغرب نضالاً محضاً مع قوى الغيب)

ثم إن الغرب يعني العقل المتفلسف لأنه (يبدأ من عالم الغيب وينتهي للعالم المنظور. والغرب بعد هذا يعني العقلية العلمية التي (تأخذ بأساليب الاستقراء والمشاهدة إلى جانب أسلوب الاستنتاج والنظر) والغرب يعني أيضاً (تحكم العقل في محاولة تنظيم الصلات بين أفراد المجموع البشري)

وأخيراً فإن الإنسان في نظر الغربي) قادر على تغيير المقدر له عن طريق معرفة النواميس المحكمة في وجوده)

وأما الخالق (الذي خلق هذا الإنسان) فهو مقيد بهذه السنن والنواميس، وإرادته (أي الخالق) مقيدة بنظام هذا الكون وأفعاله قائمة على عنصر اللزوم والاضطرار)

في مطلع الشرق قد أدرج ما يعكس مدلول الغرب؛ فله العقل المقيد بالعقيدة، وله الجمود الفكري (في أن تكون العصور الوسطى صورة من الصور الشرقية). والعصور الوسطى هي عصور مظلمة عمت فيها الفوضى في مهامه الجهل

إلى هنا أحسن الكاتب صنعاً. ولو أنه لم يتعد مدلول هاتين اللفظين كما (تصورناه) لكان بحثه (بحق) أوفي ما يكتب في بحث مظاهر العقليات. ولكنه رغب في قرارة نفسه أن يتعدى هذا المدلول وأن يكشف عن نياته الصادقات عن الشرق والغرب فتراه أكسب العقليات الصفة الشعبية. فاليونان من الغرب؛ وكذا أهل أوربا في عصور النهضة والنشاط الفكري. أما أوربا في غير تلك العصور فليست من الغرب. فهي في عصر النور غربية وفي عصر الظلام شرقية مع أن الشعوب التي سكنتها في كل من العصرين لم تختلف في عنصرها ولا في جنسها.

والعرب كذلك (في رأيه) عقليتهم العلمية ترجع للغرب لأنهم أخذوا أصولها عن فلاسفة اليونان، أما روحانيتهم فهي للشرق لأن الشرق منبع الأديان وكل ما فيها روحاني الطبيعة والمظهر. وسبب هذا التباين الذي اعتبره أساسياً أن العقلية الشرقية ابتدأت بالاعتقاد إلى خالق ثم انتهت بالطبيعة. والعقلية الغربية بدأت بالطبيعة وانتهت في الخالق، ثم هو لا يوضح متى بدأت كل من العقليتين الأولى في اعتقادها بالخالق، والثانية في بحثها عنه عن طريق الطبيعة. ونحن لا نطالبه بهذا الإيضاح، فالثابت الذي لاشك فيه أن الغرب قد سبق الشرق في كلتا الناحيتين وما كان الغرب إلا مقلداً لها ومتأثراً بسببها.

ولنعد الآن إلى ما جاء في البحث المذكور الذي أوردناه أهم النقط التي تضمنها فيما مضى من السطور لتسهل مناقشتها.

(ثانياً) إذا كان الأساس العلمي هو المقياس لتفاضل العقليتين، وإذا كان البحث في نواميس الطبيعة والكون من المظاهر العلمية للعقل، فهل للفاضل الكاتب أن يقرر لنا متى بدأ يتحسن الخالق في سر مخلوقاته. أهو الشرقي مصرياً كان أو آشورياً أو كلدانياً أو عربياً أم بدأ به اليونانيون والرومان والسكسون؟

إن العقلية اليونانية التي ادعى الكاتب أنها أصل البحث العلمي الذي أخذ عنه فلاسفة الإسلام، هذه العقلية هل انفردت عن غيرها من العقليات المعاصرة أو السابقة في نهج الأسلوب العلمي؟ وهل يعتقد أحد بأن من قيمة العقل العلمي المتفلسف أن يقف عند حد المنطق في وضع أصول الشك ولا يتعدى تطبيق هذه الأصول على حقيقة الوجود كي ينتهي إلى الخالق؟ ثم نواميس الكون وسنن الوجود التي توصل إليها اليونانيون بأي خالق ربطت وعلقت؟ هل الجانب العلمي الذي أخذه العرب عن اليونان انتهى إلى الحد الذي انتهى إليه اليونانيون في تقريرهم بأن عشرات الآلهة تحكم عالمهم، وأن هذه الآلهة تموت وتحيا وتقتل؟ أم أن ذلك الجانب العلمي هو أن تكون الأسطورة ديناً لهم كما كانت إلياذة هوميروس دينا لليونان قروناً طويلة؟

إذا كان الشرقي قد أدخل العنصر الروحي في تقرير المعاملات بين الناس فهل يتنافى هذا مع العقل السليم؟ وهل يتهم بعد ذلك بأنه قاصر ونحن نعلم علم اليقين بأن الشرقي في اعتقاده الروحاني قد اتسع أفق تفكيره فشمل عالمين بينما قصر غيره عن ذلك فانتهوا عند حدود عالم واحد أخطئوا حتى في تحديده؟

لقد نظر إخناتون في مصر إلى العالم الذي أحاط به فرأى أن لا بد لنواميس الكون من مدبر فنادى بالتوحيد، وكان إيماناً جميلاً أن يبدأ ملك (كان ينتظر أن تسيطر أبهة الملك المادية على قوى تفكيره) بالطبيعة وينتهي للخالق

ونظر إبراهيم إلى الكواكب وكان قومه يعبدونها فرآها تأفل فشك في أن تكون رباً له، وكان شكه داعياً لإيمانه فقال في ذلك تعالى: (فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين)

ونظر الأعرابي في الصحراء إلى ما أحاط به من شمس وقمر ونجوم فداخله الشك (وهو الساذج) في أن تكون معبوده وإلهه، أو تكون مطلقة التصرف في شئون نفسها. وهذه الشمس، وهذه النجوم تغرب، وها قوم يموتون فلا يعودون. فمن يطلع الشمس ويغربها، ومن يسطع النجوم ويعزبها، ومن يذهب بأولئك فلا يعيدهم؟ أذلك الصنم في معبد الأعرابي؟ أم تلك الأسطورة عن زفس وأبلون في مخيلة اليونان؟

هذا الشك بدأ في الشرق وانتهى أهلوه إلى الخالق عن هذا الطريق. فأصول الشك وجدت في الشرق قبل أن يعلمها الغرب بآلاف السنين. وهذا الشك كان أهم الأسس التي قامت عليها النهضة الأوربية الحديثة. وبعد هذا فما الشرق وما الغرب؟ ومن صاحب الخالق الواحد، ومن صاحب الآلهة التي تقتتل؟ وأين العقلية العلمية بينهما؟

(البقية في العدد القادم)

(* * *)