انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 26/البلجاء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 26/البلجاء

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1934



للآنسة سهير القلماوي ليسانسييه في الآداب

ظلت العراق شوكة في حلق الدولة الأموية إلى أن جاءها منه ما قوض أركانها وهدم سلطانها. وظلت العراق موطنا لكل خارج على الدولة الأموية تأوي كل من يرى فسادا فيما آلت إليه الحال وكل من يحس سخطا على القائمين بالأمور. آوت العراق أهم فرقتين كانتا ساخطتين على خلفاء بني أمية وسياستهم وهم الشيعة والخوارج.

كان هم كل وال جديد على العراق أو أحد مصريه الكوفة والبصرة، أن يحارب هاتين الفرقتين حربا تختلف قوة وضعفا باختلاف شدة معارضتهما أيام ولايته وباختلاف طبيعته الشخصية وما تحتمل تلك الطبيعة من منظر سفك الدماء وإزهاق الأرواح

ما كاد العراق يتنفس في شيء يسير من الراحة بعد موت زياد حتى ابتلاه معاوية بمن هو إلى السر أسبق ولو في تهور، وإلى سفك الدماء أسرع ولو في ظلم وعدوان - ابتلاه بعبيد الله بن زياد

أما الشيعة فكانت تصطنع الاستكانة شيئا ما، وما زال عهدها بزياد قريبا وما زال مقتل حجر بن عدي وصحبه يتمثل لها فترتجف لهوله القلوب ويثور من اجله في النفوس شيء من السخط. ولكنه سخط مستسلم أو قل هو سخط يستعد ويدبر للثورة والانتقام

وأما الخوارج فما زالت دعوتهم قوية لا تعرف تسترا ولا رفقا كانت شعلة تحرق ما يقف في طريقها كانت نارا مقدسة من الإيمان الجارف القوي تلهبه القلوب وتلهبه الضحايا البريئة الطاهرة التي كانت تقدم في كثير من التنكيل والإسراف قربانا على مذبحه.

أصبحت البصرة منذ مقدم ابن زياد مرجلا يغلي بما فيه من خوف وقلق واضطراب، كل يتستر بعقيدته، يجتمع وصحبه ولكن في حذر كل الحذر. كل يبث دعوته ولكن في حيطة دونها كل حيطة. عرف أهل البصرة في وإليهم الجديد نوعا من البطش قلل في نظرهم شيئا من بطش زياد على قرب عهدهم به. هذا البطش الجديد لم يكن يقف عند حد، لم يكن يعرف شيئا من الأناة في تنفيذ اشد العقوبات وانكاها، لم يكن يعرف هوادة ولا تريثا وإنما كان قوة تكتسح أمامها كل شيء، لا تعرف إلا إنها قوة وإلا إنها يجب ان تندفع.

نال الخوارج من هذا البطش ومن هذا النكال النصيب الأوفر فقد قتل منهم عدد غير قلي ولم يكن قتلا عاديا وإنما كان قتلا يقصد به الردع والإرهاب كأشد ما يمكن ان يكون الردع والإرهاب كان صلبا، كان تقطيعا للأيدي والأرجل في الساحات العامة، كان قتلا لا ككل القتل، كان القتل صبرا ولم تكن الضحايا فرادى وإنما كانت جماعات.

عرف الخوارج منذ أول ظهورهم بشجاعة نسائهم وجهادهن معهم. ويذكر الخوارج في تاريخهم عددا غير قليل ممن استشهدن وحاربن بل ممن قاتلن وتبارزن في سبيل نصرة المذهب الجديد. ولقد غاظ زياد أمر هؤلاء النسوة، ماذا يفعل بهن لقد نهى الرسول عن قتل نساء المشركين أثناء حروبه معهم فكيف بنساء المسلمين. ولكن أمر هؤلاء النسوة لم يكن يسيرا. لقد كن ينشرن الدعوة فتسير كالنار في الهشيم لابد لهن من عقاب رادع، لابد لهن من شيء فوق طاقتهن حتى يعدن إلى ما خلقن له حتى يدعن الجهاد لمن هم به أولى وعليه أقدر. وتذكر فعل الوالي قبله. لقد قتل زياد خارجية وعراها وعراها في الميدان العام فلم تظهر خارجية بعدها أمرها أيام زياد. لقد خفن العار وإن لم يخفن الموت. أتتحسبن انه لن يقدر على هذا، كلا فوالله لو ظفر بإحداهن ليجعلها عبرة لمن بعدها.

وبسط هذه القلاقل كان أبو بلال مرواس زعيم الخوارج إذ ذاك يجتمع بصحبه كل مساء يتدارسون مذهبهم ودينهم ويتدبرون حالهم وما يستطيعون أمام هذا السلطان العاتي. يفكرون في أمور الدولة وأعمال الوالي الجديد ويدبرون خططا جديدة لبث الدعوة وتيسير السلطان لمذهبهم.

كان بين هؤلاء الصحب امرأة تعرف بالبلجاء فإذا ما جلس أبو بلال جلست إلى جواره تستمع إلى حديثه في شغف وتلتقط الكلام من فم هذا الذي كادت تؤلهه الجماعة كأنما كلامه قطرات ماء وكأنما إذنها قد أعياها طول العطش. وكان أبو بلال سمح الطبع قوي الإيمان فاستراح لقرب تلك السامعة، وحفظ لها في قلبه مكانة عظيمة. لقد أعجبه منها إيمانها وتعلقها بالمذهب، تسأل عما أشكل عليها فيه فلا تمل سؤالا. ولم يكن هو ليدخر جهدا حتى يوفق في إجابتها إلى الجواب المقنع الشافي.

ظلت البلجاء هكذا زمنا إلى ان آمنت بالمذهب الجديد إيمانا لا يرتضى سكوتها وهدوءها. فبدأ الإيمان يملي عليها العمل والتضحية في سبيله شأن كل إيمان يتم نضوجه ويعم القلب نوره. قامت البلجاء بدورها تبث الدعوة بين أهل البصرة فيلبي دعوتها الكثير. ولكنها ما زالت تختلف إلى مجلس أبي بلال بعض الليالي تأنس بالشيخ وبصحبه فينمو إيمانها في هذا الجو المشبع إيمانا ويقوى جلدها على احتمال أتعاب النهار وأخطاره

جلس أبو بلال ذات ليلة وانضم حوله الصحاب متشوقين إلى سماعه، فما عرفوا لديه إلا الصواب، متلهفين إلى حجمه وآيات إيمانه، فقد كانت لقلوبهم وعقولهم خير غذاء في هذا الجو المكفهر المضطرب. ولكنه ما كاد يلتئم جمعه ويبدأ حديثه حتى قام إليه أحدهم وهو غيلان بن خرشة الضبي وقال: (يا أبا بلال أني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء واحسبها ستؤخذ.)

وجم المجلس وفكر الشيخ طويلا. فالبلجاء كانت من خير أعوانه، وكان الذين دخلوا على يديها في المذهب الجديد غير قليلين، فلابد إذن أن ابن زياد عرف هذا ولابد أنه بعد أن عرف قدر وفكر، ولابد انه من بعد أن قدر قرر، ويا عظم ما قرر! وتنازعت نفسه عوامل عدة ولكن أقواها كان الخوف على البلجاء، خوف العار لا خوف القتل.

ولم يستمع القوم لأبي بلال هذا المساء فقد كان فكره مشغولا وعقله مضطربا. ينتظر البلجاء فلا تأتي، ويطول الانتظار. وما كاد المجلس يخلو حتى عدا إليها مسرعا. وفي الطريق قدر رغم إسراعه وفكر. ماذا يقول لها؟ ثم يصحها؟ لقد كان يذكي إيمانها كل يوم فيسره هذا الإذكاء، أيطفئ اليوم هذا النور بيده أو يداريه فيحجب شعائه، ولكن بطش زياد عظيم وانه لجبار عنيد.

وصل إلى بيت البلجاء فوجدها قد آوت إلى فراشها من تعب النهار ولكنها ما كادت تسمع صوت أبي بلال في الفناء حتى قامت إليه مسرعة وقلبها يكاد يحطم صدرها من اضطرابه ما سر هذه الزيارة المتأخرة؟ وماذا عند أبي بلال وقد آوى الناس إلى فراشهم إلا القليل؟ ولكن أبا بلال لم يطل عليها الاضطراب فقد قر رأيه ولم يعد لديه إلا قولا واحد يقوله لها

- إن الله قد وسع على المؤمنين بالتقية فاستتري فان هذا المسرف على نفسه، الجبار العنيد قد ذكرك.

وكان موقف البلجاء جليا واضحا فلم يكن ذكر ابن زياد لها أمرا مستبعدا ولم يكن خوف أبي بلال عليها شيئا غير منتظر ولكن ألام يدعوها أإلى اليقين وهل عرف التقية ذوو الإيمان القوي؟ ورنت في إذنها الآية (إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان) أي رحمة، أي شفقة، أي تقدير للإنسان أي فهم لضعفه ولنواري ولكن الإيمان النار القوية الملتهبة ما هذه الحشرات التي تدنو منها الخوف؟ أخوف الموت؟ أعار التعرية؟ والنار القوية تحرق كل حشرة تدنو منها فتزداد بهذا الاحتراق قوة ولهبا وهؤلاء الذين دعتهم فلبوا أيشهدون خبو هذه النار التي مسهم شررها فآنسوا إليه؟ كلا كلا وايم الله!

- أن يأخذني فهو أشقى أما أنا فما احب أن يعنت إنسان بسبي.

السوق هائجة مائجة والناس تروح فيها وتغدو وعلى وجوههم غبرة قاتمة حاسرة. كل وجه عليه مزيج من علائم الحزن والاضطراب والاشمئزاز والسخط ماذا في السوق ما الذي يثير كل هذه العوامل في نفوس الناس فتغير من ملامحهم تغييراً أليما منكرا:

جاء أبو بلال إلى السوق والفى القوم على تلك الحال ولكن لم يتساءل فقد وجد أبصارهم عالقة بشيء منصوب عن بعد فما لبث أن رفع هو بصره إليه، مإذا؟ أجسد امرأة قطعت يداها ورجلاها؟ ومن تكون تلك التي أثارت حفيظة الأمير فنكل بها هذا التنكيل البشع؟ الجواب يضطرب في صدره ولكنه لا يقوى على تصديقه والمرء إزاء المصائب اعزل لا سلاح له إلا محاولة إنكار الواقع أيكون حلما؟ أأكون مخدوعا؟ والمصائب ثابتة في عالم الحقيقة تهزأ بهذا الإنكار.

دنا أبو بلال من أحدهم وفي نفسه أمل ضعيف خائر وهمس في إذنه من تكون؟

- البلجاء

واقترب أبو بلال من الجسد المنصوب وعيناه عالقة به ونفسه كليمة حسرى. ما اعجب الحياة وما أمر هزء الحقيقة إذا ما انتصرت على كل إشفاق من حقيقتها.

وأملت البلجاء على أبي بلال درسا عوض كل ما ألقاه عليها من دروس. ما هو؟ ما قيمته؟ وما قيمة تعظيم الجماعة إياه امام هذه في عليائها؟ ما أعظمها! ما اجلها! وما أحلى رضائها عن نفسها! وعض الشيخ على لحيته وقال لنفسه:

لهذه أطيب نفسا عن بقية الدنيا منك يا مرداس.

سهير القلماوي