مجلة الرسالة/العدد 268/الدين والأخلاق
مجلة الرسالة/العدد 268/الدين والأخلاق
بين الجديد والقديم
لأحد أساطين الأدب الحديث
الظاهر أن الأستاذ الغمراوي رجل حسن النية صادق السريرة. وقلت الظاهر لأني لا أعرفه؛ ولا أريد أن أتعرض لنقده ما يسميه المذهب الجديد، ولا للنزاع الثائر بين أنصار الرافعي وبين أنصار العقاد. ولو كان الأستاذ قد اكتفى بالنقد الفني وقصره على ذلك النزاع الفني لسلم من بعض الهفوات التاريخية والاجتماعية؛ فقد قال إن نزعة التجديد يرجع أولها إلى نحو ثلاثين سنة، وقد ذكر فيما ذكر من التجديد أخذ الآراء الأوربية، ولم يكتفي بذكر ما أخذ منها مما هو في باب الآداب، بل ذكر أيضاً ما أقتبس من النظم والمبادئ الاجتماعية. وهذا الوصف الشامل للتجديد لا ينطبق على نزعة بدأت منذ ثلاثين سنة، وإنما ينطبق على النزعة بوجه عام منذ جاء نابليون إلى مصر، ومنذ عهد محمد علي باشا وإسماعيل باشا، ومنذ أدخلت المطابع وأرسلت البعوث العلمية واقتبست القوانين المدنية، ونظمت المحاكم الأهلية التي صارت تحكم بغير أحكام الشريعة الإسلامية، وكثر نقل الكتب إلى العربية. والأستاذ الغمراوي يعيب على المجددين أنهم يريدون رفض بعض أحكام الشريعة، ويذكر كيف أن بعض الكتاب يحبذ منع تعدد الزوجات. ويقول الأستاذ أن للدين وحدة تامة فلا يجوز أخذ بعضه وترك بعضه. ويا حبذا لو أن الأستاذ كان قد فصَّل هذه الناحية من التجديد في مقال مستقل عن النزاع على التجديد في معاني الشعر والنثر، إذ ما صلة الذين قاموا بإنشاء المحاكم الأهلية وأحلوا أحكامها محل الشريعة الإسلامية، وما صلة الذين يريدون منع تعدد الزوجات ومنع الطلاق، بمعاني شكسبير والمتنبي وملتون وأبي العتاهية مثلاً، ولعل أكثرهم كانوا لا يهمهم النزاع الفني الأدبي مطلقاً. نعم إن الدين والأخلاق لها مظاهر في الشعر والنثر فكان ينبغي للأستاذ الغمراوي وقد حكم للمذهب القديم أنه قوام الدين والأخلاق، وحكم على المذهب الجديد أنه بؤرة الإلحاد والمجون، أن يثبت هذا الزعم فينفي عن شعراء المذهب القديم كل كفر وإلحاد ومجون، وينفي عن شعراء المذهب الجديد كل تدين وإيمان بالفضائل مستشهداً بأقوالهم من شعر ونثر فإن هذه هي الطريقة الفنية للمفاضلة بين المذهبين من حيث الدين والأخلاق. وإن لم تخني الذاكرة فأن الأستاذ قد لخص المذهب الجديد في الأدب بأنه نزعة تغليب دين على دين، وإذا كان لهذا القول معنى فمعناه أن أدباء المذهب الجديد يريدون تغليب الديانة المسيحية على الديانة الإسلامية. فإذا لم أكن مخطئاً في هذا التفسير كان واجباً على الأستاذ أن يقيم الدليل على أن أدباء المذهب الجديد يريدون تغليب دين على دين، وقد نسى الأستاذ أن كثيراً من مظاهر الحضارة الأوربية الحديثة لا علاقة له بالمسيحية التي هي دين أكثر الأوربيين، أو لعل الأستاذ قد أراد أمراً آخر لم نفهمه. ولو رجع الأستاذ إلى العصر الذي كانت فيه النزعة الدينية المسيحية متغلبة في أوربا وهو عصر القرون الوسطى عصر التزهد والرهبنة والتقشف لعلم أن المحافظين من رجال الدين والكتاب كانوا يخشون على الدين والأخلاق من غزل العرب ومجون شعرائهم وقصصهم ومن حرية أفكارهم في المسائل الدينية والكونية، وكانوا يرمون الأدب العربي بالإباحية في الأخلاق، وكانوا يلومون الآباء الذين يرسلون أبناءهم إلى مدارس البلاد العربية كالأندلس وصقلية؛ فلم يكن عداؤهم للكتب العربية الدينية فحسب، بل كان عداؤهم لكتب الأدبية العربية والفكرية أشد. وموقف هؤلاء المحافظين من الأدب والفكر العربي كان شبيهاً بموقفهم من الأدب والفكر الإغريقي القديم. وهذه الحقيقة تنبه الأستاذ إلى أن الدولة العربية الإسلامية لم تلبث على الفطرة السليمة وعلى حالها من الأدب كما كانت في صدر الإسلام مثلا بل دخلها الترف وتفشت فيها لذائذ الحضارة وكثر المجون في أقوال الشعراء والكتاب وبقية أصناف المجون والإلحاد مخطوطة إلى عهد أن دخلت المطابع البلاد العربية الإسلامية. ولا احسب أن أهلها كانوا على فطرة يخشى عليها من تلك الكتب فأن حالة الأخلاق في عهد دخولها لم تكن أرقى مما هو موصوف في تلك الكتب إلا في أوساط محدودة معروفة بالنزاهة والعفة والاستقامة وصدق القول والعمل؛ وكان يضرب بها المثل؛ وكانت كالشامة البيضاء تنعت نفسها لوضوحها في الجلدة السوداء. ولا تنس أن البدو كانوا بطبيعتهم يكرهون الضوابط والروادع أية كانت، فسرعان ما حثتهم الحضارة ولذائذها على التحلل من روادع الدين. وقد بدأ المجون يعود إلى استفحاله بعد عهد قريب من صدر الإسلام، وبلغ أشده في الدولة العباسية، وكان مصحوباً في كثير من الأحوال بالكفر والزندقة والالحاد، وكان كل منهما في بعض الأحايين مستقلا عن الآخر، فقد كان بعض الملحدين من أشد الناس زهداً ومحافظة على الفضائل كما كان المعري مثلا
يقول الأستاذ إن المذهب الجديد في الأدب الذي يقول عنه الأستاذ إنه بدأ منذ ثلاثين سنة خطر على الأخلاق والدين، فهل يستطيع الأستاذ أن يأتي بأبيات من شعر هذا المذهب الجديد في شناعتها كأبيات ابن الرومي النونية التي يقول فيها:
صوت يد العجان في العجين ... أو صوت رجلي عامل في الطين
وهي أبيات قد أختارها له السيد توفيق البكري في كتاب (صهاريج اللؤلؤ) الذي ألفه كي يقرأه الناس رجالا ونساء وفتياناً وفتيات، والبكري كما يعلم الأستاذ الغمراوي كان شيخ السادة البكرية ورجلاً من رجال الدين والفضل ومن أدباء المذهب القديم، ولكنه لم يتحرج من إطلاع سيدة أو فتاة فاضلة على ما في كتابه هذا من المجون الشنيع. ولأن يعطي الأديب من أدباء المذهب القديم أي قول قاله شعراء وأدباء المذهب الجديد لأخته أو لفتاة من أقربائه لتقرأه؛ لأَصون لها ولأخلاقها من أن يعطيها كتاب صهاريج اللؤلؤ هذا إلا إذا طمس المجون قبل أن يقدم إليها الكتاب. وقد طبع الشيخ شريف جزءين من ديوان ابن الرومي في أحدهما أرجوزة مطلعها (رب غلام وجهه لا يفضحه) وفيها يصف طرق اللواط في أوضاع وأشكال مختلفة. وقد عنى الشيخ شريف بشرح لفظه ومعناه كما عني السيد توفيق البكري بشرح الأبيات النونية. والشيخ شريف كان مفتش اللغة العربية وأديباً من أدباء المذهب القديم، ولكنه لم يتحرج كما لم يتحرج البكري من شرح وطبع هذا المجون وإيضاح معناه كي يقرأه ويفهمها الفتيان والفتيات. فأي أديب من أدباء المذهب القديم يرى أن يعطي أخته أو أخاه الصغير هذا الكتاب، أو أن يطلعهما على قصيدة ابن الرومي أيضاً في (بوران). أو على ديوان أبي نواس أو على ما في كتاب الأغاني أو كتاب يتيمة الدهر للثعالبي من مجون لا تسمح أية دولة أوربية بنشره، بينما أدباء المذهب القديم يشرحونه ويطبعونه ويستحلونه في مجالس أنسهم ويضحكون تفكها به، حتى إذا جاء ذكر ما يسما بالمذهب الجديد وأثر الأدب الأوربي فيه أخذتهم رعدة الغضب وادعوا أن المذهب القديم عماد الأخلاق والدين، وأن المذهب الجديد بؤرة المجون والإباحية والإلحاد. إن المسألة بسيطة والأمر هين. نستطيع أن نطبع على الناحية اليمنى من صفحات المجلة ما نجده من مجون وإباحية شعراء المذهب القديم في العصور المختلفة حتى عصرنا هذا، وعلى هؤلاء الأدباء أن يقدموا ما يستطيعون أن يعثروا به من أقوال أدباء المذهب الجديد لتطبع في الناحية اليسرى من المجلة. لاشك أن أدباء المذهب القديم يتهربون من مثل هذه المقابلة كل التهرب. وما يقال في كتب المذهب القديم الأدبية يقال أيضاً في كتب التاريخ. أنظر بالله إلى الأبيات التي زعموا أن مسيلمة الكذاب بعث بها إلى سجاح المتنبئة والتي فيها (وإن شئتِ. . . وإن شئتِ) كيف يستطيع أديب من أدباء المذهب القديم أن يطلع أخته أو بنته أو قريبة له من الفتيات على هذا الشعر؟
ثم أنظر إلى ذكر الفحش وقصصه ونظم الهجاء فيه شعراً تجد أن أدباء ما يسمى بالمذهب القديم في كل عصر حتى عصرنا هذا كانوا أكثر حظاً منه. ولا أعني جميعهم، ولكنهم حتى الأفاضل منهم قد وجدوا هذا الأسلوب من القول عادة صقلها الدهر وهون أمرها فأصبحوا لا يجدون خطراً على الأخلاق في نظم الهجاء فحشا ولا في التحدث عنه، ولكن الخطر كل الخطر هو تأثر الأدب العربي بنواحي القول كما وردت في كتب الأدب الأوربي.
وبعد فأي أدب أوربي يعنون؟ لقد تقلبت على الدول الأوربية عصور اتخذ الأدب في كل منها نزعة خاصة، ولكنهم إذا تكلموا عن الأدب الأوربي خيل للقارئ أنهم يعدون جميع الأدب الأوربي في عصوره المختلفة على طراز واحد وأنه مأوى المجون والإباحية والزندقة. أن عصور الأدب الأوربي تختلف اختلافا يجعل بعضها أقرب إلى بعض الأدب العربي منها إلى عصور أخرى من عصور الأدب الأوربي، فالأدب الإغريقي في سهولة معانيه وخيالاته أقرب إلى الأدب الجاهلي العربي منه إلى الأدب الرمزي الأوربي الحديث. والأدب الأوربي الحديث في حرية الفكر أقرب إلى الأدب العباسي العربي منه إلى الأدب الأوربي في القرون الوسطى. فإذا كان بعض الأدب الأوربي الحديث قد دعا بعض أدباء المذهب الجديد إلى إبهام الإيجاز والصور المتداخلة بعضها في بعض وإلى غموض الرمزية فقد ألف بعض أدباء المذهب القديم على هذه الطريقة في إبهام الإيجاز من غير أن يطلعوا على الأدب الأوربي. أنظر مثلا إلى إيجاز الرافعي في كتاب (حديث القمر) والكتب الأخرى التي كتبها، وكأنه لم يكتبها إلا لكي يثبت أنه يستطيع أن يزيد على معاني وصور أدباء أوربا والمذهب الجديد وأنه أغنى منهم بمعانيه كما أنه أغنى منهم بأساليبه اللفظية الفصيحة العربية؛ ولكن فصاحة لغته العربية لم تخف الحقيقة الفنية، وهي أن الرافعي صاحب (حديث القمر) و (السحاب الأحمر) أقرب إلى أدباء الرمزية الأوروبيين منه إلى الرافعي صاحب كتاب (إعجاز القرآن). وإن بين أدباء المذهب الجديد من هم أقرب إلى الرافعي صاحب (إعجاز القرآن) وأقرب إلى أدباء العربية الأقدمين من الرافعي صاحب (حديث القمر) وأعني القرب في أسلوب التخيل وأسلوب عرض الصور الفكرية وكل صورة مستقلة غير متدخلة في أختها. فإذا أراد إذاً ناقد أن ينتقد المذهب الجديد أو الأدب الأوربي كانت الطريقة المثلى أن ينتقد ما يعيبه فيه على طريقة النقاد الفنيين فيبين الغث من السمين ويوضح أسباب حكمه على كل قول وكل أديب. أما أن يقول أن الأدب الأوربي كأدب المذهب الجديد فأسد المعنى والخيال ينبو عنه الذوق العربي وتمجه الفصاحة العربية، وإنه مباءة المجون والإباحية والزندقة، فقول من لا يريد أن ينقد ولا أن تقدر قيمة ما يقول قدراً صحيحاً، ولا أعني الأستاذ الغمراوي فان هذه أحكام شائعة. نعم إن بعض الأدب الأوروبي ولاسيما الحديث منه يحث أدباء العربية على بعض ما يخالف العرف والتقاليد الإسلامية، ولكن أليس في أقوال الشعراء العرب وأدبائهم في كل عصر أشياء كثيرة تخالف العرف والتقاليد والآداب والأخلاق الإسلامية كما أوضحنا بالشواهد؟
ونعترف أن في بعض الأدب الأوروبي الحديث ما يحث على الإلحاد، ولكن أليس في أقوال زنادقة الدولة العباسية وفي لزوميات رجل فاضل كالمعري مالا تسمح الحكومة بنشره لو أن أحد شعراء المذهب الجديد كان هو قائله؟ ولكن أقوال أدباء الدولة العباسية والمعري أقوال صقلها الدهر واعتادها الناس فلا بأس من أن يتفكه بها أدباء المذهب القديم في مجالسهم ولا بأس من نشرها وإيداعها مكتبات المدارس
وكما أن بعض الأدب الأوروبي أقرب إلى بعض الأدب العربي منه إلى عصور أخرى للأدب الأوروبي فكذلك بعض أدباء المذهب الجديد أقرب إلى أدباء المذهب القديم منهم إلى أدباء آخرين من أدباء المذهب الجديد، فأدباء المذهب الجديد اليوم أكثر حرية في القول واكثر نصيباً من الرمزية من أدباء المذهب الجديد الذين ظهروا منذ ثلاثين سنة
(قارئ)