انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 276/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 276/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 10 - 1938



عرض وتحليل

هكذا أغني

للشاعر محمود حسن إسماعيل

بقلم الأستاذ إسماعيل كامل

عندما أخرج الشاعر الأديب محمود حسن إسماعيل ديوانه (أغاني الكوخ) وكان لي حظ الاشتراك في حفلة تكريمه كان أهم ما دارت حوله كلمتي التكريمية أن الشاعر صادق الحس مشبوب العاطفة قوي الإيمان ينتزع الأخيلة من أطواء وجدانه في غير افتعال أو تعمل، وأنه يمثل الريفي المؤمن الصادق الأحاسيس الذي يقبس من جلال المناظر الطبيعية خير ما تختلج به نفسه الجياشة بحب كل ما هو طبيعي لا أثر للصنعة الزائفة فيه

وأخيراً جاء ديوانه الثاني (هكذا أغني) صورة صادقة تؤيد ما ذهبت إليه في كلمتي الأولى وتعزز تلك النظرة الصائبة التي لم تخب فيما خرجت به من دراسة شاعر الشباب النابغة

وأنا في هذا البحث العاجل أحب أن أنتزع من الديوان الأخير صوراً فاتنة تؤيد ما ذهبت إليه يوم قام الأدباء من الشباب يحتفلون بذلك القبس الباهر الذي كشف عن درر الشاعر الفذ

ميزة تفرد بها الشاعر محمود ولم يجر فيها على منوال كثير من شعراء كل مناسبة يأتي من ورائها الغنم والفائدة! تلك ميزة الوفاء لنفسه والإخلاص لمشاعره والاعتداد بشعره؛ فلم يكن يوماً بوقاً للظروف أو أداة للملابسات، بل ظل الشاعر الرفيع الإحساس المترفع بشعره أن يتلمس جوانب النفع ووجوه الاستغلال أينما ساقتهما الأقدار أو دفعت بهما الرياح وفي ذلك يقول الشاعر لمليكه:

للشاعرين بلاغة فضفاضة ... حشدت بلفظ في الحلوق مجلجل

وأنا الذي شعري نفاثة مهجتي ... سكبت جداولها بهمس السنبل

يوم الفخار سنلتقي. . . أنت العلا ... وأنا الصدى في ظل عرشك! فأصغ لي

أنظر إلى محمود الشاعر الريفي الذي يلوذ بأذيال الخمائل يقتطف منها شذا الزهور، ولحون الطير، ونور الصباح، وعبير الضحى، لتعينه على الهتاف للمليك إن عاونته تلك العوامل كلها على أن ينتمي لبلابل الخلد السواجع

وانظر إلى ذلك الشادي من أين يقبس قريضه. . من الطبيعة الوارفة ومن الأيمان الصادق:

شاديك من قصب الفرادس غايهُ ... ومن السنا والطيب عُل عناؤه

ومن الصَّبا نهلتْ حلالَ أراكةٍ ... سجواَء، نافجها غفت أنداؤه

ومن الطفاوة في أصيل خاشع ... سجدت على زهر الربا أضواؤه

ومن المساجد هينمت تحت الدجى ... صوفيُّها سجدت على زهر الربا أضواءه

ومن الشعاع المستهام بقبلة ... في النيل طهرها هوَاه وماؤه

ومن السنا الرقراق في قدح الضحى ... أغرى النديم فولولت صهباؤه

وشاعرنا كثير التبرم بالقلوب الغوادر وما جبل عليه الناس من فضول وتهاتر، ولكنه يرتد ساخراً هازئاً لاعتداده بنفسه، وعرفانه بقيمته وبفيض من حنانه على (الغراب) قسيمه في الحظوظ وصاحبه في الجدود وقرينه في تحامل الناس الظالم دون إثم يبرره:

وأنت - كمثلي - هارب من فضولهم ... جوابك للأكوان: إني ساخر!

فدعهم يلوكون الحديث، وأصغ لي ... فما منهم للسمع إلا التهاتر

سلاماً قسيمي في الحظوظ. . وصاحبي ... وقد أرخصت عهدي القلوب النوادر

عشقتك منذ النخل مد ظلاله ... عليَّ تغاديني وبه وتباكر

ويكاد يتفرد الشاعر محمود بقوته الهادرة وفتوته الفائزة في كل ما يقرض من النظم حتى حين يتحدث إلى موسيقى النقوش

ابعثي اللحن يدَّوي ... كيفما شئت وشاء

لن ترىْ في الأرض سمعاً ... يشتهي هذا الفناء

غير سجعي فهو من دن ... ياه في دنيا فناء

لكنه كغيره من الشباب إذا أحب وعف واعترضت العقبات سبيله راح يتفجع ويتوجع وإن كان لا يسف إلى درك التوسل والاستعطاف، بل يهدد وبتوعد. . يهدد بالجنون والانتحار والفناء

وانظري جذوة الهوى في خيالي ... وشحوب الفناء في نظراتي وتهاويل من بقايا جنون ... خلفتها الأحزان فوق سماتي

وبريقاً من الشباب المولى ... كهشيم الريحان فوق الرفات

منية أزهقت وأخرى تعايا ... والبقايا في الصدر منتحرات

أسرعي قبلما تغيب الأماني ... في دخان الهموم والحسرات

وتصيرين في الهوى قصة الغد ... ر وأسطورة على نغماتي

أسرعي قبل أن تموت الأغاني ... فتناجيك، بعدها مرثياتي!

وما أحسب الشاعر ينتوي ما يهدد به ولكنه يتوعد حبيبه بشر ما ترتاع له النفوس حتى ينطلق من محبسه ويثور على أغلاله وإلا ما قال بعدئذ:

حجبوك عن نظري وخلوا مهجة ... حيرى يجرعها الهوى أتراحه

وأنا الذي سأظل باسمك هاتفاً ... حتى يمد الموت نحويّ راحه!

حجبوك هل حجبوا نفاثة عاشق ... أضرى الغرام جلاده وكفاحه؟

متولع بهواك ما أغرى به ... بينٌ ولا فلَّ الفراق سلاحه

وهو ليس دائم الشكوى والنواح بل طالما ركن إلى الصمت القاتل وكبت مشاعره حتى لا يستذله الضعف وبعد أن صدف الناس عن الشكوى وتغافلوا عن الشاكين:

والناس. . لا ناس إذا خلجت ... عيني. . كأني في الحياة عَمِ

صدفوا عن الشكوى فلا أذن ... تصغي لما رتلت من نغم

حسبوا أنين القلب فلسفة ... عبثت بها أنشودة القلم

فتغالوا عني ولو علموا ... شربوا صباب الدمع من ألمي

أنت عاتبت على الصمت. . . فاسمع ... نغمات الجراح تحت الجنوب

أنا همس يموت في قلب ناي ... نبذته الرياح خلف الكثيب

أنا صمت الكهوف يهتز للوحي ... إذا هل في السكون الرهيب

وقصارى ما يقال في شاعرنا الفذ أنه ينتزع مادته في جميع الاتجاهات والأوضاع من الطبيعة الساحرة في صمتها وشجوها وتغريدها لا من التأثر الدراسي أو الاطلاع الفردي وحدهما، بل إنني كنت مع بعض الواهمين قبل أن أعرفه في أنه قد قبس كثيراً من معانيه البكر من شعراء الفرنجة الطبيعيين أمثال وردثورت وشيلي وبيرون.

وشاعرنا قد جمع في وثبته بين القديم والجديد: فهو يمثل جزالة الشعر العربي الرصين وقوة أسلوبه ومتانة بنائه، كما يمثل الجديد في سلاسة معانيه، وطرافة موضوعاته وحداثة مراميه، فكان وسطاً حبيباً بين العهدين، وروحاً فياضة بين الجيلين وعلماً فرداً في توسط الاتجاهين.

وهو نسيج وحده في أغلب الموضوعات التي يطرقها لا يشبه فيها شاعر اللهم إلا في الموضوعات الاجتماعية التي يظهر فيها تأثير البيئة الواحدة في جميع الأقلام، وفي هذا يمثل الشاعر بيته وما يعتمل في أطوائها وما يشيع في أجوائها خير تمثيل.

وقبل أن أختتم كلمتي العاجلة أود أن ألمس المدى الذي بلغه الشاعر في ديوانه الأخير والخطوة الواسعة التي خطاها في أغانيه الأخيرة بعد أن انقضت أعوام ثلاثة على ديوانه الأول (أغاني الكوخ)

إن من قرأ للشاعر في ديوانه الأول حديثه الفطري عن (حاملة الجرة) ثم يقرأ قصيدة الرائعة عن (الغراب) في ديوانه الأخير يلمس عمق التأمل وغور الاستيعاب الوافدين على شعره الجديد وقد أضفيا على قريضه القوة والمضاء. كذلك يلمس القارئ في ديوان الشاعر الأخير مدى توسعه في الموضوعات الاجتماعية وشبوب عاطفته في الناحية الغزلية، وذلك الطهر الذي يهيمن على مشاعره

وليس ثمة ما أعيبه على الشاعر غير تلك الرهبنة وذلك المذهب الكنسي الذي يصبغ أكثر قصائده، ولكن العارف المشرف على حياة الشاعر والدارس لبيئة لا يعجب لتلك القوة المسيطرة عليه فقد أخذت على الشاعر الصديق في حديث لي معه هذا المنحى الغالب على تأملاته؛ ولكنني عرفت أن في بلدته (النخيلة) تنهض الكنيسة على كثب من المسجد ويبعثان في النفس الطاهرة رهبة الإيمان والتقديس

فإذا أضفنا إلى ذلك نشأة الشاعر الريفية الساذجة أدركنا عمق التأثير الشخصي إلى جانب التأثير العام فيما يصدر من القريض

وليس للشاعر محمود نوع خاص من الفلسفة، فهو يرى الفلسفة في ذلك التأمل العميق في أسرار الحياة أينما وقعت عليها العين الفاحصة والشعور الملهم

بقي أن أقول صراحة إن ديوانه الأول (أغاني الكوخ) كان يمثل الفن الرفيع وحده، فلم يقحم فيه الشاعر تلك المراثي التي حشدها في ديوانه الأخير، أو تلك السياسات التي اندفع فيها نتيجة لشعوره مهما كان صدق هذا الشعور، فما هي بالموضوعات التي تجمع بين دفتي ديوان لتبقى مدى الأحقاب والأيام

إسماعيل كامل