انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 273/الدين والأخلاق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 273/الدين والأخلاق

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 09 - 1938



بين الجديد والقديم

لأحد أساطين الأدب الحديث

- 6 -

لا يدهش أحد إذا عددنا ما يسمى نزعة التجديد نزعة رجعية في أولها، فقد أوضحت أنها في مبادئها كانت رجوعاً إلى مبادئ الشعر العربي القديم من قلة تكلف الصناعة، ومن نظم الشعر بالعاطفة أو ذكري العاطفة بدل نظمه تعمداً بالصنعة، ومن البحث في خواطر النفس وشجونها وأشجانها والتعبير عنها بدل تنميق المعاني المتفق عليها. فلا شك أن شعر الجاهليين وشعر شعراء صدر الإسلام كان أكثر نصيباً من هذه المبادئ من شعر الدولة العباسية، وإن كان لشعر الدولة العباسية روعة وفيه قوة، ولكن أروعه وأقواه ما قارب طريقة الأقدمين وكان أقل تعملاً في الصنعة، أو ما كانت صنعته أشبه بالطبيعة.

ولا يدهش أحداً إذا وجدنا أن هذه المبادئ يتفق فيها الشعر العربي القديم والشعر الأوربي الصحيح السليم، وأن الصناعات الغريبة في الشعر الأوربي ما ظهرت إلا في عصرنا هذا؛ ولكن كثيراً من أدبائنا الذين لا يعرفون اللغات يحكمون على الشعر الأوربي بشعر شعراء الرمزية أو شعراء الوعي الباطني وأمثالهم، وهي طوائف حديثة في أوربا كما هي حديثة في مصر، ويغر أدبائنا ما يقع فيه بعض المطلعين على الأدب الأوربي من النقل الحرفي لأساليب الكلام والمصطلحات، ولكل لغة خصائص في المصطلحات وأساليب الكلام إذا نقلت نقلاً حرفياً إلى لغة أخرى عدت معاني سخيفة. ومن هنا نشأت فكرة من يقول إن معاني وأخيلة الأدب الأوربي لا تتفق والذوق العربي.

ولكن مما لا شك فيه أنه بالرغم من اختلاف خصائص العربية والإفرنجية، فإن الشعر الأوربي قبل أطواره الحديثة كان في مبادئه الأساسية قريباً من الشعر العربي القديم قبل غلبة الصناعة عليه غلبة قضت على تلك المبادئ.

ولا يدهش أحد إذا قلت إن كل نهضة تجديد دخلت الأدب والشعر العربي حديثاً كانت نزعة رجعية؛ فنهضة البارودي وشوقي وحافظ وحفني ناصف ومطران (في شعره الحديث) كانت أيضاً نهضة رجعية بدأها الساعاتي وقواها البارودي ومن أتى بعده؛ وهي كانت نهضة رجعية لأنهم رجعوا بالشعر عن طريقة البهاء زهير وابن الفارض والبستي وابن نباتة المصري وابن النحاس وخليل الصفدي: طريقة الجناس الغالب والنكات، إلى طريقة الصنعة العالية القوية صنعة مسلم بن الوليد وأبي تمام وإضرابهما. وترى هذه الرجعية ظاهرة في شعر شوقي أعظم ظهور، فقد بدأ بمدح البهاء زهير في مقدمة الطبعة الأولى القديمة من الشوقيات وأسرف في مدحه. وترى شعر شوقي في صباه مما أثبته في الطبعة القديمة بعضه أشبه بشعر المتأخرين، وأظن أنه حذفه ولم يثبته في الطبعة الحديثة؛ ثم صار شعره يقترب من نسق فطاحل الدولة العباسية أمثال مسلم وأبي تمام والبحتري.

وكان منتهى أرب الشاعر قبل نهضة البارودي وشوقي وحافظ أن يكثر من الجناس وأنواع البديع حتى ليقال إن أحدهم أفنى عمره في صنع قصيدة بديعية كبيرة شحنها بما يقرأ طرداً وعكساً، وما يقرأ من أسفل ومن أعلى، وبالجناس وأنواعه، وأشباهه من المحسنات، فاحتال عليه أصدقاؤه وسرقوها منه فمات كمداً وراح ضحية الطرد والعكس وصريع الجناس. وكان الأدباء إذا أرادوا إن يستجيدوا بيتاً أنشدوا بيت ابن نباتة المصري، ولا أذكر كلماته بالضبط، ولكنه يمدح سلطان مدينة حماه في الشام فيقول: إن (حماه) (المدينة) علمتهم نعمى الممدوح حتى غدا كل منهم يحب (حماته) (أي أم زوجه). هذه هي (مفارقات) النكات العامية المصرية التي كانت تطرب الأدباء. أو قول البهاء زهير لمعشوقته إنه دعاها (ست) أي سيدة، لأنها ملكت جهاته (الست).

فرجوع البارودي وشوقي وحافظ إلى عصر أقدم من هذا العصر لا بد أن يسمى رجعية، وليست كل رجعية ذميمة.

والنزعة الحديثة إلى التجديد هي في الحقيقة تكملة النزعة الرجعية التي نشطها البارودي، فكانت نزعة التجديد نزعة تفضيل (مبادئ) الشعر العربي الأقدم من العباسي ومن العباسي ما يقارب ذلك الشعر. وقد شرحنا تلك المبادئ. والذي غطى على هذه الحقيقة أثر الأدب الأوربي، وفتحه أبواباً جديدة من أبواب القول، وشده أزر الخيال والفكر. وغطى على الحقيقة أكثر من كل ذلك تشعب نزعة التجديد إلى فروع جديدة بعيدة كالرمزية وغيرها.

ولكنا إذا نظرنا إلى هذه الفروع وجدنا أن كلاً منها مغالاة في مبدأ من تلك المبادئ كما فصلنا في المقال السابق؛ فالذين يريدون تغليب الوعي الباطن مثلاً إنما تفرعوا من مبدأ جعل الشعر بحثاً في صفات النفس وخواطرها وشجونها وأشجانها بدل ترديد معانٍ متفق ومصطلح عليها. ولا شك أن شعراء الجاهلية وصدر الإسلام كانوا ينظمون بالعاطفة أكثر من شعراء الدولة العباسية. ومعنى النظم بالعاطفة البحث في شجون النفس وأشجانها، فهذه الطائفة في نشأتها كانت رجوعاً إلى طريقة الشعر القديم، وإن كانت قد غالت محاكاة للنزعات الحديثة في الأدب الأوربي العصري. وبهذه الطريقة نستطيع أن نرد كل طائفة من طوائف وفروع نزعة التجديد إلى أصلين: أصل في الأدب العربي القديم غالت فيه، وأصل من محاكاة النزعات الحديثة في الأدب الأوربي العصري. فإذا تتبع الأستاذ الغمراوي الأسباب والعوامل التي أثرت في الأدب العربي الحديث وجد أنه لم تكن هناك مؤامرة على الدين والفضيلة نشأت عنها النزعة إلى التجديد؛ فإن تتبع الحوادث يُظْهِرُ كيف أن بعض أدباء المذهب القديم يقلبون (النتيجة) العارضة الثانوية المحدودة وهي الشذوذ والشطط فيجعلونها (سبب) نهضة التجديد كلها؛ وقد أوضحنا أن الشذوذ والشطط موجودان في كل عصر ومذهب وذكرنا شواهد وأمثلة.

وإذا نظرنا في تاريخ النزعات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والأدبية وجدنا أنها كانت مصحوبة كلها أو أكثرها بشيء من الشطط؛ وهذا الشطط إما أن يكون متعمداً لمحاربة الجمود أو الوقوف، أو غير متعمد، بل تندفع إليه بعض النفوس قهراً. وقد لا يعرف الشطط ولا يميز من غير الشطط إلا بعد عصور طويلة تمحص فيها الأمور. ولو أن كل نزعة من النزعات البشرية رفضت كلها بسبب ما يصحبها من الشطط ما تغيرت الإنسانية. ومن الحقائق الثابتة أن بعض الخاصة كانوا في كل نزعة تجديد يخلطون بين مبادئ النزعة ومظاهرها؛ وبين ما يصحبها من الشطط، حتى كانوا يحسبون أن الجنس البشري مقضي عليه بسبب تلك النزعة. فالنزعة إلى الديمقراطية في أوربا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر كانت مصحوبة بالشطط. وحسب بعض الخاصة أنه سيقضى على الإنسانية، وأن القيود والشرائع الاجتماعية مقضي عليها بالاضمحلال، فرفضوا النزعة بأجمعها بدل رفض الشطط وحده. وهذا هو ما حدث في نزعة الإصلاح الديني في أوربا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أو ما حدث في النزعة إلى تحرير الرقيق في أمريكا. ولعل الشطط الذي كان في رفض النزعة كلها كان يغفر الشطط الذي يصحبها ويهون أمره في نفوس أنصارها ويساعد على نجاحها.

ومما يشاهد أيضاً في حياة الأمم أن الفساد الكثير المألوف قد لا يثير من التسخط قدر ما يثيره الفساد القليل غير المألوف، وإن كان الأول أوخم عاقبة وأكثر ضرراً. والنوع الأول من الفساد هو كما في الأدب العربي من مجون وإباحية صقلهما الدهر واعتادهما القراء حتى صارا لا يثيران تسخطاً بل يُنْظَرُ إليهما كما يَنْظُرُ الأب إلى ابنه الكثير الدعابة واللعب فيلومه ولكنه يحن إليه ويعطف عليه وتزيده دعابته ولعبه حباً له.

ومن المشاهد أيضاً أن الأديب أو المفكر قد يدافع عن مذهب وهو يعمل على هدمه من غير عمد، أو يعمل على الأقل لإذاعة نقيضه بمؤلفاته وهو في بعضها يعمل لنقيض هذا النقيض. فشوقي الذي أطرى البهاء زهير في مقدمة الطبعة القديمة من الشوقيات، هو شوقي الذي عمل بشعره المتين الأخير للقضاء على طريقة البهاء زهير وإضرابه. والرافعي الذي يروج أشد مذاهب الأدب الأوربي الحديث تطرفاً وهو مبدأ الرمزية من غير قصد بتأليف (حديث القمر)، هو الرافعي الذي ينتقد الأدب الأوربي أشد انتقاد في مقالاته. وكم من أديب قريب العهد بالأدب لولا بعض كتب الرافعي ما احتذى هذا المذهب فيما كتب.

فالعقل أو الوعي الباطن قد يُمَوِّهُ على العقل الظاهر الناقد. أليس في بعض شعر الصوفيين من شعراء اللغة العربية شهوة مكتومة يبوح بها العقل الباطن بالرغم من صرف العقل الظاهر معناها إلى الذات الإلهية؟ وهذا مع أن أوصاف المحبوب لا تشير إلا إلى إنسان جميل وإن القول شهوة محض.

ولعل الأستاذ قد قرأ وصف النابغة الذبياني للمتجردة زوجة النعمان واطلع على ما فيها من وصف عورة المرأة وما هو أشد من أشد من وصف عورتها في قوله (وإذا. . . وإذا). نعم إن النابغة شاعر جاهلي، ولكن استشهاد الأفاضل الإجلاء من شيوخ الأدب والعلم بهذا الوصف ونشره في الكتب التي يعدونها للقراء ومنهم الفتيان والفتيات، يدل على أن العقل الناقد فيهم قدْسها عن أن هذا الوصف يخالف العرف والتقاليد والآداب الإسلامية.

وهؤلاء الأفاضل هم الذين يسخطون على وصف الغواني في لباس البحر وصفاً لا يبلغ مبلغ وصف العورة والفجر كما فعل النابغة وكما فعل كثير من أدباء العرب في العصور المختلفة احتذاء للنابغة حتى في عبارات وصفه.

على أن رجوع نزعة التجديد إلى طريقة النظم بالعاطفة أو بذكرى العاطفة، ومحاولة الإقلال من المغالاة بالصنعة العباسية ليس من جهل بفضل الأدب العربي في العصر العباسي، ولا من جهل بفطاحل شعرائه وأدبائه، ولكن هؤلاء الشعراء شغلوا بمدح الخلفاء والأمراء ووضعوا لهذا المدح أوضاعاً. وإذا قرأت أجزاء مختارات البارودي هالك نصيب باب المديح من تلك الأجزاء الأربعة، وهالك تردد المعاني في ذلك الباب؛ وهذا معنى ما أشير إليه من جمود المعاني والموضوعات وغلبة الصنعة على العاطفة النفسية، وذلك لا ينفي أن نصيب هذا العصر من التفكير وحرية القول كان عظيماً. ومما يؤسف له أن حرية القول كان أكثرها في المجون إلا عند بعض المفكرين من الشعراء. ولا ينفى أن تلك الصنعة التي ما لبثت أن تحجرت في أوضاع المديح كانت في أول أمرها تجديداً، ولكنها في المتأخرين ضاع التجديد فيها وتدلت إما إلى محاكاة عبارات ومعاني السابقين، وإما إلى ما رأينا من النكات اللفظية والجناس وأشباه من الأمور التي استغنى بها حتى عن روعة الأسلوب وفخامته، إلى أن جاء البارودي وحافظ وشوقي فعادوا إلى محاكاة أفخم أساليب العصر العباسي الأول. ثم جاءت نزعة المذهب الجديد وحاولت إحداث شيء من التجديد في أبواب القول ومعانيه وأخيلته، وفي طريقة بحثه للموضوعات بالرجوع إلى خواطر النفس وأحاسيسها. فإذا كان بعض أدبائها قد وصف في الأحابين خواطر لا يصح وصفها، فإنه أمر عارض لا يصح أن يكون عنواناً للمذهب، أو أن يفسر به المذهب؛ وهو على أي حال أهون مما في كتب الأدب القديم من وصف فُجْرِ ومن مجون يقرؤه الفتيات والفتيان في مكتبات مدارسهم كل يوم حتى صغارهم الذين يكاد المرء يعدهم من الأطفال. فينشأ هؤلاء الأطفال على النفاق والبجح إذا ما لقنهم الملقنون أن الأدب الأوربي من آداب الرذيلة، وهم منغمسون في حمأة الرذيلة بسبب كتب الأدب العربي القديمة. أما ما يأخذه بعض كتاب المذهب القديم على المذهب الجديد من الولوع بشعر التأمل فهو أعجب العجب. وهم إنما يخلطون بين شعر التأمل وبين شعر متون وحواشي كتب الفلسفة، أو بين شعر التأمل وشعر تعليم الأولاد. فشعر التأمل في الحياة والنفس هو خلاصة النفس؛ وهو لا يختلف عن الشعر الذي يقال في وصف أحاسيس النفس في موضوعه ما دمت تحسُّ فيه العاطفة الشعرية. ولا يجوز الحط منه إلا إذا خلا من كل أثر للعاطفة النفسية؛ فليس شعر التأمل في المرتبة الثانية، وإلا أخرجنا أبا العلاء المعري والمتنبي من عدة الشعراء وأخرجنا أجود ما في شكسبير. وقد فرق الأدب الأوربي بين شعر التأمل وبين شعر متون الفلسفة، كما فرّق بين شعر التأمل والشعر التعليمي في الأسماء؛ فلتراجع هذه الأسماء في مصادرها.

(قارئ)