انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 261/الكبريت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 261/الكبريت

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 07 - 1938



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(أشعل لي سيجارة)

وكنا نسير بسرعة، فيداي لا ترتفعان عن عجلة القيادة مخافة أن يؤدي أضأل انحراف في التوجيه إلى اصطدام بشيء. ثم إن فمها حلو، وشفتيها رقيقتان، وليس عليهما شيء من الأحمر، ولست أحب السيجارة المبتلة، ولكني قلت لنفسي إن رضابها لا بد أن يكون عذباً.

وكانت السجاير بيني وبينها على المقعد، فتناولتها، ثم جعلت تتلفت وتتحسس باحثة عن الكبريت فقلت:

(هو في جيبي -)

فدست يدها في الجيب، ثم ضحكت

قلت: (ماذا؟ أشركينا. . .)

قالت: (ثلاث علب كبريت. . .!؟ ما هذا؟)

فصحت، والتفت إليها برغمي، وأحسست وأنا أفعل ذلك أن يدي ترعش.

(بس؟)

قالت مستغربة: (بس؟ هل تريد أن تجتر بالكبريت؟)

قلت: (هذه سرقة. . . لا بد أني سُرقت. . . كان في هذا الجيب خمس علب، فأين ذهبت الاثنتان؟ هه؟ طارتا؟ لا يمكن! احترقتا؟ مستحيل! واضح جداً أنهما سُرقتا. . . فمن هو السارق يا ترى؟ هذه هي المسألة التي تتطلب الحل السريع. . . أهو أنت؟ من يدري؟)

قالت: (والله ما أخذت شيئاً، ولا كنت أعرف أن جيبك هذا فيه كبريت. . . بل لم أكن أدرك أن هنا جيباً. . . ثم ماذا أصنع بالكبريت وأنا لا أدخن عادة؟)

وكان في صوتها الفضي اللين من الجزع ما أضحكني فقلت:

(لا عليك يا فتاتي. . . كوني سارقة أو لا تكوني. . . فأنت على الحالين. . . ماذا؟ هه؟ قولي أنت. . .)

فابتسمتْ - أحسست أنها تبتسم، فقد كنت معنياً بالطريق الغاص بالناس والسيارات والغنم والحمير، والجمال. . . ولا سيما الجمال فإنها شر ما أخاف، فإن لها لفزعاً غريباً من السيارات.

وصمتنا قليلاً، ثم فركت جبينها الصابح ببنانها وقالت كأنما تذكرت شيئاً:

(قلت إنه كان في هذا الجيب خنس علب، فهل تعني أن في جيوبك الأخرى كبريتاً؟)

قلت (لم يخب ضني فيك يا فتاتي. . . ذكية والله!)

وكنا قد بلغنا أول شبرا، فاستوقفني وزعمت أنها تريد أن تشرب، فوقفت، ونظرت إليها - حدقت في وجهها - متفرساً ثم قلت:

(علي بابا يا حميدة؟) وتناولت ذقني بيدي

قالت: (ماذا تعني؟)

قلت: (هل تريدين أن تشربي، أو تريدين أن تريْ ما في جيوبي من الكبريت؟ أنا أريحك، وأرضي فضولك. . خذي!)

وأخرجت من كل جيب بضع علب من الكبريت، وألقيت ذلك كله على المقعد بيننا فصار كوماً صغيراً

فقالت: (إحدى عشرة علبة! مدهش! ما حاجتك إلى كل هذا؟ لماذا تحشو به جيوبك، وفي واحدة منه الكفاية؟

قلت: (هذه أسئلة ليس لها عندي جواب. وما أضن بالجواب لو أني كنت أعرفه، وأحسب هذا مظهراً لبعض ما يخفي على المرء من نفسه، فما أبالي أن أخرج وليس معي فلوس، وليس يكربني أن أكون في مكان منقطع وليس معي سجاير، فإني أستطيع احتمال هذا الحرمان، ولكن لا أطيق أن أمشي إلا إذا كانت جيوبي مفعمة بالكبريت، وأشعر أن رأسي يدور، وأني كالضائع التائه إذا نقص الكبريت الذي معي عن حد الكفاية في رأيي وإحساسي. . . وحدُّها عندي أن تكون جيوبي ملأى. . . وأن أتحسس هذه الجيوب من الخارج فأشعر بالرضى والارتياح. . .

لا أدري لماذا ولكني هكذا. . . والآن أما زالت بك الحاجة إلى الماء تطفئين به ضمأك؟)

فضحكت وقالت (أهذا مظهر لشذوذ العبقرية؟)

قلت (لا تتهكمي. . . إن لكل منا ولعاً بشيء، وحرصاً على شيء. . . وفي وسعك أن تقولي إن لكل منا موضع ضعف، وأحسب أن مواضع الضعف عندي كثيرة، ولكن هذا من أبرزها، وإن كان أخفاها على الناس، فإن من حسن الحظ أن الناس لا يبلغ من فضولهم في العادة أن يتحسس بعضهم جيوب بعض، وأظنهم يرون انتفاخ جيوبي فيظنون ما فيها ورقاً ولا يستغربون)

قالت (ولكني لا أفهم. . .)

قلت (ولا أنا. . ولا أعلم حتى متى بدأت هذه العادة. . . لقد اعتدت أشياء كثيرة أستطيع تعليلها. مثلاً في وسعي أن أكتب والمدافع حولي تطلق قذائفها، فلا أكاد أسمعها، والمحقق على كل حال، أني لا أتأثر بها، ولا أشغل عما أنا فيه. . . اعتدت ذلك لأن الضرورة قضت به وألزمتنيه. - ضرورة العمل في الصحف اليومية التي يتخذ الزوار من مكاتبها مقهى أو مصطبة أو ناديا. . . وأنا أستحي أن أحجب نفسي أو أرد زائرا، فلم يبق لي مفر من اعتياد العمل في هذا البيمارستان. . . ولكن الكبريت مسألة أخرى. . . لا أذكر متى بدأت احتفظ به وأحرص عليه. . . وأنت تسخرين وتقولين إن هذا مظهر لشذوذ العبقرية أو جنونها. . لا يا سيدتي. . . لا عبقرية ولا يحزنون. إنما هو عندي مظهر لنزعة نفسية خفية كان من الممكن - لو أتيحت لها فرصة. . أن تظهر في صورة أخرى، ولكن ما هي هذه النزعة؟؟ هذا ما لا أعرف. . . ولكن أتعبني كثرة الغوص في أعماق نفسي على الأصل في هذا الحرص على الكبريت، فنفضت يدي يائساً، وأسلمت أمري إلى الله، وللمتهكمين والمتهكمات من أمثال حضرتك. . . .)

فضحكت، فقلت (والآن هل نمضي؟)

وعدت بها إلى بيتها، وقلت لأمها وأنا أسلم عليها (قد رددت الأمانة فاستودعك الله)

فتعلقت بي حميدة وقالت: (حتى تسمع ماما حكاية الكبريت) وسمعت (ماما) حكاية الكبريت، واستغربت - كما كان لا بد أن تفعل - وأسدت إلي نصحاً كثيرا، لا شك أنه نفيس، وأكدت لي أنها تخشى علي الاحتراق، وأيدتها حميدة فزعمت أني كالبركان الذي لا يؤمن انفجاره في أية لحظة، وكانت النتيجة التي لا معدى عنها أن حميدة وماما أخلتا لي جيوبي من الكبريت. . .

وانحدرت إلى الشارع، وأنا أحس أني كما قال القائل (خالي الوفاض، بادي الأنفاض) وكان من المستحيل أن أعود إلى بيتي هكذا، وماذا عسى زوجتي تقول حين ترى أن جيوبي فرغت من الكبريت؟؟ إنها تكون حكاية لا آخر لها، لهذا لم يسعني إلا أن أعرج على دكان وأشتري مقدارا كافيا من رضى النفس وراحة البال. . . .

إبراهيم عبد القادر المازني