مجلة الرسالة/العدد 257/محمد إقبال
مجلة الرسالة/العدد 257/محمد إقبال
شاعر الإسلام وفيلسوفه
للدكتور عبد الوهاب عزام
بقية ما نشر في العدد الماضي
ومن كلامه في (نقش فرنك) وهو القسم الرابع من (ييام مشرق):
جمعية الأقوام
يريد المرزوءون أن يسنوا سنة جديدة ليمحوا آية الحرب من هذا المحفل العتيق
فما عرف قبل اليوم أن جماعة من سراق الأكفان ألفوا جماعة لتقسيم القبور
نيتشه
خفق قلبه لضعف عناصر الإنسان، وخلق فكره الحكيم صورة أحكم وأمتن، فأثار بين الفرنج هياجاً بعد هياج: مجنون ولج مصانع الزجاج
إذا بغيت نغمة ففر منه، فليس في نايه إلا قصف الرعد. قد دفع مبضعه في قلب الغرب واحمرت يده من دم الصليب. هذا الذي بنى معبداً للصنم على قواعد الحرم، قد آمن قلبه وكفر دماغه
جلال الدين الرومي وهيجل
كنت ليلة أحاول أن أحل عقد الحكيم الألماني. ذلك الذي خلع فكره على الأبدي كسوة الآني، والذي أخجل العالم إذ ضاق عن سعة خياله. فلما نزلت في بحره صارت سفينة العقل طوفاناً، ثم سحرني النوم فأغمضت عيني عن الفاني والباقي، وازداد شوقي وقدة فتجلى لي وجه الشبح الإلهي: الشمس التي أضاءت آفاق الشام والروم، والذي وضع شعلته مصباح هدى في هذه الدنيا المظلمة، الذي تنمو المعاني من كلماته كما تنمو شقائق النعمان
قال لي كيف تنام. استيقظ، إنك تجري سفينة في سراب. إنك تجتاز طريق الفسق بالعقل. إنك تبحث عن الشمس بمصباح
وأما أسرار خودي ورموز بن خودي: أي أسرار الذاتية ورموز اللاذاتية (أو أسرار الأنانية ورموز الإيثار)، فهما المنظومتان اللتان شرح فيهما آراءه شرحاً مرتباً وجعل للبحث خطة واضحة
بين في الكتاب الأول قوة الذاتية وضرورتها في الحياة، ودعا إليها: هذه الحياة جهاد مستمر، والرجل الحي حقاً هو الذي يوقظ كل قواه، ويستخرج كل ما في فطرته، ويتأهب بمواهبه وأدواته للجهاد. السكون موت، والتقليد فناء، والحركة حياة، والاستقلال وجود. . . الخ
وبين في رموز بن خودي كيف تلتئم هذه الفردية القوية الكاملة في الجماعة، وكيف تقوى الجماعة وتضعف، وكيف تصلح وتفسد، وكيف تهتدي وتضل:
يشرح في أسرار الذاتية بعد المقدمة موضوعات منها:
أصل نظام العالم من الذاتية، وتسلسل حياة أعيان الوجود موقوف على استحكام الذاتية
حياة الذاتية من تخليق المقاصد وتوليدها
الذاتية تستحكم من العشق والمحبة
(تضعف بالسؤال
(إذا استحكمت تسخر قوى المعالم الظاهرة والخفية
ففي الذاتية من اختراع الأقوام المغلوبة ليضعفوا من طريق خفي أخلاق الأقوام الغالبة
أفلاطون الذي أثر في التصوف والآداب الإسلامية ذهب مذهب الخروفية، والاحتراز من أفكاره واجب
ثم بين أن تربية الذاتية لها ثلاث مراحل: الأولى الطاعة، والثانية ضبط النفس، والثالثة النيابة
الإلهية
في المقطوعات الثانية يتكلم في مثل هذه الموضوعات:
الأمة تظهر من اختلاط الأفراد، وكمال تربيتها من النبوة.
أركان الأمة الإسلامية - الركن الأول التوحيد - اليأس والحزن والخوف أمهات الشرور، والتوحيد يزيل هذه الأمراض الخبيثة. الركن الثاني الرسالة - المقصود من الرسالة المحمدية تأسيس الحرية والمساواة والأخوة بين بني آدم - الأمة المحمدية مؤسسة علم التوحيد والرسالة فليس لها حدود مكانية. الأمة المحمدية ليس لها نهاية زمانية أيضاً - حياة الأمة تحتاج إلى مركز محسوس، وهو للمسلمين البيت الحرام
خلاصة معنى الكتاب وتفسير سورة الإخلاص
وهذه أمثلة من أسرار خودي:
نهر الكنج وهملايا
قال نهر الكنج يوماً لجبل همالايا وهو يجري في سطحه! أيها المتوج بالبرد من فجر الخليقة والمنتطق بالأنهار الجارية، جعلك الله نجى السماء، ولكن حرمك التبختر في العراء، ما غناء الرقاد والرسوخ والرفعة، وقد سلبت الحياة والحركة؟ الحياة سعي دائم كالموج: وجوده حركته الدائمة. فلما سمع الجبل تعبير النهر أرسل أنفاسه بحراً من نار وقال: يا من اتخذت صفحة مرآتي وأكننت مئات من مثاله في صدري. هذا التبختر زينة الفناء! من ذهب عن نفسه فقد حرم البقاء. قد غفلت عن مقامك وفخرت بزوالك يا وليد الفلك الرفيع؛ إن خيراً منك الساحل الوضيع. قدمت نفسك قرباناً للمحيط، ونثرت روحك لقاطع الطريق. كن في بستانك ورداً ولا تذهب وراء القاطف لتنشر عبيرك. إن الحياة أن تنمو في مكانك، وأن تنشر العبير في بستانك
خلت القرون وأنا في طينتي ثابت القدم، وتحسبني إلى الغاية لم أتقدم؛ كلا قد عظمت حتى بلغت السماء، واستراحت على سفحي الجوزاء. ضل وجودك في البحر الخضم. وصارت ذروتي مسجد الأنجم. عيني بأسرار الفلك بصيرة، وأذني بطيرانه خبيرة. احترقت بنار السعي الدائم فجمعت في صدري الجواهر (في صدري حجارة، وفي الحجارة النار، وليس للماء إلى هذه النار سبيل) إن كنت قطرة فلا ترق نفسك بيدك، بل جاهد اللجة وحارب اليم لحياتك. كن جوهرا لألاء، يزيد جيد الحسناء ضياء، أو اسم بنفسك وأسرع المطار، وكن سحابا يرمي البروق ويمطر البحار، ليستجدي البحر إحسانك ويشكو ضيقه عن إنعامك ويرى نفسه أقل من موجة لديك، ويرتمي على قدميك
قصة الطائر الذي أنهكه العطش
بلغ العطش من طائر جهده فاضطرب نفسه موجة من الدخان في صدره، فأبصر في بستان شذرة من الماس الوضاء، فخيل إليه العطش أنها ماء، وخدعت الطائر المجهود هذه الشذرة المتلألئة كالشمس فتوهم الحجر الصلب ماء سائلاً، وغره من هذا الجوهر بريقه فضرب بمنقاره فلم تنقع غلته. قالت الماسة: أيها الطائر المسحور! لشد ما ضربت بمنقار الغرور! لست قطرة من الماء، ولا مشربة للظماء ليست حياتي من أصل غيري. إن محاولة التقاطي جنون وغرور، وغفلة عن الحياة الذاتية الظهور. إن مائي يكسر من الطير منقاره، ويصدع من الإنسان جوهر روحه. خاب أمل الطائر فأعرض عن هذه الشذرة الوضاءة، وانقلب الأمل في صدره حسرات، واستحالت أنيناً من النغمات. ثم بصر بقطرة من الطل على فنن من الورد تتلألأ كدمعة في عين البلبل ضياؤها أفناناً في وهج الشمس وهي من خوف الشمس في رعده كوكب ولدته السماء فلبث لمحة في نشوة الظهور والضياء، وخدعته ألوان الأكمام والأزهار فلم يأخذ من الحياة نصيباً كدمعة العاشق العليل، زانت الهدب لتسيل.
ويسرع الطائر إلى فنن الورد فيلتقط قطرة الندي
أيها المبتغي نجاة من الأعداء!! خبرني أجوهر أنت أم قطرة من ماء. ألم تر إلى الطائر حين أذاب العطش مهجته كيف وقي بحياة غير حياته؟ لم تكن القطرة في صلابة الجوهر، ولكن كانت الماسة صلبة المكسر
فلا تغفل عن حفظ الذاتية لمحة، وكن قطعة ماس لا قطرة
كن ناضج الفطرة راسخاً كالجبال وتحمل بحاراً من السحاب الهطال. وجد نفسك تقوي نفسك واستحل فضة بجمود زئبقك. أظهر نغمة الذاتية من أوتارها، وتجل للناس بأسرارها
في الكلام على الوقت
اسمع نكتة تضيء كالدر، لتعرف فرقا ما بين العبد والحر: العبد ضال في الليل والنهار، والزمان في قلب الحر ضال. العبد ينسج من الأيام كفنه ويخيط الليل والنهار على نفسه، والحر يخلع نفسه من الطين ثم ينسج على الزمان محرابه المتين. العبد طائر في شبكة الصباح والمساء، حرمت روحه لذة السبح في الهواء وصدر الحر الهمام، قفص لطائر الأيام. فطرة العبد تحصيل الحاصل، وخواطره تكرار قاتل. مقامه من الجمود واحد، وصوته بالليل والنهار راكد. والحر كل حين خلاق، يسكب نعمه مجددة في الآفاق. فطرته لا تحتمل التكرار، وليست طريقة خلقة البر كار. العبد سلاسل من أيامه، والقضاء والقدر ورد لسانه، وهمة الحر مثيرة على القضاء قصور يده الحادثات كما تشاء. الماضي والآتي ماثلان لديه، والآجل عاجل بين يديه. . .
نضر الله عهداً كان سيف الزمان، حليف أيدينا على الحدثان، فبذرنا الدين في أرض القلوب، ورفعنا الحجاب عن وجه الحق المحجوب. . .
وحلت عقدة الدنيا أناملنا، ونظر وجه الأرض سجودنا وشربنا الصهباء من دن الحق، ثم سرنا بنشوته بين الخلق، يا من أترعت كأسه الخمر المعتقة، وأذابت كأسه الصهباء المحرمة، وملأه الكبر والغرور، فعيرنا بالفقر والمتربة. لقد كانت كأسنا كذلك زينة المحافل، يوم كنا وصدرنا بالقلب آهل، وثار من غبار أقدامنا عصر حديد، ينجلي بكل أمل بعيد ورويت مزرعة الحق بدمائنا، وسعد عباد الحق ببلائنا، ودوى العالم بتكبيرنا، وعمرت كعبات من ترابنا. وأنزل الحق كلمة (أقرأ) فينا، ثم قسم رزقه بأيدينا. فإن يكن ذهب منا الخاتم والتاج، فلا تحقر ذلك الفقير المحتاج. إن نكن يزعمك مفسدين، وبالأفكار العتيقة مغرمين، فنحن لا نزال الأحرار أنصار التوحيد، قوامين على العالمين والله شهيد
فرغنا من غم اليوم والغد، وحالفنا الله الأحد، فنحن في قلب الحق سر مكنون، ونحن ورثة محمد وموسى وهارون. لا يزال نورنا في الشمس والقمر مصوناً، ولا يزال سحابنا بالبرق مشحوناً
إن ذات المسلم مرآة الحق. وإن وجود المسلم من آيات الحق
هذه أمثلة قليلة من شعر إقبال، ولإقبال من الآراء والفكر والخيالات ما يستعصي على الحصر. ولكن يستطيع دارس شعره أن يقول إن أدبه يتناول العالم كله، وأن فلسفته تقوم على قواعد أبينها القوة - قوة الفرد وقوة الجماعة وقوة الأخلاق - والاستقلال الذي لا يعرف التقاليد، والحرية التي لا تضيقها قيود، والجمال في الأنفس والآفاق
ومقصده الأعلى تهذيب الإنسان وخاصة المسلم، يشرح له من حقائق الحياة، ويبين له من مثل الفضيلة، ويكشف له ن أسرار الإسلام ومجد المسلمين الأولين حتى يملأه قوة وحماساً وأملاً وإقداماً، ثم يوجه في معترك الحياة إلى الغاية التي عندها شرف الدنيا والآخرة. وليس يتسع المقام لتفصيل الكلام في فلسفة هذا الرجل العظيم وأدبه. وعسى أن أوفق إلى الإفاضة في ذلك من بعد: (إن الذي يعرف إقبالاً يعرف مصيبة العالم الإسلامي والأدب البشري بموته)
عبد الوهاب عزام