مجلة الرسالة/العدد 264/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 264/الكتب
ديوان الجارم
للأستاذ حسنين حسن مخلوف
عهد إلي الأستاذ صاحب (الرسالة) أن أكتب عن ديوان صاحب العزة الأستاذ علي الجارم بك إذ كنت عن كثب من الديوان عند طبعه، وكان بيني وبين نغمات هذه القصائد والخيال الخصب الذي ملك علي سمعي وبصري في نسمات الأسحار، حديث ومجاوبة؟ وربما قرأت القصيدة ورددتها مراراً، وظللت مدة طويلة مأخوذاً بسحر البيان حتى أنسى الغرض الذي شرفني الشاعر بالقيام به. فأما إن كتبت عن الديوان فإنما أكتب عن مبلغ علمي، جاهداً أن أصور للقراء شخصية شاعرنا ممثلة في شعره، وأن أرسم ما أحسست به عند قراءتي شعره
إذا جلست إلى الأستاذ الجارم بك رأيت رجلاً تمثلت فيه أعصار الآداب العربية وفنونها من عصر امرئ القيس إلى اليوم؛ فهو قد قرأ الآداب العربية منذ نشأته، ووقف وقفة طويلة عند كل شاعر وكاتب، وحفظ ما استطاع أن يحفظ، فامتزج ذلك كله، وجاوبته نفس نزاعة إلى الأدب فكان الأستاذ الجارم بك. إن شئت أن ترى المتنبي وعمقه وغزارة مادته وجبروته الشعري فأجلس إلى الجارم بك وأقرأ شعره. وإن أردت أن ترى حضور البديهة ورقة الشعور ولباقة التعبير والروح الشعرية الوثابة التي تتمثل في الحديث والظرف والسلام والكلام، فأجلس إلى الجارم بك. فهو شاعر بطبعه، شاعر ببديهته، شاعر بكل معنى من المعاني التي تلمحها في روح الشعراء
إن قرأت أدباً عباسياً أو أندلسياً فرأيتهم يقولون: إن الشاعر لا يكون شاعراً حقاً إلا إذا تمكن من أدوات الأدب، ومارس شعر العرب، وملك ناصية الأدب، ثم أعانه على ذلك قريحة وقادة وبديهة مسعفة وخيال قوي، فإن ذلك كله موفور لشاعرنا الكبير
كان أستاذنا مصطفي صادق الرافعي - طيب الله ثراه - ينكر على الشعراء الذين أنبتتهم طبيعة مصر عمق الخيال وامتداد النفس الشعري؛ وكان يرى أن الشعراء المصريين صغار الدواوين لا يقف الواحد منهم على شاطئ بحر الخيال حتى ينزوي عن ذلك البحر. فلما حدثني بذلك الرأي، وكتب عنه في الصحف عزّ عليّ ذلك؛ فجئته في اليوم التالي بعدد من مجلة (المعرفة) وقد نشرت فيها قصيدة للجارم بك، ونسى محررها أن ينسب القصيدة إلى قائلها، وأطلعته عليها فطرب لها وبخاصة الأبيات الآتية منها:
لعبت بك الحسناءُ تدنو ساعة ... فتثير ما بك ثم تهجُرُ عاما
والحبُّ ما لم تكتنفه شمائلٌ ... غرٌ يعود معَرةً وأثاما
والحبُّ أحلام الشباب هنيئة ... ما أطيب الأيامَ والأحلاما
والحبُّ نيران المجوس لهيبها ... يحي النفوس ويقتل الأجساما
والحبُّ من سرَّ السماء فسمه ... وحياً إذا ما شئت أو إلهاما
يا جنةً لو كان ينفع عندها ... نُسْك لبتْنا سجَّدا وقياما
وسألني: لمن هذا الشعر؟ فلم أجب. وقلت: إن كان هذا شاعراً مصريّاً فقد اعترفت لهم بالقوة وعمق الخيال. إنك شاعر وكاتب ومطلع اطلاعاً وثيقاً، وعليك أن تنسب الشعر إلى صاحبه من غير أن أدلك على اسمه؛ فأجاب فوراً: إنه الأستاذ الجارم. فقلت: أتراني كسبت القضية؟ قال: إنني عندما أستحضر صورة وجه الجارم وهو من رشيد، ورشيد على ساحل البحر أحكم أن دمه ليس خالصاً لمصر؛ فليست كل شاعريته مصرية؛ كشوقي مثلاً فهو مجموعة من عقليات أمم كثيرة تعاقبت على الزمان بالمصاهرة كما قال هو عن نفسه
ولقد كان أستاذنا الرافعي قاسياً على الشعراء المصريين؛ وقسوته في ظني كانت تعود إلى عوامل محلية في علاقته بأدباء مصر وعلاقتهم به، فقد كانوا أثرين يغتصبون الشهرة اغتصاباً، ويتخذ كل شاعر شيعة تسبح بحمده، وكانت الشهرة الأدبية ميداناً للتزاحم ليقول كل واحد: أنا!! فيقول له الآخر: لست ذاك!. وأنا أرجو أن يطهر النقد الأدبي في العصر الحديث من هذه الصغائر والخزعبلات، وأن تتجه الجهود إلى بناء لا إلى الهدم، فالعصر عصر السرعة ونسيان النفس إن أرادت مصر نهوضاً حقاً، وغسلت نفسها في كل نواحيها السياسية والأدبية من قوله أنا! وبعدي الطوفان!
لكل أمة من الأمم بيئة خاصة، وعقلية خاصة، وتيارات في الحياة خاصة توجه أدبها، وهذا الاتجاه يتوارث على توالي القرون؛ فالمدح أو الرثاء في الشعر العربي من طبيعته، وتصوير الأشخاص ورسم صورة فنية لعمال العظماء كانت ولا تزال مجال الشعراء العرب قديماً وحديثاً، والأسلوب كذلك تراث نقلته إلينا الأجيال؛ فالأستاذ الجارم بك تمثلت فيه العقلية العربية وجزالة اللفظ قوة الأسلوب وضخامة التعبير في كثير من الأحيان. ويظهر أن رأيه أن يخدم الأدب العربي العالي بانتقال القراء إليه لا أن ينزل هو إلى القراء ويتملقهم، ويفني شخصيته فيهم، لذلك عهد إلى بعض تلاميذه يشرح الديوان
وأبرع ما ترى في شعره تصويره لشخصية مليكنا الشاب فاروق الأول. وقد تغلغل شعره في نهضة هذه الأمة الكريمة وفضل الأسرة العلوية عليها كقوله في (التاجية الكبرى) التي أنشدها في تتويج مولانا الفاروق:
لله يومك والضياء يعمّه ... فعشيه سِيان والأبكارُ
يومٌ تمناه الزمانُ وطالما ... مدّت إليه رءوسَها الإعصارُ
حامت نسور النصر حول جيوشهم ... حتى كأنّ غُبارها أوكارُ
وقوله في العيد المئوي لوزارة المعارف
فأتاها (محمدٌ) جَدّ (إسما ... عيل) بالخصب مورقاً والحياةِ
هل رأيت النجم الذي يُبهرُ العي ... شَ ويمحو دياجر الظلماتِ
هل رأيت الآمال بعدَ نفار ... واقتبال الشبابِ بعد فواتِ
شاعران في مصر سجلا عزها القديم والحديث، ونثرا على صفحات الأوراق أمجاد العرب والفراعنة في صورة جميلة جذابة ومنطق قويّ خلاب هما شوقي والجارم؛ كلاهما أحس بأمجاد الآباء، وامتزاج روحهم بمصر الحديثة، واتخذ من ذلك سبيلاً إلى إنهاض الشباب وحفز الروح الوطنية والعزة القومية
ولكن شوقي شغف بمصر القديمة بقدر شغف الجارم بمصر العربية والحضارة الإسلامية؛ هما نشأتان في طريقين مختلفين إحداهما في طريق مختلطة اتصلت ببيت الملك والعرش أيما اتصال، وعرش مصر تراث عربي فرعوني. ذلك مجال شوقي.
والأخرى في طريق خالصة للعروبة تمت إلى الدين واللسان العربي بأقوى الأسباب منذ الصبا إلى يوم الناس هذا. ذلك مجال الجارم. وكلاهما يغرف من بحر العربية الأكبر، وتطاوعه ثقافته العربية الواسعة فيلعب بالألفاظ لعب الرياح بالأعواد
اقرأ قصيدته بمناسبة انقضاء خمسين سنة على دار العلوم وأنا ضمين لك أن أعطافك ستثب مع أعطاف الشاعر حين كان يلقيها ومنها مخاطباً دار العلوم: - بسمةٌ للزمان أنت تلتها ... كشرة للزمان عن أنياب
كلما رمتُ خدعْ نفسي بنفسي ... كشفت لي المرآة وجه الصواب
أين تلك الأيام بانت وبنَّا ... وتولت بشاشة الأحباب
إيه دارَ العلوم كنت بمصر ... في ظلام الدُّجى ضياء الشباب
في زمانٍ من كان يُمسك فيه ... قلما عُدّ أكتب الكُتاب
تخذت فيك بنت عدنان داراً ... ذكرتها بداوة الأعراب
فإذا بكى الجارم واستبكى أحسست زفير الحزن يضطرم في قلبك، ودويّ صوته يعتصر عينيك. وبخاصة قصيدته في رثاء المرحوم أبي الفتح الفقي الذي كان وكيل دار العلوم ورئيس جماعتها
أما الحكم البالغة والأمثال السائرة فهي منثورة في جنبات قصائده كقوله:
الدّين طبّ النفس من آلامها ... وهداية الحيران في بيدائه
يكره الظلمُ كلَّ شيء من الضو ... ء ولو كان في ابتسام الفتاة
وفي عزم شاعرنا بعد فترة وجيزة أن يخرج للناس الجزء الثاني من الديوان وفقه الله إلى خدمة العروبة، وأعلى به منار الأدب.
حسنين حسن مخلوف