انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 269/الطريقة العلمية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 269/الطريقة العلمية

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 08 - 1938



أو القواعد الأربع للبحث والتفكير

للفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت

بقلم السيد أحمد محمد عيتاني

(رينيه ديكارت أشهر من أن يعرف، فهو أبو الفلسفة الحديثة، وواضع أسسها، وباني كيانها، عاش في القرن السابع عشر، وألم بجميع فروع الفلسفة، وترك لنا مؤلفات عديدة فيها، كلها ذات قيمة فذة، لما احتوت عليه من الحقائق العلمية، والملاحظات الدقيقة، والنظريات والآراء التي أحدثت هزة عنيفة في عالم العلم والفلسفة، فغيرت مجرى بحوثهما، وحملتها على الاتجاه في اتجاه جديد كان نتيجة لها. من بين المؤلفات التي وضعها ديكارت، رسالة صغيرة، بسط لنا فيها موجز تاريخ حياته العلمية، وعرض الظروف والمناسبات التي ساعدته في الوصول إلى طريقته العلمية الخاصة، التي بنى عليها بحوثه العلمية والفلسفية، وقد أسمى هذه الرسالة (رسالة الطريقة أو القاعدة) ووضعها باللغة الفرنسية، فكانت أول مجهود فلسفي كتب بهذه اللغة، وكان في ذلك خروج على عادة الفلاسفة والعلماء الذين ألفوا أن يكتبوا أبحاثهم ويدرسوها باللغة اللاتينية، ولهذا كان أسلوب المؤلف في رسالته أسلوباً جامداً معقداً غامضاً في بعض المواضع، طويل الجمل، كثير اللف والدوران، يصعب فهمه لأول وهلة، ولكن هذا لم يضع من قيمة الرسالة، ولم يمنعها من أن تكون من أجل مؤلفات هذا الفيلسوف الكبير خطراً وأبعدها أثراً، لما اشتملت عليه من القواعد العلمية، والنظرات الصائبة. وفيما يلي فصل من فصولها، يصور لنا الظروف والمناسبات التي أحيط بها المؤلف قبيل وضعه قواعده الأربع التي صاغ فيها طريقته العلمية، واتبعها في قيادة عقله للبحث عن الحقيقة والعلم الصحيح)

(أحمد عيتاني)

كنت يومذاك في ألمانيا. وقد دعتني إليها مناسبة الحرب التي لم تكن قد انتهت فيما بعد، واتفق أني بينما كنت عائداً من حفلة تتويج الإمبراطور لألحق بالجيش، أدركني الشتاء، وأوقعني في إحدى الثكنات العسكرية، وهناك لم أجد ما ألهو به، ولم يكن لدي من حسن حظي ما يشغل بالي من الشئون والأعمال، فكنت أقضي سحابة نهاري، منزوياً في غرفتي، حيث وجدت المجال الكافي من الزمن لأستعرض أفكاري وأخلو بها

اختلال الأعمال المكونة من جهود كثيرة متباينة

كان في طليعة تلك الأفكار ما لاحظته من أن الأعمال المكونة من أجزاء وأقسام كثيرة، إذا اشتغلت فيها عدة أيام، أصبحت وليس فيها من الروعة والإبداع ما في أشباهها من الأعمال الأخرى التي لم تمتد إليها سوى يد واحدة:

فالبناء الذي أشرف عليه وأنجزه مهندس واحد أكثر جمالاً ونظاماً من سواء من الأبنية التي عمل فيها الكثيرون، والتي رسمت مراراً، وبني على أسسها الهرمة أبنية لم تكن معدة لها.

وكذلك المدن القديمة التي أصبحت من الزمن مدنا كبيرة، بعد أن كانت قرى وضياعاً، فهي عادة فوضى في بنائها، إذا قيست بتلك المدن الحديثة التي وضع تصميمها مهندس واحد قبل المباشرة في بنائها. ونحن لو نظرنا إلى أبنية تلك المدن القديمة لوجدنا أن فيها ما لو أخذناه على حدة لما كان يقل فناً وروعة عن أبنية المدن الحديثة، ولكن نظرة واحدة تظهر لنا ما هي عليه من النظام والوضع: فهنا بناية كبيرة، وإلى جانبها أخرى صغيرة، وكلها تتحكم بالشوارع والطرق، فتردها متعرجة: عريضة هنا، ضيقة هناك.

وكذلك الشعوب المتوحشة سابقاً، تلك الشعوب التي لم تتحضر إلا شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن؛ وبقدر ما كانت تدفعها إلى ذلك مغايرة الخصومة والنزاع للحياة فقد رأيت أن ليس بإمكانها أن تضاهي بنظامها تلك الأمم الأخرى التي عرفت الحضارة منذ أقدم العصور، فاجتمعت كلمتها وأجمعت على اتباع دستور واحد يضعه لها مشرع حكيم.

وكان في حكم الثابت لدي أن حكومة الدين الحق، هي مطلقاً وبدون منازع، خير الحكومات نظاماً، لأنها من صنع الله تعالى وحده. ولما لا نقصر كلامنا على الأمور البشرية؟ فأنا أعتقد أن مدينة إسبرطة إذا كانت قد ازدهرت قديماً فليس ازدهارها عائداً إلى أن كل قانون من قوانينها كان صالحاً في ذاته، فلقد كان في قوانينها شيء كثير مما هو غريب وغاير للحق القديم، وإنما ازدهارها عائد إلى أنها اتبعت تشريعاً واحداً، وضعه شخص واحد، كان يرمي في جملته إلى غاية واحدة.

ورأيت أيضاً أن ما تشتمل عليه الكتب والمؤلفات من علوم ونظريات، إنما تكوّن من آراء كثير من الأشخاص المختلفين، شيئاً فشيئاً. لذلك لم يكن - أو على الأقل تلك العلوم التي لا تملك سوى أسباب تقريبية والتي لا يقوم عليها دليل ولا برهان - أقرب إلى الحقيقة، من ذلك التفكير البسيط الذي يقوم به شخص عادي ذو عقل سليم في بعض ما يعرض له من الأشياء.

هذا وقد بدا لي أيضاً أننا وقد كنا جميعاً أطفالاً، قبل أن نكون رجالاً، وأننا مكثنا زمناً طويلاً تحت سلطان أساتذتنا وسيطرة ميولنا، وهما ضدان، كلاهما لا يمحضنا النصح ولا يهدينا سواء السبيل، فمن المستحيل تقريباً أن نكوِّن لأنفسنا أحكاماً نزيهة ثابتة، كما كان شأننا لو وسعنا استعمال تفكيرنا منذ ميلادنا دون أن نركن لقيادة سواه

صعوبة الإصلاح العام

نعم، إننا لم نر أبداً من يدمر منازل مدينة ما لمجرد الرغبة في تجديدها وتجميل طرقها وشوارعها، ولكننا نرى كثيراً من الناس يهدمون بيوتهم بأيديهم ليعيدوا بناءها ثانية، وربما وجدوا أنفسهم أحياناً مرغمين على القيام بهذا العمل، حين يشعرون أنهم في خطر، وأن بيوتهم هذه ذات أسس واهية فهي تكاد تنقض على رؤوسهم. وعلى هذا فأنا موقن بأن ليس هناك إنسان واحد يحاول إصلاح دولة ما بقلبها رأساً على عقب، أو بتدميرها وبنائها ثانية؛ كما أني موقن أن ليس هناك شخص واحد يحاول إصلاح الهيكل العلمي أو نظام تدريسه السائد في المعاهد كلها

إمكان الإصلاح الخاص

أما آرائي وأفكاري التي تسربت إلى نفسي فلا أرى أفضل من نزعها عني تماماً لأعيد غيرها، أو أعيدها نفسها ثانية، أو أعيد قسماً منها بعد أن أحكم عقلي فيها، وبهذه الوسيلة أستطيع أن أنجح في حياتي نجاحاً أعظم مما لو بنيت على أسس خاطئة، أو استندت إلى مبادئ تلقنتها أثناء صباي، واعتقدت بها دون أن أمحص حقيقتها. ولقد شعرت أن عملي هذا لا يخلو من صعوبات جمة، إلا أنها صعوبات يمكن تذليلها، وهي لا تماثل تلك الصعوبات التي يجدها المرء في إصلاح أيسر الأمور التي تمس المجتمع: فالأجسام الضخمة هذه، إذا هدمت فهي صعبة البناء، وإذا هزت فهي صعبة الإمساك، وإن سقوطها لابد أن يكون قاسياً

أثر العادة في الشئون العامة

هذا، ولو كانت هناك مساوئ في بعض شؤون المجتمع، وهي مساوئ لابد من وجودها، ينم عليها ما بين شؤون المجتمع وأموره من تباين وتناقض، فالعادة ولاشك قد لطفت كثيراً من حدتها، وأصلحت الشيء الكثير منها، وجعلتنا نتحاشى منها ما لم يكن في الإمكان تحاشيه بمهارتنا. أضف إلى ذلك أن احتمال هذه الأمور - على ما فيها من مساوئ - أيسر من تغييرها. وما مثل ذلك إلا مثل الطرق التي تسير بين منعطفات الجبال، فهي تصبح مع الزمن طرقاً منبسطة ملائمة للسير من كثرة ارتيادها، ويكون أيسر على المرء أن يسلكها من أن يحاول السير في خط مستقيم، متسلقاً النجاد وهابطاً الوهاد

غاية ديكارت في رسالته

لذلك لا أستطيع مطلقاً أن أفهم تلك الطائفة من الناس ذات الأمزجة الثائرة، والعقول الحائرة؛ تلك الطائفة التي لا تنفك تفكر في أن تدخل على شئون المجتمع شيئاً من التقويم والتعديل، وذلك رغماً عن أن ليس لها من المكانة والجاه ما يؤهلها لذلك. ولو أني رأيت في رسالتي هذه ما يبعث على اتهامي بهذا الضرب من الجنون لكنت جد أسف، ولأحجمت عن نشرها، لأن غايتي منها لم تتعد مطلقاً ما أريده من إصلاح آرائي الشخصية، لأبني فيما بعد على أسس هي ملك لي كلها. وإذا أخرجت إلى الناس هذا النموذج من عملي، وقد راقني بعض الشيء، فليس معنى ذلك أني أدعوهم للضرب على وتيرتي، لا! فأنا أخشى اجتراء الكثيرين على ذلك، فأن إرادة النفس على التجرد من جميع ما اكتسبه قديماً من الآراء، لا يجب أن يكون مثالاً يحتذيه كل إنسان. ذلك لأن العالم يشتمل على نوعين من العقول البشرية، وكلاهما لا يصلح له هذا العمل أو هذا المثال

فالنوع الأول هو تلك العقول التي تقدر ذاتها أكثر مما هي حقيقة، فلا تتمالك من أن تتسرع في أحكامها، ولا تجد من الصبر ما يكفي لأن تقود تفكيرها بانتظام. ومن هنا ينتج أنها إذا منحت نفسها حرية الشك فيما تلقنته من المبادئ، وحادت عن الجادة العامة، ولو مرة واحدة، لم تعد تستطيع أبداً الاهتداء إلى الطريق التي يجب أخذها للسير في طريق قويم، فتبقى تائهة طيلة حياتها

والنوع الآخر هو تلك العقول التي لها من التواضع وبعد النظر ما يحملها على أن ترى ذاتها أقل قدرة على تمييز الخطأ والصواب من بعض عقول أخرى، فهي ترى إمكان التتلمذ على هذه العقول، وهي ترى واجباً اتباع آرائها دون أن تكلف نفسها عناية البحث عما هو خير منها

أما أنا فلقد كنت ولاشك في عداد تلك الطائفة الأخيرة، لو لم أتتلمذ على أكثر من أستاذ واحد، ولو لم أطلع على ما بين آراء الفلاسفة من تباين وتناقض، في كل عصر وزمن، فلقد لمست منذ أيام الدراسة أن ليس هناك ما يمكن أن يتصوره العقل مما يدعو إلى الدهشة ويجل عن التصديق إلا ويكون قد أثر عن الفلاسفة وعزى إليهم

العرف والمعرفة الصحيحة

ولمست وأنا أتجول وأتنقل أن جميع أولئك الذين تتضارب أخلاقهم وعاداتهم مع أخلاقنا وعاداتنا ليسوا برابرة ولا همجاً لمجرد هذا التضارب، بل أن فيهم كثيرين ممن يعقلون مثلما نعقل أو أكثر مما نعقل. ولاحظت كم يكون الشخص الواحد ذو العقل الواحد إذا نشأ في وسط إنكليزي أو فرنسي مختلفاً عن نفسه، فيما لو نشأ في وسط صيني أو هندي. بل وجدت أن الزي الواحد من أزيائنا الذي كان يروقنا منذ عشر سنين، والذي ربما راقنا بعد عشر سنين أيضاً، قد يبدو لنا الآن غريباً مزرياً. وهكذا يتدخل العرف وتتدخل العادة لا قناعنا أيضاً أن ليس هناك معرفة أكيدة صحيحة

القواعد الأربع

إذاً فلم يكن في مقدوري اختيار شخص يبدو لي في آرائه ما يدعوني إلى إيثارها على آراء سواه، وبذا ألفيتني مرغماً على أن أقود نفسي بنفسي، ولكني عزمت على أن أسير متمهلاً كمن يسير وحده في الظلام، وأن أتفطن إلى كل شيء بحيث لو لم أتقدم إلا ببطء احترست على الأقل من الزلل. وقد أبيت المباشرة بنزع أية فكرة من الأفكار التي تسربت إلى نفسي عن غير طريق العقل قبل أن قضيت زمناً طويلاً في تهيئة خطة العمل الذي حملت نفسي عليه، والبحث عن الطريقة القويمة التي توصلني إلى كل ما يستطيعه عقلي كنت درست في صباي بين فروع الفلسفة شيئاً من المنطق، ودرست بين الرياضيات الجبر والتحليل الهندسي، وهي ثلاثة علوم أو فنون كان ضرورياً أن أجد فيها شيئاً مما شرعت في البحث عنه، ولكني عند فحصها وجدت أن قضايا المنطق ومعظم تعاليمه تستعمل لبيان ما يعرفه الناس لا لتعليمهم ما يجهلون، أو هي كفن لول تستعمل للتحدث دون ما تفكير فيما نجهله من الأشياء، وأنها وإن اشتملت على كثير من القواعد الصحيحة القيمة، فهي جامعة أيضاً لكثير من القواعد الزائدة أو الضارة، وهذه يصعب فصلها عن تلك كما يصعب إخراج تمثال للآلهة ديانا أو الآلهة مينرفا من قطعة من المرمر لم تقطع بعد. أما التحليل الهندسي القديم والجبر المحدث فهما لا يتناولان سوى معنويات ليس لها أية فائدة واضحة. فالتحليل الهندسي يقتصر على النظر إلى الأشكال الهندسية، ولا يجلوها إلا إجهاد الخيال إجهاداً عظيما. والجبر مستمسك بقواعد وأرقام جعلته فناً غامضاً مهوشاً يشوش العقل بدلا من أن يغذيه

كل هذا حدا بي إلى التفكير في وجوب البحث عن قاعدة تضم محاسن قواعد هذه الفنون الثلاثة وتكون بمنجى عن شوائبها؛ إلا أني رأيت أن كثرة القواعد والقوانين وتعدادها يسببان عادة مساوئها، بحيث أن الدولة ذات العدد القليل من النظم والقوانين تكون أكثر نظاماً وقوانينها أدق رعاية، ولهذا رأيت أن أكتفي بالقواعد الأربع الآتية على أن أوطد النية والعزم على ألا أخرج عنها في حياتي أبداً

1 - طريقة الوضوح

فالقاعدة الأولى هي: ألا أنظر إلى أي شيء بعين الحقيقة إلا بعد أن أدرك أنه كذلك. ومعنى هذا أني أتلافى التسرع والتنبؤ، ولا أتبنى من الآراء إلا ما تجلى لعقلي بوضوح وسرعة يحولان دون الشك فيه

2 - طريقة التحليل

والقاعدة الثانية هي: تجزئة كل مشكلة من المشاكل التي أقوم بدراستها إلى أكبر عدد من الأجزاء يمكن ويجب أن تنقسم إليه، وذلك للتمكن من حلها على أصلح وجه

3 - طريقة التدرج والقاعدة الثالثة هي: تسيير تفكيري بانتظام، فأبدأ بأبسط الأمور، وأسهلها فهماً وأصعد تدريجياً لمعرفة أكثرها تعقيداً مع افتراض وجود النظام أيضاً بين الأمور التي لا يتعلق بعضها ببعض

4 - طريقة الإعادة والاستقصاء

أما القاعدة الرابعة والأخيرة فهي: القيام بإحصاءات تامة، في كل لحظة، والقيام باعادات عامة، لأتأكد من أني لم أهمل شيئاً

أحمد محمد عيتاني

عضو بعثة جمعية المقاصد في معهد التربية