انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 264/حول أدب الرافعي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 264/حول أدب الرافعي

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 07 - 1938



بين القديم والجديد

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

- 4 -

أشفقنا على كاتب المقالات (بين العقاد والرافعي) من هول ما جنى على نفسه بتسخيره عقله لهواه فيما تصدى له، فدعوناه إلى أن يفيء إلى الحق ويسلك في أدبه سبيل القرآن قبل أن يحق عليه ما حق على كل مجانب لطريق القرآن من قبله. لكننا لم نكد نتم قراءة مناقشاته وشروحه التي بسط في العدد 262 من الرسالة حتى أيقنا أننا أمام مغرور لن يدع له غروره مرجعاً إلى حق، ولا رجوعاً عما هو بسبيله من مكابرة ومماراة

وكان أكبر ما أيأسنا وآسفنا منه في كلمته تلك جوابه على ملاحظة الفاضل الفلسطيني الذي نبهه بجلاء ووضوح إلى خطئه فيما اعتبره تناقضاً بين تلخيص الرافعي لرأي شوبنهور في الجمال وبين حقيقة ذلك الرأي. في ذلك الجواب بعد أن ذكر أن نصف تلك الملاحظة في موضعه قال: (وقد نشأ هذا عن اضطراب في ترتيب بعض اجمل! وكثيراً ما يقع مثل هذا فنكتفي بفطنة القارئ) ولكن مع هذا بقي التناقض بين قول شوبنهور وتلخيص الرافعي واضحاً). وأكبر المآخذ على هذا الكلام خلقي لا عقلي، وموضع المؤاخذة هو ما بين قوسين - والقوسان من عندنا - فقد كبر عليه أن يعترف بالخطأ صراحة فجعل يخادع عن خطأه بالتماس تعليل لا ينطبق على الواقع كما فعل بالضبط في مقاله الثالث حين أراد أن يخرج من رأي ارتآه في الرافعي إلى رأي. ومخالفة تعليله هذا للواقع يتضح من كلامه الذي انتقده الفاضل الفلسطيني من مقاله التاسع في العدد 260 من الرسالة. ونحن موردون الآن ذلك الكلام بنصه؛ قال:

(ثم هذا الخلط بين الرأي الذي جاء به الرافعي وبين رأي شوبنهور، ونسبة كلام إلى رجل يقول ضده تماماً. الفيلسوف يقول: إن الأشياء (تسرنا) كلما قربت من عالم الفكرة وابتعدت عن عالم الإرادة. فيقول الرافعي عنه: إن الأشياء (تحزننا) كلما ابتعدت من عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة. وهو عكس قول شوبنهور. ثم يعود فيقول: (وإنها تفرحنا كلم ابتعدت من عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة. وهو عكس كلام الرافعي الأول!! فأيهما يريد؟ أغيثونا بالله يا أصحاب الفهم وقولوا لنا متى تفرحنا الأشياء ومتى تحزننا؟ وأي القولين ينسبه الرافعي لشوبنهور وأيهما ينفيه عنه؟)

هذا نص كلام سيد قطب الذي يزعم أن في ترتيب بعض جمله اضطراباً هو علة الخطأ الذي نبهه الفاضل الفلسطيني إليه، ويزعم وراء ذلك أن هذا الاضطراب الموهوم في ترتيب الجمل كثيراً ما يقع فيكتفي بفطنة القارئ! والقارئ يرى في الكلام اضطراباً ولكن في الفهم والحكم لا في ترتيب الجمل، فإن الجمل ترتيبها مستقيم كما يتضح لسيد قطب نفسه فإنه مدرس لغة عربية؛ وليس هناك شك في أن الجمل كانت مرادة كما هي بترتيبها ومعناها حين خرجت من قلمه أول مرة. لكن العزة تأخذه بالإثم فيحاول أن يفر من تبعة خطأ في الفهم قد يغتفر فيقع في تبعة ادعاء مخالف للواقع لا يمكن أن يغتفر بحال. ويزعم مع ذلك أنه يمثل مدرسة (جديدة تعنى بتصحيح المقاييس الأدبية عنايتها بتصحيح المقاييس النفسية)!

مثل هذه المكابرة في الواضح المحسوس هو الذي ييئسنا من هذا الكاتب أن يقر بخطأ أو يرجع إلى الحق إذا وضح مادام هذا الحق عليه لا له

وقد ارتكب سيد قطب ذلك الخطأ الخلقي ليفر من خطأ عقلي فوقع في خطأ جديد من غير أن ينجو من خطئه القديم. إن كلام الرافعي في تلخيصه شوبنهور كلام متسق لا ينقض أول منه آخراً ولا آخر أولاً. وإذا كان آخره يوافق رأي شوبنهور بإقرار قطب فأوله يوافقه أيضاً. إنما أراد الرافعي أن يفسر رأي شوبنهور ويقربه للذهن بتعليل معقول يزيل عنه غموضه وتجرده فلم يفهم قطب تفسير الرافعي واستمسك بجملة فيه قطعها عن أخواتها فبدت له كأنها تثبت ما يريد من تناقض الرافعي

شوبنهور يقول - فيما لخصوا له - إن الجمال يكون في عالم الفكرة المنقطع عن الأغراض والشهوات، ولا يكون في عالم الإرادة المتصل بالأغراض والشهوات. وهو كلام غامض ليس يسهل فهمه وتصوره، فالتمس الرافعي له توجيهاً وتعليلاً حسناً بقوله أن الجمال المتصل بغرضك وشهوتك ليس بجمال، لأن غرضك وشهوتك هما زينا الشيء لك فبدا جميلاً وإن لم يكن جميلاً في الحقيقة. فهو باعتبار الإرادة أي الغرض والشهوة جميل، وباعتبار الفكرة المجردة عن الغرض والشهوة لا جمال فيه. فتعلق قطب بالكلمات (باعتبار الفكرة المجردة لا جمال فيه) كما يتعلق الغريق وقال إن الرافعي يناقض بها رأي شوبنهور! ولو لم يكن يفكر بهواه لا بعقله لرأى أن هذه الكلمات في كلام الرافعي راجعة إلى شيء في عالم الإرادة تعلق به الغرض والشهوة، وهذا الشيء في رأي شوبنهور غير جميل باعتراف سيد قطب نفسه. فقطب هو الذي لم يفهم عن الرافعي، ورمى الرافعي بأنه لم يفهم عن شوبنهور في كلام طويل جعل يشير فيه ويصيح ويستغيث.

هذا المقال يمثل من الناحية العقلية ضربا آخر من أغلاط قطب ويبرز علة أساسية في سوء تقديره الرافعي. إنه في كثير من الأحوال يخطئ غرض الرافعي ويفهم من كلامه غير ما أراد ثم يحكم عليه بما لم يرد وما لا يدل عليه كلامه: يسرف على نفسه وعلى الرافعي في الحكم وهو في الحقيقة قد أخطأ جوهر الموضوع.

خذ مثلاً لذلك رميه الرافعي بأنه ينظر إلى الأمور نظرة مادية ويذكر نفسه وقلبه في سوق (المجوهرات) معتقداً أنها أثمن من القلوب إلى آخر ما تشدق به وافترى على الرافعي.

وسيد قطب يلقي الدعاوى ثم يثبتها بأمثلة، وهو طريق في إثبات الدعاوى غريب لا يثبت منها شيئاً ولو صحت الأمثلة كلها. ومع ذلك فإن كل مثال جاء به سيد قطب ليثبت به دعواه تلك هو مثال أخطأ فيه غرض الرافعي وأخطأ لب الموضوع

إن أول ما هاج قطب إلى تلك الدعوى قول الرافعي من قصيدة له في الحب معجبة:

قلبي هو الذهب الكري ... م فلا يفارقه رنينه

قلبي هو الألماس يع ... رف من أشعته ثمينه

وواضح أن هذه كأبيات العقاد التي ذكرها اللبابيدي، من باب التشبيه ومن التشبيه في ناحية مخصوصة واضحة في كل من البيتين. فالرافعي يشبه قلب نفسه بالذهب الكريم لا من ناحية سعره وقيمته - ولو قال الرافعي هذا ما كان فيه عليه من بأس إذ يكون واضحاً عندئذ أن قلبه في القلوب كريم كالذهب في المعادن - ولكن من ناحية أن عاطفته النبيلة لا تفارقه كما لا يفارق الذهب رنينه. والذهب في لغة العلم فلز نبيل لا يصدأ في الجو ولا تؤثر فيه الأحماض ولا القلويات وإن أثر فيه الكلور المتولد. فكأن الرافعي يقول إن قلبه يحتفظ بنبله وطهارته رغم المغريات والفتن كما يحتفظ الذهب برنينه رغم المصدئات والمغيرات. واختيار الرافعي خاصة الرنين من بين خواص الذهب رمزاً لتلك الخواص ينطق بلطف شاعرية الرافعي وسلامة طبعه، فإن خاصة الرنين أشبه خواص الذهب بعواطف القلب: هذه يثيرها ويحركها وقع الحوادث والمناظر، وذاك يثير موجاته نقر القضبان والأنامل. فليست القافية هي التي ألجأت الرافعي إلى اختيار كلمة الرنين، ولو فعلت لكان ذلك أوثق لشاعريته، لأن من أصدق الدلائل على شاعرية الشاعر ألا تصرفه قافية عن غرضه، ولا تستنزله عن بعضه، بل تخدم قافيته غرضه فيجتمعان له كلاهما في سهولة ويسر. وهذا من أصدق مظاهر الطبع في الشعراء

والمهم في بيت الرافعي أنه لم يشبه قلبه بالذهب من حيث قيمته ولا من حيث نوع رنينه، بل في الخاصة الواحدة التي يمتاز بها الذهب من سائر الفلزات غير النبيلة: أنه لا يفارقه رنينه، وإن اختلفت عليه المؤثرات والظروف. وهناك فلزات أخرى كالنحاس والفضة لها رنين قد يكون في الأذن أوقع من رنين الذهب لكن هذا خارج عن مقصد الرافعي. إنما الذي يريد الرافعي توضيحه بالتشبيه هو ثبوت قلبه للحوادث وعدم ذهاب المغريات والأهواء بلبه كما تذهب بأكثر القلوب والألباب. فهدته شاعريته إلى تشبيه قلبه في هذه الخاصة التي تميزه في القلوب بالذهب الكريم الذي يمتاز من غير النبيل من أفراد جنسه باحتفاظه بخواصه ورنينه، على رغم المؤثرات المغيرة، لا يشركه في ذلك فضة ولا حديد ولا نحاس

أما نوع العاطفة التي يستجيب بها قلبه للحوادث فقد أشار إليها ألطف إشارة في البيت الأول حين وصف الذهب بأنه الذهب الكريم. ويشهد للطف حس الرافعي في الشعر أنه اختار هذا الوصف دون كل الأوصاف التي يستقيم بها الوزن. فلم يقل مثلاً قلبي هو الذهب الثمين فيدع لكل متجن مترصد متكأ يتكئ عليه في تهمته التي يتهم بها. والرافعي طبعاً لم يكن يعرف الغيب لكن الشاعر المطبوع يتجنب المزالق بلطف حسه وقوة طبعه. وهذا مظهر آخر من أصدق مظاهر الشاعرية والطبع في الشاعر المطبوع

لكن الرافعي أراد أن يتبع تلك الإشارة اللطيفة إلى نبل قلبه بما يظهرها ويوضحها فلا يكون هناك شك في نبل ما يتحرك به قلبه من عاطفة، كما لم يكن هناك شك بعد بيته الأول في ثبوت قلبه على تلك العاطفة برغم الفتن والأحداث. أراد ذلك فأتبع بيته الأول بيته الثاني:

قلبي هو الألماس يع ... رف من أشعته ثمينة

والألماس يعرف بعدة خواص: يعرف بكثافته النوعية، ويعرف بصلابته، فهو يخدش ولا يخدش. لكن هاتين الخاصتين لا تصلحان مطلقاً لأن تكونا وجه شَبه بين الألماس وبين قلب الرافعي، لأنها إلى وصف القلب بالغلظة والقسوة أقرب. فهدى الرافعي لطف حسه وصدق طبعه مرة أخرى إلى اختيار الخاصة الواحدة من خواص الألماس التي تليق أن تكون جامعة بين الألماس وبين قلب مثل قلب الرافعي: خاصة أخذ الألماس للنور والتأثير فيه بتفريقه إلى أضوائه المتعددة بألوانها الزاهية الجميلة، ثم إرسال تلك الأضواء كلها مجتمعة غير مشتتة فتخرج منه باهرة يكاد بريقها يذهب بالبصر. وهي خاصة يشرك الألماس فيها الزجاج والبلور إلى حد ما، ولكن لا بتلك الدرجة التي اختص بها الألماس والتي هي أساس تقدير الناس له، فالألماس بهذه الخاصة الفريدة أشبه قلب الرافعي، وأشبهه قلب الرافعي فيما يتناول ويجمع من مختلف الأحاسيس الكريمة والعواطف النبيلة فيهذبها وينظمها ويرسلها أشعة قلبية كريمة طاهرة باهرة تعرفها في مقالاته رحمه الله في الرسالة، وتعرف قلبه بها في القلوب كما يعرف ثمين الألماس بأشعته من مزور الألماس.

أرأيت دقة هذين التشبيهين وحسن التمثيل فيهما وشموله وكرم المعنى مع كرم اللفظ؟ هذا هو الذي أخطأه سيد قطب فلم يفهم من ذلك اللفظ الواضح إلا ما تبادر إلى ذهنه من المعاني السطحية السوقية المتعلقة بالماديات وسوق (المجوهرات)، فيزعم أن هذا هو مراد الرافعي، ويحكم على الرافعي به وما يحكم إلا على نفسه. ولو كان العقاد هو قائل هذين البيتين لأدرك قطب منهما هذا المعنى الذي وضحنا مع تمام التطابق في أوجه الشبه بين طرفي التشبيه، ولأتخذهما دليلاً لا على نبل العقاد وسموقه وتفرده فقط كما يجب أن يقول، لكن أيضاً على اتساع ثقافته وعلمية تفكيره. لكن اصطناع المعاني العلمية في الأدب يحتاج فيما يظهر إلى شرط آخر حتى يعجب سيد قطب، يحتاج بعد الفهم إلى أن يكون مصطنع ذلك في الأدب هو العقاد.

على أن الرافعي رحمة الله عليه لم يكتف بما في بيتي التشبيه من دلالة على ما يريد مما فصلناه، بل أراد ألا يدع الأمر في ذلك للفهم وقد يخطئ، ولا للتأويل وقد يختلف، إذ قد يكون القلب ما يكون ويزعم صاحبه أنه نبيل يخفق بكل نبيل من العاطفة والشعور. أراد الرافعي أن يرفع الشك من هذه الناحية بالتصريح عما يريد فيكون ذلك تلخيصاً لمراد البيتين وتفسيراً لهما وقطعاً للشك في معناهما فأردفهما رحمة الله عليه بقوله:

قلبي يحب وإنما ... أخلاقه فيه ودينه

فهو يتأثر بالجمال في شتى مظاهره ومواطنه، لكن تأثره بالجمال وإن عظم لا يخرجه عما يرضي الخلق الكريم والدين القويم كما تخرج أكثر القلوب خصوصاً في هذا الزمن الغريب الكنود الذي كأنما طابع أهله الجحود فيأبون إلا أن يجعلوا شكر الله على نعمة الجمال معصيتهم لله فيه. ولا كذلك الرافعيُّ، فقلبه رحمه الله كان يستجيب لدواعي الجمال فيخفق له خفقاً ويهتز به اهتزازاً لكن من غير أن يخرج في ذلك عما يعلم أن لله فيه رضا. قلبه يحب وإنما أخلاقه فيه ودينه. وهذا عندنا من الفروق الأساسية بين المدرسة القرآنية التي ينتسب إليها الرافعي وبين المدرسة التي تتلقب بالجديدة وهي قديمة قدم الشهوة على وجه الأرض. وقد أشرنا إلى ذلك في كلمتنا الأولى ونرجو أن تكون لنا إليه عودة قريبة إن شاء الله

هذان موضعان أخطأ فيهما ناقد الرافعي غرض الرافعي برغم وضوح كلامه، فأخطأ لب الموضوع واتخذ ذلك دليلاً على ما الرافعي منه بريء

وموضع ثالث أخطأ فيه جوهر الموضوع مرة أخرى واتهم الرافعي، قول الرافعي فيما نقل الكاتب من رسائل الأحزان حين أراد أن يقص على صاحبه قصة حبه بغير ترتيب: (فإن هذا مما يحسن في تاريخ صخرة تتدحرج، أما أنا فسأقدم لك تاريخ لؤلؤة فريدة) هذا قول الرافعي الذي جعله سيد قطب مثالاً لمادية الرافعي ومغالاته (بالمجوهرات) إذ لا فرق لدى الفنان الحي بين أن يقص تاريخ صخرة وتاريخ لؤلؤة إلا أن يكون (الثمن) هو الفارق بينهما. والفنان الحي الذي يستشعر الحياة في أعماقها في رأي قطب كان يقول في هذا الموضوع إنه سيقص قصة بنية حية يدخل في تأليفها الحس والشعور (أو تاريخ نبتة تنمو من داخلها أكثر مما تنمو من خارجها) إلى آخر ما أظن أنه يدل على حياة الفنان. ولو جاء الرافعي بمثل ما قال صاحبنا ما سلم من قوارص كلمه وباطل تهمه. وإذا كان كتاب يضطرم بالحب ويتضرم بآثاره لا يدل عند مثل سيد قطب على حياة القلب الذي زاد به العذاب حتى فاض بالكتاب تنفيساً عن نفسه، فهل كان يدل على حياة ذلك القلب عنده أن يمثل في جملة عارضة بنبتة حية أو بنية حية، أو ما شاء أن يختارها من عالم الأحياء؟

على أن النبتة الحية أو البنية الحية التي يدخل أو لا يدخل في تكوينها الشعور لا تغني شيئاً في التمثيل لما أراد الرافعي أن يمثل له. إن الرافعي أراد أن يقول أنه سيقص قصة حب قليل الشبيه عزيز النظير: حب نادر كاللؤلؤة الفريدة لا حب عادي كالصخرة المتدحرجة. فالنبتة الحية أو أي بنية حية يقترحها قطب مما قرأ في علم الأحياء هي والصخرة المتدحرجة سواء في العادية والشيوع، من شاء يضع يده على مثلها وضع. ولو مثل الرافعي بها للحب القادر الذي يريد أن يقص قصته لما كان هو الرافعي في لطف حسه وسلامة طبعه ونفوذ بصره وصدق تمثيله، ولوقع فيما لا يصح أن يتهم من أجله بأنه شكلي ينظر إلى ظواهر الأشياء ولا يفقه بواطن الأمور. لا! ما كان الرافعي في مقام التمثيل للشيء الفريد النادر ليقع فيما كان يقع فيه صاحبنا الفنان الحي من التمثيل بنبتة حية أو بنية حية، دخل في تأليفها شيء غير الزمان والمكان أو لم يدخل. لكن الرافعي اختار للتمثيل شيئاً نادراً قابله بشيء عادي هو الصخرة المتدحرجة من السهل أن يراه الإنسان في مكانه المناسب

ومن الغريب أن الرافعي اختار للتمثل لحبه النادر الذي كان، شيئاً فريداً لا ينتج إلا من الحياة، ومن الحياة عند ملتقى بحرين، وإن كان هو في ذاته غير حي. وكلها أوجه شبه بين اللؤلؤة الفريدة وبين حب الرافعي الذي كان. فهو حب فريد أنتجته الحياة عند ملتقى قلبين أو نفسين مختلفتين في النوع اختلاف البحر والنهر وبينهما مع ذلك من الصلات الفطرية الوثيقة ما بين البحر والنهر. ثم هو حب كان وانقضى فهو كاللؤلؤة لا في الانفراد فقط ولكن في انقضاء النمو وفي عدم الحياة. ترى هل كان الرافعي رحمه الله ينظر إلى كل ذلك حينما مثل لحبه باللؤلؤة الفريدة ولم يمثل بالماسة الفريدة مثلاً، وهي والصخرة من قبيل واحد؟ أكبر الظن أنه كان ينظر إلى كل ذلك في مثله الذي اختار. ولئن لم يكن واختار بفطرته المثال الواحد الذي يشبه حبه من كل تلك الوجوه فلقد أقام من حيث لا يقصد الدليل الحسي الذي لا ينقض على انه رجل الفطرة السليمة والطبع الذي لا يضل. ولا يضره بعد ذلك ألا يسمو إلى فهمه أناس يتهمونه اتهام البغضاء، وهو مما يتهمونه براء وهناك أمثلة أخرى كثيرة أخطأ فيها سيد قطب جوهر الموضوع، لكنا نقتصر الآن على ما هو من قبيل الأمثلة السابقة في غير تفصيل إذ لا نرى الآن إلى التفصيل من حاجة.

هناك قول الرافعي عن الأعرابي الذي كانت الشمس تلوح له على حائط حبيبته أحسن منها على حيطان جيرانها: (قد والله صدق وبرت يمينه فإن في كلماته الشعرية لأثرا من عينيه، إذ يرى الشمس على حائطها كالشمس على البلور الصافي لا على الحجر والمدر) فظن سيد قطب أن الرافعي اختار البلور لأنه أثمن من الحجر والمدر، وليس كذلك؛ إنما اختاره لفعله في أشعة الشمس وتفريقها إلى الألوان المحببة التي يفرح بها الصغار إذا نظروا إلى الأشياء من خلال منشور من زجاج الثريات والتي تبدو للكبار إذا ترقرق الندى في ضوء الشمس في الصباح، وتبدو للكبار والصغار إذا انعكس الضوء المائل عن مرآة سميكة من البلور. ولا شك أن الأعرابي في سذاجته لو رأى الشمس ساطعة على (حائط) من البلور لراقته تلك الألوان ولفضلها على الشمس على بقية الحيطان. لكن سيد قطب برغم قراءاته في علم الضوء في الطبيعة لم يفهم عن الرافعي ما أراد فاتهمه مما هو منه براء

وهناك قول الرافعي في رسائل الأحزان: (ثم يجري كلامه فيها شعراً خالداً مطرداً كنهر الكوثر في رياض الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت). قال الرافعي هذا فزعم صاحبنا أن الرافعي لا يتشكك في أن النهر الذي حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت (أجمل) من النهر الذي حافتاه من العشب الأخضر ومجراه على الرمل والطين. ولا ندري كيف استباح أن ينسب إلى الرافعي كلاماً لم يقله ومعنى لم يقصده، وهو على أي حال فيه بعد حتى عن الواقع. فالنهر لا تكون حافتاه دائماً من العشب الأخضر، ولو كانتا فإن الرافعي لم يذكرهما بعشبهما، ولو ذكرهما ما كان ذلك حكماً منه للذهب بأنه أجمل من العشب لأن المقام ليس مقام تمثيل للجمال ولكن مقام تمثيل للخلود والاطراد. وليس هناك من شك، حتى عند مثل سيد قطب فيما نظن، في أن الذهب أمكن في الخلود والاطراد من العشب، بل ولا في أن العشب إنما يضرب به المثل في التغير والزوال لا في الاطراد والخلود، مهما كان حظه من الجمال. فماذا يقول الإنسان فيمن يتصدى لنقد أديب أيا كان، بله مثل الرافعي في أدبه، فيقرأ له ولا يفهم عنه، أو يفهم ولكن غير ما يريد أو عكس ما يريد مع وضوح اللفظ ووجود النص، ويتقول على الأديب غير ما قال، ويتجنى عليه غير ما يقصد، ثم يسرف عليه ويطيل فيه القلم واللسان، فإذا ما نبه إلى غلطه مضى في التجني والتجرم وزعم أن زلة الأديب المنقود زلة بألف، ككذبة الذي يقول أنه رأى أسدا يسير في شوارع القاهرة؟ ماذا يقول الإنسان في ناقد كهذا جديد أو قديم؟ وماذا يظن في إنسان كهذا؟

إن الرافعي هو المسكين لا شوبنهور!

محمد أحمد الغمراوي