انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 266/مائة صورة من الحياة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 266/مائة صورة من الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 08 - 1938



للأستاذ علي الطنطاوي

1 - مجدد

لقيته في مكتبة كان من عادتي أني أرتادها كل يوم فألبث فيها ساعة أو نحوها كما يرتادها غيري من المشتغلين بالأدب والواغلين عليه، ومن أهل العلم والأدعياء فيه، فيقلبون المكتبة إلى ناد أدبي، أو قاعة للجدل والمناظرة، فلا يكون حظ صاحبها المسكين من تجارته إلا الكلام، تمتلئ به أذناه، وجيبه من المال خال. . . وهل عاش قط وراق على أديب؟ ومتى كان عند الأدباء مال حتى يشتروا؟ إن الناس بين رجلين: رجل يحب الكتب ولكنه لا يجد ما يشتريها به، ورجل عنده مال ولكنه لا يحب الكتب. فيا بؤس الوراقين بين هذين الرجلين!

لقيته ولم يكن لي شرف معرفته، فنسبوه إليّ وعرفوني به: (الأستاذ فلان) فقلت الكلمة التي يضطرني النفاق الاجتماعي إليها: (تشرفنا) كأننا كنا قبل لقائه على غير شرف. . . وانتظرت منه أن يتكلم لأضعه في منزلته؛ وقديماً قال من لست أدري من هو: (إنك لا تعرف منزلة الرجل حتى يتكلم، فإذا تكلم رفعته أو وضعته) أو ما هذا معناه فما احفظ الكلمة على أصلها. . . ولم يطل الرجل بحمد الله انتظاري، وراح يلقي كلاماً أقرّ على نفسي بأني لم أفهم منه حرفاً، اللهم إلا كلمات تتردد فيه لها في أفرادها معان، وليس لها في جملتها معنى، من أمثال: (الوعي الطبقي) و (التقدمية واللاتقدمية)، وطفق يسرد أسماء إفرنجية لها أول وليس لها آخر، ثم قفز قفزة إلى التاريخ، فعاب علينا أننا نكتب في التاريخ، ونؤلف الكتب عن أبي بكر وعمر، وساق في ذلك كلاماً على نحو كلامه الأول، ثم جاء بالطامة فقال بأن سورة (الناس) ليس فيها من بلاغة القول شئ، وزعم أن كاتباً من أبلغ كتاب العربية في هذا العصر (ذهب مغفوراً له) قال: لو أن تلميذاً كتبها لي في امتحانه لأعطيته الصفر. . .

فلم أعد أطيق على وقاحته وجهالته صبراً. وللمرء أن يتكلم في الأدب أو في النقد، ويطيل أو يقصر، ويعرض جهله أو علمه، وسفاهته أو تهذيبه، فالناس يميزون الخبيث من الطيب ويعرفون المحق من المبطل؛ وما كل من قال كلاماً كان بليغاً، ولا كل من أمسك بقلم ونش كلاماً في مجلة، كان ناقداً أو كاتباً. . . أما أن يتكلم أمرؤ في الدين بلا علم ولا هدى، وبغير بينة ولا دليل فلا. . . ثم لا!

تركته يوقد نار حماسته في كذبه، حتى إذا ظنها استحالت جمرة متقدة ألقيت عليها دلو ماء فقلت له:

- هل تسمح يا سيدي بسؤال: كيف عرفت أن سورة (الناس) ليس فيها من البلاغة شيء، مع أن علماء هذا الفن ومن هم المرجع فيه والحجة قالوا غير ما تقول؟

قال: لأن للبحتري شعراً لا شك (عندي) أنه أبلغ منها

قلت: أئن كان للبحتري شعر أبلغ من شعر المعري مثلا كان شعر المعري خالياً من البلاغة؟ ثم من قال لك إن شعر البحتري أبلغ من سورة الناس؟

قال: لأن البلاغة فيهِ أظهر!

قلت: ما هي البلاغة (عندك)؟

قال: هي أن يكون الكلام بليغاً. . .

فكان الضحك عاماً مجلجلاً!

ولقيت هذا المجدد كرة أخرى فلم يقل شيئاً، لأنه قال كل ما يحفظ في المرة الأولى، ثم لم ألقه بعد أبداً!

2 - أوربي

فلان. . . من أسرة دمشقية أصيلة، ولكنه أقام في أوربة سنين عايش فيها القوم، فظن أنه حين أساغ في حلقه طعامهم، وأدار في فمه لسانهم، قد صب في عروقه دماً من دمائهم، ووضع في رأسه دماغاً من أدمغتهم، فاستقر في رأسه أنه أوربي ولكن النطفة أخطأت طريقها فكانت شرقية فلما عاد من أوربة ودخل علينا - وكنا يومئذ تلاميذ وكان هو أستاذنا - استقبلناه استقبال التلاميذ المخلصين أستاذهم الذي غاب عنهم سنين بعد ما اتصل حبله بحبالهم وأحبوه وأحبهم ورحبنا به فنظر إلينا نظر المنكر، وقلب شفتيه اشمئزازاً ولوح بيديه على طريقة أهل باريس، وقال لنا بالفرنسية (ما ترجمته بالحرف):

- ما هذا؟ أهكذا يكون الاستقبال؟ إنكم يا أهل الشرق لا تتمدنون أبداً. ولقد رأيت اليوم ما كنت أسمعه. . . فيا ليتني لم أسافر إلى الشرق! (دمشق)

علي الطنطاوي