انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 268/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 268/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 08 - 1938



حول نقد ديوان

هكذا أغني

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

بقلم الأديب مختار الوكيل

يقول الأديب عباس حسان خضر إن محمود حسن إسماعيل، شاعر الريف النابغة، صاحب ديوان (هكذا أغني) (يمضي متدفقاً مندفعاً عنيفاً، وفي كثير من الأحيان يتبع هذا التدفق والعنف عدم اكتراث بسلامة الذوق، واعتساف في الفكر وفي التعبير - كما نبين فيما يأتي - معتمداً في ذلك على قوة طبيعته ونشاط خياله، غير متقيد ولا محترس، فهو يعول على الهبة الفطرية أكثر مما يعول على المهارة الاكتسابية.)

ولم يتبع هذا الكلام بيانٌ دقيقٌ عن عدم اكتراث الشاعر بسلامة الذوق واعتساف الفكر والتعبير كما قال؛ وإنما مضى يقول بعد ذلك:

(يمتاز شعر هذا الديوان بشيء لعلي موفق إذْ أسميه (الروعة) وهو ذلك الذي يستغرق المشاعر ويروع العواطف ويأخذ بالذهن إلى عوالم متنائية الأطراف، ولعل مبعثه بعد المدى في الخيال، والإيغال في تصوير الأشياء التي يكتنفها الغموض!)

ويفهم أي قارئ لهذا الكلام أن الكاتب يحاول أن يهاجم الشاعر النابغة ولكن إحساسه الباطني بشاعرية محمود إسماعيل تخونه في التعبير الذي يقصد! فالكاتب يذكر أول الأمر أن محموداً في شعره متدفق مندفعٌ عنيفٌ، ولكنه لا يكترث غالباً بسلامة الذوق الرفيع، ويعتسف في الفكر والتعبير؛ وبمعنى آخر يريد أن يقول إن محموداً شاعرٌ مطبوعٌ ملهمٌ ولكنه لا يجيد صناعة الألفاظ، وهذا الكلام في صالح محمود ولعل الكاتب لم يقصد إليه.

وقوله بعد ذلك إن الشاعر يأخذ الذهن إلى عوالم متنائية الأطراف وإنه بعيد مدى الخيال، وإنه يوغل في تصوير الأشياء التي يكتنفها الغموض اعتراف صريح بعبقرية الشاعر؛ فما أظن أن هناك تعريفاً لشعر شاعر أجمل من هذا التعريف الذي ندَّ به قلم الكاتب الفاضل عن غير قصدٍ. أقول عن غير قصد، ومعي الدليل البيِّن على ذلك، إذ لم تمض بضعة سطور على هذه الإشادة الظاهرية بشاعرية محمود، حتى يفجأ الكاتب قارئه بنقدٍ لبيت رائع من قصيدة (دمعة في قلب الليل). فالكاتب يسخر من قول الشاعر النابغة في حديثه عن الدموع:

عصرت من مطارف الألم الدا ... وي بقلبي وعتقت في دمائي!

بقوله: (فجعلنا نتمثل امرأة حاسرة عن ذراعيها أمام طست الغسيل تعصر تلك المطارف والأثواب. . .)

وهذا الكلام لا يجوز أن يدلي به ناقد يفهم المعادن الشعرية فهماً كاملاً، أو يكد ذهنه في اكتشاف الخبيء من المعاني الجميلة التي ينشط خيال الشاعر الجبار في اقتناصها

وكما بينت، يتردد الكاتب في إظهار حقيقة عواطفه نحو الديوان في بعض الأحيان، فهو يعود فيطري قصيدة (ثورة الإسلام في بدر). وما كان في وسعه أن يعدو ذلك أو يقول بنقيضه؛ بيد أنه يقول عن أبيات محمود الخالدة:

وقف المغني في حماك مجلجلاً ... باللحن تخفق في الورى أصداؤه

فيه من الأقدار وهلة غيبها ... خبأنه عن لمع الحجا أطواؤه

ومن الكتائب أرزمت أسلاتها ... صخب يزمجر بالفتوح نداؤه

ومن المواكب هولها في فيلق ... نشوان في يوم الفخار لواؤه

من قصيدة (يوم التاج) التي أذاعها الشاعر في مهرجان الوادي بتتويج صاحب الجلالة المليك المحبوب: (فأي مغن هذا المجلجل الذي اجتمعت فيه وهلة الأقدار وصخب الكتائب وهول الفيالق؟! إن هذه الصفات المروعة لا تصطلح على مغن ولو كان من (مطربي) محطة الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة. . .)

يا أيها الكاتب المحترم، كيف عرفت أن الشاعر قال هذه الأبيات في مغن معين؟! لم يقل محمود هذه الأبيات في عبد الوهاب ولا في عبد الحي، ولو قال في أيهما لما كان شاعراً وإنما قالها في هذا الشعب العظيم الذي شملته نشوة روحية بيوم التاج السعيد، فانطلق يغني غناء الشعوب، تجلجل ويجتمع في غنائها هولة الأقدار وصخب الكتائب وهول الفيالق؟! كما تقول أنت حقاً!! ومحال أن تصطلح هذه الصفات على مغن من (مطربي) محطة الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة كما تقول. . .! فالشاعر الذي يأخذ مثله الأعلى من أية محطة للإذاعة، بل من أية موسيقى هزيلة ضعيفة، ليس بحقيق أن يدعى شاعراً، ولكن الشاعر الذي يبشر بمقبل باسم للموسيقى، إذ يتوجه بها إلى القوة وتصوير الحروب والكتائب، على نحو ما تأتي به موسيقى (فردي) و (بيتهوفن) و (موزار) وأضرابهم من العباقرة هو الشاعر الذي تحلم به مصر، وهو الشاعر الذي يأتي ليرقى الأحاسيس، وينمي الابتكار الخيالي، المنعدم مع الأسف في محيط الحياة المصرية قاطبة!!

ثم يهاجم الكاتب هذه الصورة الرائعة التي اغبط الشاعر عليها بحق:

الوجه ساج كصلاة الغديرْ ... بين الطيورْ!

فهو كان يحب أن تصلي الطيور لغدير وهي تحسو الماء منه، وهذا هو المعنى الذي لا يصح أن يلتفت إليه الناقد المدقق، ولكن المعنى العميق الدقيق هو أن الغدير في سجوه وهدوئه يؤدي صلاة روحية عميقة، والطيور حواليه ترشف منه ساعة صلاته وذهوله؛ فهو ينظر إلى حركة الطيور الآلية عندما ترشف الماء من الغدير على أنها صلاة. والواقع أن الصلاة لا تصدق من الظامئ المفهوم المشغول بحسو الماء من الغدير، ولكنها تصدق كل الصدق من الغدير الساجي الهادئ المعطي الباذل ماءه لطيور الظماء!

وهل يجهل الناقد أن هنالك شيئاً في الشعر اسمه (امتزاج الأحاسيس) وأن هذا الشيء كتب فيه الشعراء واستعان به الكتاب ولعل ابن الرومي هو الذي أتقن هذا النوع من الشعر. ولماذا نذهب بعيداً فالرافعي رحمة الله عليه - يقول في بعض كلامه (واقتليني يا حبيبتي قتلة معطرة!!) وعلى هذا الأساس يجب أن يعيد الكاتب النظر في هذه الأبيات حتى يخرج منها بالصورة المركزة الدقيقة التي عانها الشاعر في قصيدته (في لهيب الحرمان) و (الذهول)

واختتم هذه الكلمة العابرة راجياً أن يراجع الكاتب الأديب مدارسة الديوان فسيجد فيه فتحاً جديداً في الشعر العصري، واتجاهات رائعةً أغفلها الشعراء عندنا. سيجد حديثاً عن الريف، ومظاهر الطبيعة الحزينة والطروب، وسيجد تعبيراً عن آلام الفلاح المصري، وسيجد غزلاً مطرباً صادقاً، وعند ذلك يكتب عن شاعر الريف الجديد الذي نبغ على صغر سنه، في هذا المضمار الرائع المستقل.

وسنتبع هذه الكلمة بحديث مسهبٍ عن شعر محمود إسماعيل إذا سمحت الظروف وسمحت (الرسالة).

مختار الوكيل